سورة الفاتحة - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفاتحة)


        


{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)}
تفسير البسملة:
وأما قوله جل جلاله: {بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم} ففيه نوعان من البحث:
النوع الأول: قد اشتهر عند العلماء أن لله تعالى ألفاً وواحداً من الأسماء المقدسة المطهرة، وهي موجودة في الكتاب والسنّة، ولا شك أن البحث عن كل واحد من تلك الأسماء مسألة شريفة عالية، وأيضاً فالعلم بالاسم لا يحصل إلا إذا كان مسبوقاً بالعلم بالمسمى، وفي البحث عن ثبوت تلك المسميات، وعن الدلائل الدالة على ثبوتها، وعن أجوبة الشبهات التي تذكر فيها نفيها مسائل كثيرة، ومجموعها يزيد على الألوف.
النوع الثاني: من مباحث هذه الآية: أن الباء في قوله: {بِسْمِ اللَّهِ} باء الإلصاق، وهي متعلقة بفعل، والتقدير: باسم الله أشرع في أداء الطاعات، وهذا المعنى لا يصير ملخصاً معلوماً إلا بعد الوقوف على أقسام الطاعات، وهي العقائد الحقة والأعمال الصافية مع الدلائل والبينات، ومع الأجوبة عن الشبهات، وهذا المجموع ربما زاد على عشرة آلاف مسألة.
ومن اللطائف أن قوله: {أَعُوذُ بالله} إشارة إلى نفي ما لا ينبغي من العقائد والأعمال، وقوله: {بِسْمِ اللَّهِ} إشارة إلى ما ينبغي من الاعتقادات والعمليات، فقوله: {بِسْمِ اللَّهِ} لا يصير معلوماً إلا بعد الوقوف على جميع العقائد الحقة، والأعمال الصافية، وهذا هو الترتيب الذي يشهد بصحته العقل الصحيح، والحق الصريح.
نعم الله تعالى التي لا تحصى:


{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}
أما قوله جل جلاله: {الحمد للَّهِ} فاعلم أن الحمد إنما يكون حمداً على النعمة، والحمد على النعمة لا يمكن إلا بعد معرفة تلك النعمة، لكن أقسام نعم الله خارجة عن التحديد والإحصاء، كما قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] ولنتكلم في مثال واحد، وهو أن العاقل يجب أن يعتبر ذاته، وذلك لأنه مؤلف من نفس وبدن؛ ولا شك أن أدون الجزءين وأقلهما فضيلة ومنفعة هو البدن، ثم إن أصحاب التشريح وجدوا قريباً من خمسة آلاف نوع من المنافع والمصالح التي دبرها الله عزّ وجلّ بحكمته في تخليق بدن الإنسان، ثم إن من وقف على هذه الأصناف المذكورة في كتب التشريح عرف أن نسبة هذا القدر المعلوم المذكور إلى ما لم يعلم وما لم يذكر كالقطرة في البحر المحيط، وعند هذا يظهر أن معرفة أقسام حكمة الرحمن في خلق الإنسان تشتمل على عشرة آلاف مسألة أو أكثر، ثم إذا ضمت إلى هذه الجملة آثار حكم الله تعالى في تخليق العرش والكرسي وأطباق السموات، وأجرام النيرات من الثوابت والسيارات، وتخصيص كل واحد منها بقدر مخصوص ولون مخصوص وغير مخصوص، ثم يضم إليها آثار حكم الله تعالى في تخليق الأمهات والمولدات من الجمادات والنباتات والحيوانات وأصناف أقسامها وأحوالها علم أن هذا المجموع مشتمل على ألف ألف مسألة أو أكثر أو أقل، ثم إنه تعالى نبه على أن أكثرها مخلوق لمنفعة الإنسان، كما قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} [الجاثية: 13] وحينئذٍ يظهر أن قوله جل جلاله: {الحمد للَّهِ} مشتمل على ألف ألف مسألة، أو أكثر أو أقل.
أنواع العالم وإمكان وجود عوالم أخرى:
وأما قوله جل جلاله: {رَبّ العالمين} فاعلم أن قوله: {رَبّ} مضاف وقوله: {العالمين} مضاف إليه، وإضافة الشيء إلى الشيء تمتنع معرفتها إلا بعد حصول العلم بالمتضايفين، فمن المحال حصول العلم بكونه تعالى رباً للعالمين إلا بعد معرفة رب والعالمين، ثم إن العالمين عبارة عن كل موجود سوى الله تعالى، وهي على ثلاثة أقسام: المتحيزات، والمفارقات، والصفات.
أما المتحيزات فهي إما بسائط أو مركبات، أو البسائط فهي الأفلاك والكواكب والأمهات، وأما المركبات فهي المواليد الثلاثة، واعلم أنه لم يقم دليل على أنه لا جسم إلا هذه الأقسام الثلاثة، وذلك لأنه ثبت بالدليل أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له، وثبت بالدليل أنه تعالى قادر على جميع الممكنات، فهو تعالى قادر على أن يخلق ألف ألف عالم خارج العالم، بحيث يكون كل واحد من تلك العوالم أعظم وأجسم من هذا العالم، ويحصل في كل واحد منها مثل ما حصل في هذا العالم من العرش والكرسي والسموات والأرضين والشمس والقمر، ودلائل الفلاسفة في إثبات أن العالم واحد دلائل ضعيفة ركيكة مبنية على مقدمات واهية؛ قال أبو العلاء المعري:
يا أيها الناس كم لله من فلك *** تجري النجوم به والشمس والقمر
هين على الله ماضينا وغابرنا *** فما لنا في نواحي غيره خطر
ومعلوم أن البحث عن هذه الأقسام التي ذكرناها للمتحيزات مشتمل على ألوف ألوف من المسائل، بل الإنسان لو ترك الكل وأراد أن يحيط علمه بعجائب المعادن المتولدة في أرحام الجبال من الفلزات والأحجار الصافية وأنواع الكباريت والزرانيخ والأملاح، وأن يعرف عجائب أحوال النبات مع ما فيها من الأزهار والأنوار والثمار، وعجائب أقسام الحيوانات من البهائم والوحوش والطيور والحشرات لنفد عمره في أقل القليل من هذه المطالب، ولا ينتهي إلى غورها كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ مَّا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كلمات الله} [لقمان: 27] وهي بأسرها وأجمعها داخلة تحت قوله: {رَبّ العالمين}.
رحمة الله تعالى بعباده لا تنحصر أنواعها:


{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)}
وأما قوله تعالى: {الرحمن الرحيم} فاعلم أن الرحمة عبارة عن التخليص من أنواع الآفات، وعن إيصال الخيرات إلى أصحاب الحاجات، أما التخليص عن أقسام الآفات فلا يمكن معرفته إلا بعد معرفة أقسام الآفات، وهي كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى، ومن شاء أن يقف على قليل منها فليطالع كتب الطب حتى يقف عقله على أقسام الأسقام التي يمكن تولدها في كل واحد من الأعضاء والأجزاء، ثم يتأمل في أنه تعالى كيف هدى عقول الخلق إلى معرفة أقسام الأغذية والأدوية من المعادن والنبات والحيوان، فإنه إذا خاض في هذا الباب وجده بحراً لا ساحل له.
وقد حكى جالينوس أنه لما صنف كتابه في منافع أعضاء العين قال: بخلت على الناس بذكر حكمة الله تعالى في تخليق العصبين المجوفين ملتقيين على موضع واحد، فرأيت في النوم كأن ملكاً نزل من السماء وقال يا جالينوس، إن إلهك يقول: لم بخلت على عبادي بذكر حكمتي؟ قال: فانتبهت فصنفت فيه كتاباً، وقال أيضاً: إن طحالي قد غلظ فعالجته بكل ما عرفت فلم ينفع، فرأيت في الهيكل كأن ملكاً نزل من السماء وأمرني بفصد العرق الذي بين الخنصر والبنصر؛ وأكثر علامات الطب في أوائلها تنتهي إلى أمثال هذه التنبيهات والإلهامات، فإذا وقف الإنسان على أمثال هذه المباحث عرف أن أقسام رحمة الله تعالى على عباده خارجة عن الضبط والإحصاء.
أحوال الآخرة وتقسيمها إلى عقلية وسمعية:

1 | 2 | 3