الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***
وَقَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (كُلُوا وَاشْرَبُوا، وَالْبَسُوا، وَتَصَدَّقُوا فِى غَيْرِ إِسْرَافٍ، وَلا مَخِيلَةٍ). وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مَا شِئْتَ، وَالْبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ. - وفيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (لا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ). قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَحَدَ شِقَّىْ إِزَارِى يَسْتَرْخِى، إِلا أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَقَالَ عليه السَّلام: (لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلاءَ). - وفيه: أَبُو بَكْرَة، خَسَفَتِ الشَّمْسُ وَنَحْنُ عِنْدَ النَّبِىِّ عليه السَّلام فَقَامَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ مُسْتَعْجِلا حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ... الحديث. قال المؤلف: اختلف أهل التأويل فى معنى هذه الآية، فقال بعضهم: والطيبات من الرزق يعنى: المستلذ من الطعام وقيل: الحلال، وقيل: هو عام فى كل مباح، وقيل: هو فى لبس الثياب فى الطواف، وقال الفراء: كانت قبائل العرب لا يأكلون اللحم أياهم حجهم، ويطوفون عرة فنزلت: (قل من حرم زينة الله التى أخرج لعبادة والطيبات من الرزق) وفى قول النبى صلى الله عليه وسلم: (كلوا وأشربوا من غير أسراف ولا مخيلة) وقول ابن عباس بيان شاف للآية. والسرف والخيلاء محرمان، وقد قال تعالى: {إنه لا يحب المسرفين (و) لا يحب كل مختال فخور (وقال عليه السلام: (لا ينظر الله إلى من جر إزاره خيلاء) وهذا وعيد شديد. وقال أهل العلم فى معناه: لا ينظر الله اليهم نظر رحمة إن أنفذ عليهم الوعيد، فاتقى أمرؤ ربه، وتأدب بأدبه وأدب رسوله وأدب الصالحين، وذلل بالتواضع لله قلبه، وأودع سمعه وبصره وجوارحه بالاستكانة بالطاعة، وتحبب إلى خلقه بحسن المعاشرة، وخالقهم بجميل المخالقة، ليخرج من صفة من لا ينظر لله إليه ولايحبه. والخيلاء والمخيلة: التكبر فى لسان العرب، وفى حديث أبى بكر بيان أن سقط ثوبه بغير قصده وفعله ولم يقصد بذلك الخيلاء فإنه لا حرج عليه فى ذلك، لقوله عليه السلام لأبى بكر: (لست ممن يصنعه خيلاء) ألا ترى أن النبى عليه السلام جر ثوبه حين استعجل المسير إلى صلاة الخسوف، وهو مبين لأمته بقوله وفعله. وقد كان ابن عمر يكره أن يجر الرجل ثوبه على كل حال وهذه من شدائد ابن عمر، لأنه لم تخف عليه قصة أبى بكر وهو الراوى لها، والحجة فى السنة لا فى ما خلفها، وفى قول النبي عليه السلام وفى قول ابن عباس أنه مباح للرجل اللباس من الحسن، والجمال فى جميع أموره إذا سلم قلبه من التكبر به على من ليس له مثل ذلك من اللباس، وقد وردت الآثار بذلك، روى المعافى ابن عمران، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن سواد بن عمرو الانصارى أنه قال: (يا رسول الله، انى رجل حبب إلى الجمال وأعطيت منه ماترى حتى ماأحب أن يفوقنى أحد فى شراك نعلى، أفمن الكبر ذاك؟ قال: لا، ولكن الكبر من بطر الحق وغمص- أو غمنص الناس). ومن حديث عبد الله بن عمر أن النبى عليه السلام قال للذى ساله عن حبه لجمال ثيابه وشراك نعله: هل ذلك من الكبر؟ فقال عليه السلام (لا، ولكن الله جميل يحب الجمال). فإن قيل: فقد روى وكيع، عن أشعث السمان، عن أبى سلام الأعرج، عن على بن أبى طالب قال: إن الرجل ليعجبه شراك نعله أن يكون أجود من شراك صاحبه فيدخل فى قوله تعالى: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علو فى الأرض ولا فسادا} الآية. قال الطبرى: فالجواب أن من أحب ذلك ليتعظم به من سواه من الناس ممن ليس له مثله، فاختال به عليهم واستكبر، فهو داخل فى عدة المستكبرين فى الأرض بغير الحق، ولحقته صفة أهله وأن أحب ذلك سرورًا لجودته وحسنه، غير مريد به الاختيال والتكبر، فإنه بعيد المعنى ممن عناه الله تعالى بقوله: (لا يريدون علو فى الأرض ولا فسادا (بل هو ممن قد اخبر الله تعالى أنه يحب ذلك من فعله، على ماورد فى حديث عبد الله بن عمر. وذكر النائى عن محمد بن العلاء قال: حدثنى أبو بكر بن عياش عن أبى إسحاق، عن أبى الأحوص، عن أبيه قال: (كنت جالسًا عند رسول الله رث الثياب، فقال: ألك مال؟ قلت: يا رسول الله من كل المال. قال: إذا أتاك الله مالا فليرى أثره عليك).
- فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، خَرَجَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فِى حُلَّةٍ مُشَمِّرًا، فَصَلَّى... الحديث. قال المؤلف: التشمر مباح فى الصلاة وعند المهنة والحاجة إلى ذلك بهذا الحديث، وهو من التواضع ونفى التكبر والخيلاء والحله عند العرب ثوبان ظاهر وباطن. وقال صاحب العين: الحله: إزار ورداء، ولا يقال حلة لثوب واحد. قال أبو عبيد: ومما يدل على ذلك حديث عمر، أنه رأى رجلا عليه حلة قد ائتزر بإحدهما وارتدى بالأخرى.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، مِنَ الإزَارِ فَفِى النَّارِ). قال المؤلف: روى عبد الرزاق، عن عبد العزيز بن أبى رواد عن نافعه: أنه سئل عن قوله فى هذا الحديث (ما أسفل من الكعبين ففى النار من الثياب ذلك؟ قال: ما ذنب الثياب، بل هو من القدمين). قال غيره: ولو كان الزار فى النار ما ضر الذى جر ثوبه شىء. ومعنى هذا الحديث عند أهل السنة: إن أنفذ الله عليه الوعيد كان القدمان فى النار.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النّبِىّ عليه السَّلام: (لا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا). - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِى فِى حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ؛ إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ الأرض، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). - وفيه: ابْن عُمَر، عَن النّبِىّ صلى الله عليه وسلم مثله، وقَالَ مرةً: (مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مَخِيلَةً لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). قَالَ شُعْبَةُ: فَقُلْتُ لِمُحَارِبٍ: أَذَكَرَ إِزَارَهُ؟ قَالَ: مَا خَصَّ إِزَارًا، وَلا قَمِيصًا. قال الطبرى: إنما خص الإزار بالذكر فى حديث أبى هريرة- والله أعلم- لأن أكثر الناس فى عهده عليه السلام كانوا يلبسون الإزار والأردية، فلما لبس الناس المقطعات وصار عامة لباسهم القمص والدراريع كان حكمها حكم الإزار، وأن النهى عما جاوز الكعبين منها داخل فى معنى نهيه عليه السلام عن جر الإزار، إذ هما سواء فى المماثلة، وهذا هو القياس الصحيح. قال المؤلف: هذا طريق القياس لو لم يأت نص فى التسوية بينهما، وقد تقدم حديث ابن عمر فى هذا الباب أن النبي عليه السلام قال: (من جر ثوبه من مخيلة لم ينظر الله إليه يوم القيامة) فعم جميع الثياب. وروى أبو داود، عن ابن عمر: (أنه سئل عن حديث الأزار فقال: ماقال رسول الله فى الإزار فهو فى القميص) وقد جاء هذا أيضًا عن النبى عليه السلام روى أبو داود قال: حدثنا هناد بن السرى قال: حدثنا حسين الجعفى، عن عبد العزيز بن أبى رواد، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه-، عن النبى- عليه السلام قال: (الإسبال فى الإزار والعمامة، من جر منها شيئًا لم ينظر الله إليه يوم القيامة). وقوله: (يتجلجل) يعنى: يسوخ ويضطرب، قال صاحب العين: جلجلت الشىء إذا حركته، وكل شىء خلطت بعضه ببعض فقد جلجلته.
وَيُذْكَرُ عَنِ الزُّهْرِىِّ، وَأَبِى بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَحَمْزَةَ بْنِ أَبِى أُسَيْدٍ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُمْ لَبِسُوا ثِيَابًا مُهَدَّبَةً. - فيه: عَائِشَة، جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِىِّ وَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالت: وَاللَّهِ مَا مَعَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلا مِثْلُ هَذِهِ الْهُدْبَةِ، وَأَخَذَتْ هُدْبَةً مِنْ جِلْبَابِهَا. قال المؤلف: ليس فيه أكثر من أن الثياب المهدبة من لباس السلف، وأنه لا بأس به.
وَقَالَ أَنَسٌ: جَبَذَ أَعْرَابِى رِدَاءَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم. - فيه: عَلِىّ، قَالَ: دَعَا النَّبِىُّ عليه السَّلام بِرِدَائِهِ فارتدِى، ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِى، وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ الَّذِى فِيهِ حَمْزَةُ... الحديث. فيه: أن الرداء من لباس النبى عليه السلام غير أنه لم يذكر فى الحديث صفة لباسه له إن كان مشتملا به أو متطيلسا أو على هيئة لباسنا اليوم، وقد روى عن طاوس أنه قال: الشملة من الزينة التى أمر الله بأخذها عند كل مسجد.
وَقَالَ يُوسُفَ: (اذْهَبُوا بِقَمِيصِى هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا} [يوسف: 93]. - فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ رَجُلا سأل النَّبِىّ عليه السَّلام مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ: (لا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلا السَّرَاوِيلَ، وَلا الْبُرْنُسَ...) الحديث. - وفيه: جَابِر، أن النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَتَى عَبْدَاللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ قَبْرَهُ، فَأَمَرَ بِهِ، فَأُخْرِجَ، وَوُضِعَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قال المؤلف: فيه أن لباس القميص من الأمر القديم وكل ما ذكر فى حديث ابن عمر من الراويل والبرانس وغيرها. وذكر أبو داود قال: حدثنا زياد بن أيوب، عن أبى تميله، حدثنا عبد المؤمن بن خالد، عن عبد الله بن بريدة، عن أمه، عن أم سلمه قالت: (كانت أحب الثياب إلى رسول القميص) وقد رواه الفضل بن موسى، عن عبد المؤمن بن خالد، هن ابن بريدة عن أم سلمة، ولم يذكر أمه، قال الترمذى: سمعت البخارى يقول: حديث عبد الله بن بريدة، عن أمه أصح.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَثَلَ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ: (رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، قَدِ اضْطُرَّتْ أَيْدِيهِمَا إِلَى ثُدِيِّهِمَا، وَتَرَاقِيهِمَا، فَجَعَلَ الْمُتَصَدِّقُ كُلَّمَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، انْبَسَطَتْ عَنْهُ، حَتَّى تَغْشَى أَنَامِلَهُ، وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَجَعَلَ الْبَخِيلُ كُلَّمَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ قَلَصَتْ، وَأَخَذَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ بِمَكَانِهَا). قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا فِى جَيْبِهِ، فَلَوْ رَأَيْتَهُ يُوَسِّعُهَا، وَلا تَتَوَسَّعُ. تَابَعَهُ ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَأَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأعْرَجِ فِى الْجُبَّتَيْنِ. وقال حَنْظَلَةُ: سَمِعْتُ طَاوُسًا سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: جُبَّتَانِ، وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ حَيَّانَ، عَنِ الأعْرَجِ: جُبَّتَانِ. قال المؤلف: فى هذا الحديث دليل أن الجيب فى ثياب السلف كان عند الصدر على ماتصنعه النساء اليوم عندنا فى الأندلس، ووجه الدلالة على ذلك أن النبى شبه البخيل والمتصدق برجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما، فتبسط على جسد المتصدق، وتشد على يدى البخيل إذا هم بالصدقة، وتمسكها فى الموضوع الذى اضطراتها إليه، وهو الثدى والتراقى وذلك فى صدره وفيه، يروم أن يوسع حلقها ولاتتسع، يبين ذلك حديث أبى هريرة: (أنا رأيت رسول الله يقول بإصبعه هكذا فى جبته يوسعها ولا تتسع) فبان أن جيبه عليه السلام كان فى صدره، لأنه لوكان فى منكبه لم تكن يداه مضطرة إلى ثديه وتراقيه، وهذا استدلال حسن، وقال ثابت الترقوتان: العظمان المشرفان فى أعلى الصدر إلى طرف ثغره النحر، وهى الهزمة التى بينهما.
- فيه: الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، قَالَ: انْطَلَقَ النَّبِىُّ عليه السَّلام لِحَاجَتِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ فَتَلَقَّيْتُهُ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَامِيَّةٌ، فَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ، فَذَهَبَ يُخْرِجُ يَدَيْهِ مِنْ كُمَّيْهِ، فَكَانَا ضَيِّقَيْنِ، فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْجُبَّةِ فَغَسَلَهُمَا، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَعَلَى خُفَّيْهِ. وترجم له باب جبه الصوف فى الغزو وقال فيه: (وعليه جبه شامية من صوف). فى هذا الحديث دليل أن ثياب السلف فى الحضر لم تكن أكمامها بضيق أكمام هذه الجبة التى لبسها عليه السلام فى سفرة، لأنه لم يذكر عنه عليه السلام أنه أخرج يديه من تحت ثيابه لضيق كميه إلا فى هذه المرة، ولو فعله فى الحضر دائما لنقل ذلك. وذلك دليل أن ثياب السفر أكمش وأخصر من ثياب الخصر، فلباس الأكمام الضيقة والواسعة جائز إذا لم يكن مثل سعه أكمام النساء، لأن زى النساء لا يجوز للرجال استعماله على مايأتى فى كتاب الزينة. وقد كره مالك للرجل سعه الثوب وطوله، وأما لباس الصوف فجائز فى الغزو وغيره إذا لم يرد لابسه به الشهرة، وقد سئل مالك عن لباس الصوف الغليظ، فقال: لا خير فيه فى الشهرة ولو كان يلبسه تارة وينزعه أخرى لرجوت، فأما المواظبة حتى يعرف به ويشتهر فلا أحبه، ومن غليظ القطن ماهو فى ثمنه وأبعد من الشهرة منه، وقد قال عليه السلام للرجل (ليرى عليك مالك). وقال مالك أيضا: لا أكره لباس الصوف لمن لم يجد غيره، وأكرهه لمن يجد غيره، ولأن يخفى عمله أحب إلى، وكذلك كان شأن من مضى، قيل: إنما يريد التواضع يلبسه، قيل: يجد من القطن بثمن الصوف.
- فيه: أَنَس، أنّه كَان يَلبَسُ بُرْنُسًا أَصْفَرَ مِنْ خَزٍّ. - فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ النَّبِىّ قَالَ للْمُحْرِمُ: (لا تَلْبَس الْبَرَانِسَ....) الحديث. قال المؤلف: سئل مالك عن لباس البرانس أتكرهها، فإنها لباس النصارى؟ قال: لا بأس بها، وقد كانت تلبس هاهنا. وقال عبد الله بن أبى بكر: ماكان أحد من القراء إلا له برنس يغدو فيه وخميصة يروح فيها، وأما لباس الخز فقد لبسه جماعة من السلف وكرهه آخرون، فممن لبسه: أبو بكر الصديق، وابن عباس، وأبو قتادة، وابن أبى أوفى، وسعد بن أبى وقاص، وجابر وأنس، وابو سعيد الخذرى، وأبو هريرة، وابن الزبير، وعائشة، ومن التابعين: ابن أبى ليلى، والأحنف، وشريح، والشعبى، وعروة، وأبو بكر عبد الرحمن، وعمر بن عبد العزيز أيام إمارته، وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: لا يعجبنى لبس الخز ولا أحرمه. قال البهرى: إنما كرهه من أجل السرف، ولم يحرمه من أجل من لبسه من الصحابة، وكرهه ابن عمر وسالم والحسن وابن سيرين وسعيد بن جبير، وكان ابن المسيب لا يلبسه ولاينهى عنه. قال على بن زيد: جلست إلى سعيد بن المسيب وعلى جبه خز، فأخذ بكم جبتى وقال: م: ماأجود جبتك. قلت: ومامعنى قد أفسدوها على، قال: ومن أفسدها؟ قلت: سالم. قال: إذا صلح قلبك فالبس ماشئت، فذكرت قوله للحسن، فقال: إن من صلاح القلب ترك الخز.
وَهُوَ الْقَبَاءُ وَيُقَالُ: هُوَ الَّذِى لَهُ شَقٌّ مِنْ خَلْفِهِ. - فيه: الْمِسْوَر، قَالَ: قَسَمَ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم أَقْبِيَةً، وَلَمْ يُعْطِ مَخْرَمَةَ شَيْئًا، فَقَالَ مَخْرَمَةُ: يَا بُنَىِّ، انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَقَالَ: ادْخُلْ فَادْعُهُ لِى، قَالَ: فَدَعَوْتُهُ لَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْهَا، فَقَالَ: خَبَأْتُ هَذَا لَكَ، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: رَضِى مَخْرَمَةُ). - وفيه: عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّهُ قَالَ: (أُهْدِى إلى النّبِىّ عليه السَّلام فَرُّوجُ حَرِيرٍ فَلَبِسَهُ، ثُمَّ صَلَّى فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَنَزَعَهُ نَزْعًا شَدِيدًا كَالْكَارِهِ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: (لا يَنْبَغِى هَذَا لِلْمُتَّقِينَ). قال المؤلف: القباء من لباس الأعاجم، ويمكن أن يكون النبى نزعه من أجل ذلك، فقد روى أبو داود قال: حدثنا عثمان بن أبى شبيبة، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت، حدثنا حسان بن عطية، عن أبى منيب الجرشى، عن ابن عمر قال: قال رسول الله: (من تشبه بقوم فهو منهم) ويمكن أن يكون نزعه من أجل أنه من حرير وقد نهى عليه السلام عن لباس الحرير لذكور أمته وسيأتى بعد هذا.
- فيه: ذكر فيه حديث ابن عباس، وابن عمر أن النبى عليه السَّلام قال: (لاَ يَلبسُ المحرم السراويل). فقد تقدم أن لباس السراويل من الأمر القديم.
- فيه: ابْن عُمَر: قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (لا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْعِمَائَم...) الحديث. قال المؤلف: والعامائم تيجان العرب وهى زيهم، وقد روى أن الملائكة الذى نصروا النبى صلى الله عليه وسلم يوم بدر كانوا بعمائم صفر. قال مالك: العمة والاحتباء والانتعال من عمر العرب، وليس ذلك فى العجم وكانت العمة فى أول الإسلام، ثم لم تزل حتى كان هؤلاء القوم. قال ابن وهب: وحدثنى مالك أنه لم يدرك أحدًا من أهل الفضل: يحى بن سعيد، وربيعة، وابن هرمز إلا وهم يعتمون، ولقد كنت فى مجلس ربيعة، وفيه أحد وثلاثون رجلاً مامنهم رجل إلا وهو معتم وأنا منهم، ولقد كنت أراهم يعتمون فى العشاء والصبح، وكان ربيع لا يدع العمامة حتى يطلع الثريا، وكان يقول: أنى لأجد العمة تزيد فى العقل. قال: وسئل مالك عن الذى يعتم بالعمامة ولا يجعلها من تحت حلقة، فأنكرها، وقال: ذلك من عمل النبط، وليست من عمة الناس إلا أن تكون قصيرة لا تبلغ، أو يفعل ذلك فى بيته أو فى مرضه فلا بأس به، قيل له: فترخى بين الكتفين؟ قال لم أر أحدًا ممن أردكت يرخى بين كتفيه إلا عامر بن عبد الله بن الزبير، وليس ذلك بحرام، ولكن يرسلها بين يديه وهخو أجمل. وقال عامر بن عبد الله: رؤي جبريل فى صورة _ دحية الكلبى، وقد سدل عمامته بين كتفيه. وروى أبو داود حدثنا الحسن بن على، ثنا أبو أسامة عن مساور الوراق، عن جعفر بن عمرو فى حديث عن أبيه قال: (رأيت النبى عليه السلام على المنبر وعليه عمامة سوداء قد ارخى طرفها بين كتفيه). وروى الترمذى عن هارون بن اسحاق قال: حدثنا يحيى بن محمد المننى، عن عبد العزيز بن محمد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: (كان النبى عليه السلام إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه). قال نافع: وكان ابن عمر يفعله. قال عبيد الله: ورأيت القاسم، وسالمًا يفعلان ذلك. قال الترمذى: وهذا حديث حسن غريب.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَرَجَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ عِصَابَةٌ دَسْمَاءُ. وقال أَنَسٌ عَصَبَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم عَلَى رَأْسِهِ حَاشِيَةَ بُرْدٍ. - فيه: عَائِشَةَ، هَاجَرَ نَاسٌ إِلَى الْحَبَشَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا، فَقَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: عَلَى رِسْلِكَ، فَإِنِّى أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَوَ تَرْجُوهُ بِأَبِى أَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى النَّبِى صلى الله عليه وسلم لِصُحْبَتِهِ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ، وَرَقَ السَّمُرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَبَيْنَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِى بَيْتِنَا فِى نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَقَالَ قَائِلٌ لأبِى بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُقْبِلا مُتَقَنِّعًا فِى سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدًا لَكَ أَبِى وَأُمِّى، وَاللَّهِ إِنْ جَاءَ بِهِ فِى هَذِهِ السَّاعَةِ إِلا لأمْرٍ، فَجَاءَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَ، فَأَذِنَ لَهُ فَدَخَلَ فَقَالَ حِينَ دَخَلَ لأبِى بَكْرٍ: أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ، قَالَ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِى أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنِّى قَدْ أُذِنَ لِى فِى الْخُرُوجِ، قَالَ: فَالصُّحْبَةُ بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَخُذْ بِأَبِى أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَى هَاتَيْنِ: قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: بِالثَّمَنِ، قَالَتْ: فَجَهَّزْنَاهُمَا، أَحَثَّ الْجِهَازِ وَضَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِى جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِى بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا، فَأَوْكَأَتْ بِهِ الْجِرَابَ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ تُسَمَّى ذَاتَ النِّطَاقِ، ثُمَّ لَحِقَ النَّبِى عليه السلام وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِى جَبَلٍ، يُقَالُ لَهُ: ثَوْرٌ، فَمَكُثَ فِيهِ ثَلاثَ لَيَالٍ، يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَبِى بَكْرٍ- وَهُوَ غُلامٌ شَابٌّ لَقِنٌ ثَقِفٌ- فَيَرْحَلُ مِنْ عِنْدِهِمَا سَحَرًا، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، فَلا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكَادَانِ بِهِ إِلا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلامُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِى بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ، فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنَ الْعِشَاءِ، فَيَبِيتَانِ فِى رِسْلِهِمَا، حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِى الثَّلاثِ). قال المؤلف: التقنع للرجل عند الحاجة مباح، وقال ابن وهب: سألت مالكا عن التقنع بالثوب. فقال: أما الرجل يجد الحر والبرد أو الأمر الذى له فيه عذر فلا بأس به، ولقد كان أبو النضر يلزم ذلك، لبرد يجده ومابذلك بأس، وذكر ابن أبى زيد عن مالك قال: رأت سكينة بنت الحسين بعض ولدها مقنعًا راسه قالت: اكشف عن رأسك فإن القناع ريبة بالليل، ومذلة بالنهار. وماأعلمه حرامًا ولكن ليس من لباس خيار الناس. وقال البهزى: إذا تقنع لدفع مضرة فذلك مباح، وأما لغير ذلك فإنه يكره، لأنه من فعل أهل الريب ويكره أن يفعل شيئًا يظن به الريبة، وليس ذلك من فعل من مضى. قال المؤلف: وقد مر كثير من معانى هذا الحديث فى غير موضع من هذا الكتاب، منها فى كتاب البيوع، فى باب من أشترى متاعًا أو دابة فوضعه عند البائع فضاع أو مات قبل أن يقبض، وفى كتاب الاجارة فى باب استئجار المشركين عند الضرورة، وذكره فى كتاب الأدب، فى باب هل يزور صاحبه كل يوم أو بكرة وعشية؟. وذكر البخارى هذا الحديث فى أبواب الهجرة مما لم أشرحه فى هذا الكتاب بزيادة الفاظ لم تأت فى هذا الحديث ونذكر هنا جملة من معانية، فأول ذلك ماذكره الطبرى قال: فيه الدليل الواضح على ما خص الله به صديق نبيه عليه السلام من الفضيلة والكرامة، ورفع المنزلة عنده، وذلك اختياره إياه دون سائر وعشيرته، لموضع سره وخفى أموره التى كان يخفيها عن سائر أصحابه، ولصحبته فى سفره، إذ لم يعلم أحد بكونه عليه السلام فى الغار أيام مكثه فيه غير أبى بكر وحاشيته من ولد له ومولى وأجير. ولاصحبه فى طريقه غير خصص، خصص له لذلك دون قرابة رسول الله، فتبين بذلك منزلته عنده، ودل على اختياره أياه، لأمانته على رسول الله- عليه السلام. قال المؤلف: وفيه المعنى الذى استحق به أبو بكر أن سمى صديقًا، وذلك أنه حبس نفسه على رسول الله، لقوله: (أرجو أن يؤذن لى فى الهجرة) فصدقه ولم يرتب بقوله، وأيقن أن مارجاه لا يخيب ظنه فيه لما كان جربه عليه من الصدق فى جميع أموره، وتكلف النفقة على الراحلتين، فأعد إحداهما لرسول الله وبذل ماله كما بذل نفسه فى الهجرة معه، ولذلك قال عليه السلام: (ليس أحد أمن على فى نفسه وماله من أبى بكر). وفيه: أن المرء ينبغى له التحفظ بسره ولايطلع عليه إلا من تطيب نفسه عليه، لقوله لأبى بكر: (أخرج من عندك) ليخبره بخروجه مخليا به، فلما قال له الصديق رضى الله عنه: إنما هم أهلك. وعلم أن شفقتهم عليه كشفقة اهله أطلعه حينئذ على سره، وأنه قد أذن له فى الخروج، فبدر أبو بكر وقال لرسول الله: الصحبة؟ قبل أن يساله ذلك رسول الله وهذا من أبلغ المشاركة وأعظم الواء لرسول الله. وفيه اتخاذ الفضاء والصالحين الزاد فى أسفارهم، ورد قول من أنكر ذلك من الصوفية، وزعم أن من صح توكله ينزل عليه طعام من السماء إذا احتاج إليه، ولا أحد أفضل من رسول الله ولا من صاحبه وصديقه وهما كانا أولى بهذه المنزلة، ولو كان كما زعموا مااحتاجا إلى سفرة فيها طعام. قال الطبرى: وفى استخفاء نبى الله وأبى بكر فى الغار عندما أراد المشركون المكر بنبيه وقتله كما وصفه الله تعالى فى كتابه بقوله: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك (الآيه فدخل عليه السلام مع صاحبه فى الغار حتى سكن عند الطلب ويئسوا منه ثم ارتحل متوجهًا إلى المدينة، وكان فعله ذلك حذرًا على نفسه من المشركين، فبان بذك، إذ صح فعله أنه عن أمر ربه إياه أن الحق على كل مسلم الهرب مما لا قوام له به، وترك التعرض لما لا طاقة له به،) ولو شاء الله (أن يعمى جميع المشركين يومئذ حتى لا يقدروا على رؤيته، أو يخسف بهم أجمعين حتى ينفرد رسول الله وأصحابه بالمكث فى بلدهم لكان ذلك هينًا عليه. فلم يفعل ذلك تعالى مع قدرته عليه، ليبلغ الكتاب أجله بل أمر نبيه وصاحبه بالدخول فيه، ليكون ذلك سنة لخلقه إذا رأوا منكرًا يجب تغييره فعجزوا عن القيام بتغييره وكانوا فى فسحة من ترك التعرض لما لا قبل لهم من الخوف على مهجهم ودينهم والزوال عنه، وبان ذلك فساد قول قول من قال: إن على كل من رأى منكرًا تغييره وإن فى ذلك هلاك نفسه وماله، وإن لم يفعل ذلك كان مضيعًا فرضًا لله. ووضح خطأ من حمل وحده على عسكر من المشركين وله إلى ترك ذلك سبيل مع خوفه على نفسه، وبان فساد قول من زعم أنه من استجن بجنة فى حرب أو لجأ إلى حصن من عدو غالب أو أتخذ غلقًا لباب من لص أو أعد زادًا لسفر أنه قد برىء من التوكل، لأن الضر والنفع بيد الله وقد أمر الله نبيه بالدخول فى الغار ولاختفاء فيه من شرار خلقه، وكان من التوكل على ربه فى الغاية العليا. وفيه الدليل الواضح على فساد قول من زعم أن من خاف شيئًا سوى الله فلم يوقن بالقدر، وذلك أن الصديق قال لرسول الله: (لو أن أحدكم رفع قدمه لأبصرنا). حذرًا أن يكون ذلك من بعضهم فيلحقه ورسول الله من مكروه، ذلك ماحذره وبذلك أخبر الله تعالى- عنه فى كتابه بقوله: (إلا تنصروه فقد نصره الله (فلم يصفه الله و لا رسوله بذلك من قوله بضعف اليقين، بل كان من اليقين لقضاء الله وقدرة فى أعلى المنازل، ولكن قال ذلك إشفاقا على رسول الله، وكان حزنه بذلك مع علمه أن الله بالغ أمره فيه وفى رسوله وفى نصر دينه، فجمع الله له بذلك صدق اليقين، وأجر الجزع على الدين، وثواب الشفقة على الرسول، ليضعف له بذلك الأجر، وكان ذلك منه مثل ماكان من موسى نبى الله إذ أوجس فى نفسه خيفة مما أتت به السحرة، حين خيل إليه أن حبالهم وعصيهم تسعى، فقال الله له: (لا تخف إنك أنت الأعلى) ولا شك أن موسى كان من العلم بالله وصدق اليقين بنفوذ قضائه فيه ما لا يلتبس أمره على ذى عقل يؤمن بالله ورسوله، وكذلك الذى كان من أمر أبى بكر. وقوله عليه السلام لأبى بكر ماظنك بأثنين الله ثالثهما. يعنى: أن الله ثالثهما بالحفظ لهما والكلأ، ولم يرد أنه يعلم مكانهما فقط كما قال تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثه إلا هو رابعهم (الآيه، ويدل أنه أراد أن الله ثالثهما بالحفظ، قوله تعالى: {لا تحزن إن الله معنا (أى: يحفظنا ويكلؤنا ويحفظنا، ولو أراد يعلمنا لم يكن فيه له عليه السلام ولا لصاحبه فضيلة على أحد من الناس، لأن الله تعالى شاهد كل نجوى وعالم بها، وإنما كان فضيلة له ولصاحبه حين كان الله ثالثهما بأن صرف عنهما طلب المشركين وأعمى ابصارهم وسيأتى فى كتاب التمنى معنى قوله: لو أن أحدهم رفع قدمه لبصرنا، فى باب مايجوز من اللو ان شاء الله تعالى. وقد تقدم شرح العصابة الدسماء فى أبواب صلاة الجمعة فى باب من قال فى الخطبة بعد الثناء: أما بعد، فأغنى عن إعادته. وقوله: (إن جاء به هذه الساعة لأمر) إن هاهنا مؤكدة، و (اللام) فى قوله: (لأمر) لام التأكيد، كقوله تعالى: {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال (فى قراءة من فتح اللام وهو الكسائى وقوله: (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك (وقوله: (وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين (، هذا قول سيبويه والبصريين، وأما الكوفيون فيجعلون إن هاهنا نافيه بمعنى ما، والمعنى إلا، والتقدير عندهم ماجاء به إلا أمر، وماوجدنا أكثرهم إلا فاسقين، وما يكاد لذين كفروا إلا ليزلقونك. وهذه دعوى يحتاج فيها إلى حجة قاطعة، واخراج الكلام عن موضوعه لا يصح إلا إذا بطل معنى نسفه وموضوعه، وقد صح المعنى فى نسقه وقال صاحب الافعال: يقال علفت الدابه، وأعلفتها، واللغة الأولى أفصح. وقوله: لقن ثقف. فالقن: الفهم يقال: لقن الشىء لقنًا ولقانه عقل وذكا، والثقف مثله، يقال: ثقف الحديث: أسرعت فهمه، وثقفت الشىء: أجدته، ومنه قوله تعالى: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم (وأكثر كلام العرب ثقف لفف، وثقف لفف أى: راو شاعر رام، وهذا إتباع، عن الخليل والرسل بكسر الراء: اللبن ونعق ينعق بالغنم إذا صاح بها، عن الخليل وقد تقدم فى فضل المدينة فى آخر كتاب الحج.
- فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ، وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ. المغفر من حديد، وهو من آلات الحرب ودخوله به عليه السلام يوم الفتح كان فى حال القتال، ولم يكن محرما كما قال ابن شهاب. وقال بعض المتعسفين على مالك: إن هذا الحديث لم يتابع عليه مالك عن ابن شهاب، وإنما الصحيح فيه أنه دخل يوم الفتح وعليه عمامة سوداء، ولم يكن عليه مغفر، واجتجوا بما رواه الترمذي عن محمد بن _ بشار قال: حدثنا عن الرحمن بن مهدى، عن حماد بن سلمه، عن أبى الزبير، عن جابر (أن النبى عليه السلام دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء). قال الترمذى: وهذا حديث حسن. قال المؤلف: وهذا تعسف على مالك، وقد وجدت فى حديث الزهرى تصنيف النسائى أن الأوزاعى روى هذا الحديث عن الزهرى، كما رواه مالك وذكر فيه المغفر، وقد يمكن أن يكون عليه السلام عليه مغفر وتحتة عمامة سوداء، لتتفق الروايات، وسواء دخل عليه السلام مكة بمغفر أو بعمامة سوداء فحكمهما سواء ولا حرج عليه فى ذلك، لأنه دخلها كذلك فى الساعة التى أحلت له ولم تحل لأحد قبله ولابعده، ثم هى حرام إلى يوم القيامة. وإنما اتخذ عليه السلام مغفرًا وتسلح به فى حال الحرب، وقد أخبر الله تعالى أن الله يعصمه من الناس، ليس ذلك لأمته ويقتدى به الأئمة والصالحون.
وَقَالَ خَبَّابٌ: شَكَوْنَا إِلَى النَّبِى صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ. - فيه: أَنَس، قَالَ: كُنْتُ أَمْشِى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِىٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِىٌّ، فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثم قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ لِى مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِى عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ ضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ. - وفيه: سَهْل، جَاءَتِ امْرَأَةٌ بِبُرْدَةٍ- قَالَ سَهْلٌ: هَلْ تَدْرِى مَا الْبُرْدَةُ؟ قَالَ: نَعَمْ، هِى الشَّمْلَةُ مَنْسُوجٌ فِى حَاشِيَتِهَا- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى نَسَجْتُ هَذِهِ بِيَدِى أَكْسُوكَهَا فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا، وَإِنَّهَا لإزَارُهُ، فَجَسَّهَا رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اكْسُنِيهَا، قَالَ: (نَعَمْ)، فَجَلَسَ مَا شَاءَ اللَّهُ فِى الْمَجْلِسِ، ثُمَّ رَجَعَ فَطَوَاهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ سَأَلْتَهَا إِيَّاهُ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لا يَرُدُّ سَائِلا، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهَا إِلا لِتَكُونَ كَفَنِى يَوْمَ أَمُوتُ. قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ. - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِى زُمْرَةٌ هِىَ سَبْعُونَ أَلْفًا، تُضِىءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ الْقَمَرِ)، فَقَامَ عُكَاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الأسَدِىُّ، يَرْفَعُ نَمِرَةً عَلَيْهِ، قَالَ: ادْعُ اللَّهَ لِى يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَنِى مِنْهُمْ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ...) الحديث. - وفيه: أَنَس، كَانَ أَحَبَّ الثِّيَابِ إِلَى النَّبِىِّ عليه السَّلام يَلْبَسَهَا الْحِبَرَةُ. - وفيه: عَائِشَةَ، أن النَّبِى صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّىَ سُجِّىَ بِبُرْدٍ حِبَرَةٍ. البرود هى: برود اليمن تصنع من قطن وهى الحبرات يشتمل بها وهى كانت أشرف الثياب عندهم، إلا ترى انه عليه السلام سجى بها حين توفى، ولو كان عندهم أفضل من البرود شىء لسجي به. وفيه: جواز لباس الثياب للصالحين رفيع الثياب للصالحين وذلك داخل فى معنى قوله تعالى: {قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده} الآية. وفى حديث أنس ما جبل عليه السلام عليه من شريف الأخلاق وعظيم الصبر على جفاء الجهال والصفح عنهم والدفع بالتى هى احسن، إلا ترى أنه ضحك حين جبذه الاعرابى، ثم امر له بعطاء ولم يؤاخذه. وفيه حديث سهل كرم النبى عليه السلام وإثاره على نفسه ولو كان فى حال حاجة أخذًا بقوله تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}. وفيه أنه ينبغى التبرك بثياب الصالحين ويتوسل بها إلى الله فى الحياة والممات. وفيه جواز أخذ الهدية للرجل الكبير مما هو دونه إذا علم طيب ما عنده. وفيه جواز من سال الإمام والخليفة ماعليه من ثيابه وسيأتى معنى قوله: (سبقك بها عكاشة). فى كتاب الطب، فى باب من اكتوى وفضل من لم يكتو إن شاء الله- تعالى والنمرة والبرد سواء.
- فيه: ابْن عَبَّاس، وَعَائِشَةَ، لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا. - وفيه: عَائِشَةَ، أنها أَخْرَجَتْ وَإِزَارًا غَلِيظًا، وَكِسَاءً، وَقَالَتْ: قُبِضَ رُوحُ النَّبِىِّ عليه السَّلام فِى هَذَيْنِ. - وفيه: عَائِشَةَ، صَلَّى النّبِىّ عليه السَّلام فِى خَمِيصَةٍ لَهُ لَهَا أَعْلامٌ، فَنَظَرَ إِلَى أَعْلامِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا سَلَّمَ، قَالَ: (اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِى هَذِهِ إِلَى أَبِى جَهْمٍ، فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِى عَنْ صَلاتِى آنِفًا، وَأْتُونِى بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِى جَهْمِ). الخمائص: أكسية من صوف سود مربعة بها أعلام، كانت من لباس السلف. وقال الأصمعى: الخمائص ثياب من خز أو صوف معلمه وهى سود، وقد تقدم فى كتاب الصلاة.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، نَهَى النَّبِىُّ عليه السَّلام عَن اشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ. - وفيه: أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ، نَهَى النّبِىّ عليه السَّلام عَنْ لِبْسَتَيْنِ، اشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ- وَالصَّمَّاءُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوْبَهُ عَلَى أَحَدِ عَاتِقَيْهِ، فَيَبْدُو أَحَدُ شِقَّيْهِ لَيْسَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ- وَاللِّبْسَةُ الأخْرَى احْتِبَاؤُهُ بِثَوْبِهِ، وَهُوَ جَالِسٌ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَىْءٌ. وقد تقدم فى كتاب الصلاة.
- فيه: عِكْرِمَةَ: أَنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ الزَّبِيرِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَعَلَيْهَا خِمَارٌ أَخْضَرُ، فَشَكَتْ إِلَيْهَا، وَأَرَتْهَا خُضْرَةً بِجِلْدِهَا، فَلَمَّا جَاءَ النّبِىّ عليه السَّلام قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ مَا تَلْقَى الْمُؤْمِنَاتُ لَجِلْدُهَا أَشَدُّ خُضْرَةً مِنْ ثَوْبِهَا، قَالَ: وَسَمِعَ أَنَّهَا قَدْ أَتَته، فَجَاءَ وَمَعَهُ ابْنَانِ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لِى إِلَيْهِ مِنْ ذَنْبٍ، إِلا أَنَّ مَا مَعَهُ لَيْسَ بِأَغْنَى عَنِّى مِنْ هَذِهِ، وَأَخَذَتْ هُدْبَةً مِنْ ثَوْبِهَا، فَقَالَ: كَذَبَتْ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى لأنْفُضُهَا نَفْضَ الأدِيمِ، وَلَكِنَّهَا نَاشِزٌ تُرِيدُ رِفَاعَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (فَإِنْ كَانَ ذَلِكِ لَمْ تَحِلِّى لَهُ- أَوْ لَمْ تَصْلُحِى لَهُ- حَتَّى يَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِكِ)، قَالَ: وَأَبْصَرَ مَعَهُ ابْنَيْنِ لَهُ، فَقَالَ: (بَنُوكَ هَؤُلاءِ)؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (هَذَا الَّذِى تَزْعُمِينَ مَا تَزْعُمِينَ، فَوَاللَّهِ لَهُمْ أَشْبَهُ بِهِ مِنَ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ). قال المؤلف: الثياب الخضر من لباس أهل الجنة قال تعالى: {ويلبسون ثيابا خضرًا من سندس وإستبرق}. كفى بهذا شرفًا للخضرة وترغيبًا فيها. وقال هشام بن عروة قال: رايت على عبد الله بن الزبير مطرقا من خز أخضر كسته أياه عائشة، وروى أبو داود حديثًا عن أبى رمثة قال: (انطلقت مع أبى إلى النبي عليه السلام فرأيت عليه بردان أخضران). فيه أن للرجل ضرب زوجته عند نشوزها عليه، وإن اثر ضربه فى جلدها ولا حرج عليه فى ذلك، إلا ترى أن عائشة قالت للنبى عليه السلام: (لجلدها أشد خضرة من ثوبها) ولم ينكر ذلك النبى. وفيه أن للنساء أن يطالبن أزواجهن عند الامام بقله الوطء وأن يعرضن بذلك تعريضًا بينًا كالتصريح ولا عار عليهن فى ذلك. وفيه أن للزوج إذا ادعى عليه ذلك أن يخبر بخلاف ويعرب عن نفسه ألا ترى قوله: (يا رسول الله، إنى لانفضها نفض الأديم) وهذه الكناية من الفصاحة العجيبة، وهى أبلغ فى المعنى من الحقيقة. وفيه الحكم بالدليل، لقوله عليه السلام فى أبنيه: (لهم أشبه به من الغراب بالغراب) فاستدل عليه السلام بشبهها على كذبها، ودعواها وقد تقدم هذا الحديث فى كتاب الطلاق فى باب إذا طلقها ثلاثًا ثم تزوجت بعد العدة زوجًا فلم يمسها.
- فيه: سَعْدٍ، قَالَ: رَأَيْتُ بِشِمَالِ النَّبِىِّ عليه السَّلام وَيَمِينِهِ رَجُلَيْنِ، عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ يَوْمَ أُحُدٍ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلا بَعْدُ. - وفيه: أَبُو ذَرٍّ، رأيْتُ النَّبِى صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ، وَهُوَ نَائِمٌ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ، فَقَالَ: (مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ، إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ)، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قُلْتُ ذَلِكَ ثلاثًا، قَالَ لى: كذلِك، عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِى ذَرٍّ. وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا، قَالَ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِى ذَرٍّ. قال المؤلف: الثياب البيض من أفضل الثياب وهو لباس الملائكة الذين نصروا النبى عليه السلام يوم أحد وغيره، والرجلان اللذان كانا يوم أحد عن يمين النبى وعو شماله كانا ملكين، والله أعلم. وكان عليه السلام يلبس البياض ويفضله، ويحض على لباسه الأحياء، ويأمر بتكفين الأموات فيه. روى أبو داود قال: حدثنا أحمد بن يونس قال: ثنا زهير، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله: (ألبسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم). وأما قوله فى حديث أبى ذر: (من قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك دخل الجنة وإن زنا وإن سرق). وقول البخارى: فقال هذا عند الموت إذا تاب وندم وقال: لا إله إلا الله، غفر له. هذا تفسير يحتاج إلى تفسير آخر، وذلك أن التوبة والندم إنما تنفع فى الذنوب التى بين العبد وبين ربه، فأما مظالم العباد فلا تسقطها عنه التوبة. ومعنى الحديث أن من مات على التوحيد أنه يدخل الجنة وإن ارتكب الذنوب، ولا يخلد فى النار بذنوبه كما يقوله الخوارج وأهل البدع، وقد تقدم- فى حديث معاذ أن النبى عليه السلام قال له: (ما من أحد يشهد أن لا إله ألا الله وأن محمدًا رسول الله صادقا من قلبه إلا حرمه الله على النار) هذا المعنى مبينًا فى كتاب العلم فى باب من خص بالعلم قومًا دون قوم. فإن قال قائل: فى ظاهر قول البخارى هذا أنه لم يوجب المغفرة إلا لمن تاب، فظاهر هذا يوهم إنقاذ الوعيد لمن لم يتب. قيل له: إنما البخارى ماأراده وهب بن منبه بقوله فى مفتاح الجنة فى كتاب الجنائز: أن تحقيق ضمان وعد النبى عليه السلام لمن مات لا يشرك بالله أو لمنم قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك، أنه إنما يتحصل لهم دون مدافعه عن دخول الجنة، ولاعذاب ولاعقاب إذا لقوا الله تائبين أو عاملين بما أمر به، فأولئك يكونون أول الناس دخولا الجنة أو قبلهم تباعات للعباد، فلا بدا أيضًا لهم من دخول الجنة بعد إنقاذ الله مشيئته فيهم من عذاب أو مغفرة.
- فيه: أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِىَّ، أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ، وَنَحْنُ مَعَ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ بِأَذْرَبِيجَانَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْحَرِيرِ إِلا هَكَذَا- وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ اللَّتَيْنِ تَلِيَانِ الإبْهَامَ- قَالَ: فِيمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ يَعْنِى الأعْلامَ. - وَقَالَ مرة: إن عُمَر كَتَبَ إلى عُتْبَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام قَالَ: (لا يُلْبَسُ الْحَرِيرُ فِى الدُّنْيَا، إِلا لَمْ يُلْبَسْ فِى الآخِرَةِ مِنْهُ). - وفيه: حُذَيْفَةُ أنه اسْتَسْقَى، فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِمَاءٍ فِى إِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ، فَرَمَاهُ بِهِ، وَقَالَ: إِنِّى لَمْ أَرْمِهِ إِلا أَنِّى نَهَيْتُهُ، فَلَمْ يَنْتَهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْحَرِيرُ وَالدِّيبَاجُ، هِىَ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِى الآخِرَةِ). - وفيه: أَنَس، َعَنِ النَّبِى عليه السَّلام، قَالَ: مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِى الدُّنْيَا، لم يَلْبَسَهُ فِى الآخِرَةِ). قَالَ شُعْبَةُ: فَقُلْتُ: أَعَنِ النَّبِىِّ، عليه السّلام؟... الحديث. - وفيه: ابْنَ عُمَر، عن عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِى الدُّنْيَا مَنْ لا خَلاقَ لَهُ فِى الآخِرَةِ). قال الطبرى: اختلف أهل العلم فى معنى هذه الأخبار فقال بعضهم بعموم خبر عمر، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما يلبس الحرير فى الدنيا من لا خلاق له فى الآخرة). وقال: الحرير كله حرام، قليله وكثيره، مصمتًا كان أو غير مصمت، فى الحرب وغيرها على الرجال والنساء، لأن التحريم بذلك قد جاء عاما فليس لأحد أن يخص منه شيئًا، لأنه لم يصح بخصوصه خبر. وقال آخرون: بل هذه الأخبار التى وردت عن النبى عليه السلام بالنهى عن لبس الحرير أخبار منسوجة، وقد رخص فيه رسول الله بعد النهى عن لبسه وأذن لأمته فيه. وقال آخرون ممن قال بتحليل لبسه: ليست هذه الأخبار منسوجة، ولكنها بمعنى الكراهة لا بمعنى التحريم. وقال آخرون: بل هذه الأخبار وإن كانت وردت بالنهى عن لبس الحرير فإن المراد بها الخصوص، وإنما أريد بها الرجال دون النساء، وماعنى به الرجال من ذلك فإنما هو ماكان منه حريرًا مصمتًا، فأما مااختلف سداه ولحمته أو كان علمًا فى ثوب فهو مباح. وقال آخرون ممن قال بخصوص هذه الأخبار: إنما عنى بالنهى عن لبس الحرير فى غير لقاء العدو، فأما عند لقاء العدو فلا بأس يلبسه مباهاة وفخرًا. ذكر من قال: إن النهى عن الحرير على العموم: روى عطاء، عن عبد الله مولى أسماء قال: (أرسلت اسماء إلى ابن عمر أنه بلغنى انك تحرم العلم فى الثوب. قال: إن عمر حدثنى أنه سمع النبى عليه السلام يقول: من لبس الحرير فى الدنيا لم يلبسه فى الآخرة. وأخاف أن يكون العلم فى الثوب من لبس الحرير). قال أبو عمرو الشيبانى: (رأى على بن أبى طالب على رجل جبه طيالسه قد جعل على صدره ديباجًا، فقال: ماهذا النتن تحت لحييك. قال: لا تراه على بعدها). وعن أبى هريرة أنه رأى رجل لبنه حرير فى قميصه فقال: (لو أزرار ديباج فقال: تتقلد قلائد الشيطان فى عنقك). وعن الحسن البصرى أنه يكره قليل الحرير وكثيره للرجال والنساء حتى الأعلام فى الثياب. وكره بن سيرين العلم فى الثوب وقال: الدليل على عموم التحريم قوله عليه السلام: (من لبسه فى الدنيا لم يلبسه فى الآخرة). ومن قال: المراد بالنهى عن لباس الحرير الرجال دون النساء ورخص فى الأعلام. وروى عن حذيفة (أنه رأى صبيانًا عليهم قمص حرير فنزعها عنهم وتركها على الجوارى). وعن ابن عمر (أنه كان يكره الحرير للرجال، ولا يكرهه للنساء) وعن عطاء مثله. واحتج الذين أجازوه للنساء بما رواه عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن سعيد بن أبى هند، عن أبى موسى الشعرى قال: قال رسول الله: (أحل لأناث أمتى الحرير والذهب، وحرم على ذكروهم)، وكان ابن عباس لا يرى بأسًا بالأعلام، وقال عطاء: إذا كان العلم إصبعين أو ثلاثة مجموعة فلا بأس به. وكان عمر بن عبد العزيز يلبس الثوب سداه كتان وقيامه حرير، وأجازه ابن أبى ليلى، وقال أبو حنيفة: لا بأس بالخز وإن كان سداه إبريسم، وكذلك لا بأس بالخز، وإن كان مبطنًا بثوب حرير، لأن الظاهر الخظ وليس الظاهر الحرير، ولابأس بحشو القز. وقال الشافعى: إن لبس رجل قباء محشوًا قزًا فلا بأس به، لأن الحشو باطن، وإنما إظهار القز للرجال. وكان النخعى يكره الثوب سداه حرير، وقال طاوس: دعه لمن هو أحرص عليه. وسئل الأوزاعى عن السيجان الواسطية التى سداها قز، فقال: لا خير فيها. قال غير الطبرى: وكان مالك يعجبه ورع ابن عمر، فلذلك كره لباس الخز، قال مالك: إنما كره الخز، لأن سداه حرير. ذكر من قال: إن الأخبار الواردة بتحريم لبس الحرير منسوجة بإذنه للزبير بن العوام فى ذلك، وأن لباسه جائز فى الحرب وغيرها. روى معمر، عن ثابت، عن أنس قال: لقى عمر عبد الرحمن بن عامر بن ربيعة قال: (شهدت عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وعليه قميص حرير، فقال: ياعبد الرحمن، لا تلبس الحرير والديباج فإنه ذكر لى أن من لبسه فى الدنيا لم يلبسه فى الآخرة). وروى ابن أبى ذئب، عن سفينة مولى ابن عباس قال: (دخل المسور بن محرمة على ابن عباس يعوده، وعلى ابن عباس ثوب إستبرق وبين يديه كانون عليه تماثيل فقال: ماهذا اللباس عليك؟ قال: ماشعرت به وما أظن النبى نهى عنه إلا للتكبر والتجبر، ولسنا كذلك بحمد الله، قال: وماهذه التماثيل؟ قال: أما تراها قد أحرقناها بالنار، فلما خرج المسور قال ابن عباس: ألقوا هذا الثوب عنى، واكسروا هذه التماثيل، وبيعوا هذا الكانون). وعن جبير بن حية أنه اشترى جارية عليها قباء من ديباج منسوج بذهب، فكان يلبسه، فكأن اصحابه عابوا عليه ذلك، فقال: أنه يدفئنى، وألبسه فى الحرب. قال الطبرى: والصواب فى حديث عمر عن النبى- عليه السلام أنه على الخصوص، وقوله: (إنما هذه لباس من لا خلاق له يعنى: من الحرير المصمت من الرجال، فى غير حال المرض والحرب، لغير ضرورة دعته إلى لبسه تكبرًا واختيالا فى الدنيا لم يلبسه فى الآخرة، ولباس ذلك كذلك لباس من لا خلاق له. وإنما قلنا عنى به من الحرير المصمت، لقيام الحجة بالنقل الذى يمتنع منه الكذب أنه لا بأس بلبس الخز، والخز لا شك سداه حرير ولحمته وبر، فإذا كانت الحجة ثابتة بتحليله، فسبيل كل مااختلف سداه ولحمته سبيل الخز، أنه لا بأس به فى كل حال للرجال والنساء، وإنما قلنا عنى به كان ثوبًا دون ماكان علمًا فى ثوب، لصحة الخبر عن النبى عليه السلام أنه استثنى من الحرير، إذ نهى عن لبسه ماكان منه قدر أصبعين أو ثلاث أو أربع. وقال عنى به من لم تكن به عله تضطرة إلى لبسه، لصحة الخبر عن النبى عليه السلام أنه ارخص للزبير بن العوام فى الحرير وعبد الرحمن لحكه كانت بجلودهما فكان معلومًا بذلك، إذ كل عله كانت بالإنسان يرجى بلبس الحرير خفتها أن له لبسه معها، وأن من كانت بالأنسان يرجى بلبس الحرير خفتها أن له لبسه معها، وأن من قصد إلى دفع ماهو أعظم أذى من الحكة وذلك كأسلحة العو، أن له من ذلك ماكان لعبد الرحمن والزبير بسبب الحكة. وقلنا: الخبر خاص للرجال دون النساء، لصحة خبر أبى موسى عن النبى عليه السلام أنه قال: (الذهب والحرير حرام على ذكور أمتى، حل لإناثها). فبان أن جميع الأخبار المروية فى الحرير غير دافع منها خبر غيره، ولاناسخ فيها ولامنسوخ، ولكن يعضد بعضها بعضًا، وقد تقدم فى كتاب الجهاد واختلاف العلماء فى لباس الحرير فى الحرب. قال الطبرى: واختلفوا فى قوله: (إنما يلبسها من خلاق له فى الآخرة) وقال آخرون: ما له فى الآخرة من وجهة. وقال آخرون: ما له فى الآخرة. وقال غير الطبرى: قوله: (إنما يلبسها من لا خلاق له فى الآخرة) يعنى: أنه من لباس المشركين فى الدنيا، فينبغى أن لا يلبسه المؤمنون.
- فيه: الْبَرَاء، أُهْدِىَ لِلنَّبِىِّ عليه السَّلام ثَوْبُ حَرِيرٍ، فَجَعَلْنَا نَلْمُسُهُ، وَنَتَعَجَّبُ مِنْهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (أَتَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا)؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: (مَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِى الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا). قال المؤلف: ليس النهى الحرير من أجل نجاسة عينه فيحرم لمسه باليد، وإنما نهى عن لبسه من أجل أنه ليس من لباس المتقين، وعينه مع ذلك طاهرة، فلذلك جاز لمسه والانتفاع بثمنه.
- فيه: حُذَيْفَةَ، نَهَانَا النَّبِىُّ عليه السَّلام أَنْ نَشْرَبَ فِى آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، أَوْ نَأْكُلَ فِيهَا، وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ. قال المؤلف: هذا الباب رد من أجاز افتراش الحرير والارتفاق به، وهو قول عبد العزيز بن أبى سلمه، وروى وكيع، عن مسعر، عن راشد مولى بنى تميم قال: رايت فى مجلس ابن عباس مرفقة حرير. والجمهور على خلافه، وحجتهم حديث حذيفة أن النبى عليه السلام نهى عن لباس الحرير وعن الجلوس عليه، وهذا نصر فى المسالة، ولو عدمنا هذا النص لاستدللنا على أن الافتراش والجلوس لباس من حديث أنس فى الحصير الذى اسود من طول ما لبس. وقد روى وهب، عن ابن لهيعة، عن أبى النضر ان عبد الله ابن عامر صنع صنيعًا، فدعا الناس وكان فيهم سعد بن أبى وقاص، فلما أتى أمر بمحبس من حرير كان على سريره فنزع، فلما دخل قال له ابن عامر ياأبا إسحاق، إنه كان على السير محبس من حرير فلما سمعنا بك نزعناه. قال سعد: لأن أقعد على جمر الغضا أحب إلى من أن أقعد على محبس من حرير.
وَقَالَ عَلِىّ بْن أَبِى طالب: (الْقَسِّيَّةُ)، ثِيَابٌ أَتَتْنَا مِنَ الشَّامِ- أَوْ مِنْ مِصْرَ- مُضَلَّعَةٌ فِيهَا حَرِيرٌ، وَفِيهَا أَمْثَالُ الأتْرُنْجِ وَالْمِيثَرَةُ، كَانَتِ النِّسَاءُ تَصْنَعُهُ لِبُعُولَتِهِنَّ مِثْلَ الْقَطَائِفِ يُصَفِّرْنَهَا. وقال جَرِيرٌ، عَنْ يَزِيدَ: الْقَسِّيَّةُ ثِيَابٌ مُضَلَّعَةٌ يُجَاءُ بِهَا مِنْ مِصْرَ، فِيهَا الْحَرِيرُ وَالْمِيثَرَةُ جُلُودُ السِّبَاعِ. - فيه: الْبَرَاء، نَهَانَا النَّبِىُّ عليه السَّلام عَنِ الْمَيَاثِرِ الْحُمْرِ وَالْقَسِّىِّ. قال الطبرى: القسى ثياب تعمل من الحرير بقرية بمصر يقال لها القسى. وقال أبو عبيد: وأصحاب الحديث يقولون: القسى بكسر القاف، وأهل مصر يفتحون القاف تنسب إلى بلاد يقال لها: قس. وسأذكر المثيرة بعد هذا.
- فيه: أَنَس، قَالَ: رَخَّصَ النَّبِىُّ عليه السَّلام لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِالرَّحْمَنِ فِى لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحِكَّةٍ بِهِمَا. قد تقدم كلام الطبري أن هذا الحديث يدل أنه عن لبس الحرير من لم تكن به عله تضطره إلى لبسه، وكان معلومًا بترخيصه، عليه السلام، فى لبس الحرير للحكة، أن كل عله كانت بالإنسان يرجى بلبس الحرير فخفتها أنه يجوز له لباسه معها، وأن من قصد بلبسه إلى ماهو أعظم من أذى من أذى الحكة كنيل العدو واسلحتهم أن ذلك له جائز، وقد تقدم فى كتاب الجهاد.
- فيه: عَلِىّ، قَالَ: كَسَانِى النَّبِىُّ عليه السَّلام حُلَّةً سِيَرَاءَ، فَخَرَجْتُ فِيهَا، فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِى وَجْهِهِ، فَشَقَّقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِى. - وفيه: عُمَرَ، أنه رَأَى حُلَّةَ سِيَرَاءَ تُبَاعُ فِى السوق، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ ابْتَعْتَهَا تَلْبَسُهَا لِلْوَفْدِ إِذَا أَتَوْكَ وَالْجُمُعَةِ، قَالَ: (إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ)، وَأَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام بَعَثَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ حُلَّةَ سِيَرَاءَ حَرِيرٍ كَسَاهَا إِيَّاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: كَسَوْتَنِيهَا، وَقَدْ سَمِعْتُكَ تَقُولُ، فِيهَا مَا قُلْتَ؟ فَقَالَ: (إِنَّمَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ؛ لِتَبِيعَهَا أَوْ تَكْسُوَهَا). - وفيه: أَنَس، رَأَى عَلَى أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ النّبِىّ عليه السَّلام بُرْدَ حَرِيرٍ سِيَرَاءَ. العلماء متفقون أن الحرير مباح للنساء، إلا ما روى عن الحسن البصرى قال يونس بن عبيد: كان الحسن يكره قليل الحرير وكثيرة للرجال والنساء، حتى الأعلام فى الثياب. وأحاديث هذا الباب خلاف قول الحسن، ولو كان الحرير لا يجوز لباسه للنساء ماجهل ذلك على بن أبى طالب ولا شق الحلة بين نسائه، ولا جاز لأم كلثوم بنت النبى لباس الحرير، وروى معمر عن الزهري، عن أنس قال: (رأيت على زينب بنت رسول الله برد سيراء من حرير) قال الأصمعى: سيراء: ثياب فيها خطوط من حرير، ويقال من قز، وإنما يقال لها: سيراء لتسيير الخطوط فيها. وقال الزهرى: السيراء المضلع بالقزى، وعن الخليل مثله، وهذا مذهب من لم يجز للرجال لباس المصلع بالقزى، وعن الخليل مثله، وهذا مذهب من لم يجز للرجال لباس الثوب إذا خالطه حرير أو كان فيه منه سدى أو لحمة، والآثار تدل أن الحلة من حرير محض. روى حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن أبى عمر قال عمر: (يا رسول الله، إنى مررت بعطارد وهو يعرض حلة حرير للبيع فلو اشتريتها للجمعة والوفد...) وذكر الحديث، وقال الزهرى، عن سالم، عن أبيه حلة من إستبرق وهو غليظ الحرير، وعلى هذا تدل الآثار أنها كانت من حرير محض.
- فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ عُمَرَ: دَخَلْتُ، عَلَى النَّبِىّ عليه السَّلام فإِذَا هو عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِى جَنْبِهِ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ مِرْفَقَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، وَإِذَا أُهُبٌ مُعَلَّقَةٌ، وَقَرَظٌ. - وفيه: هِنْدُ بِنْتُ الْحَارِثِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتِ: اسْتَيْقَظَ النَّبِىُّ عليه السَّلام مِنَ اللَّيْلِ، وَهُوَ يَقُولُ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْفِتْنَةِ؟ مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْخَزَائِنِ؟ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ؟ كَمْ مِنْ كَاسِيَةٍ فِى الدُّنْيَا عَارِيَةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). قَالَ الزُّهْرِىُّ: وَكَانَتْ هِنْدٌ لَهَا أَزْرَارٌ فِى كُمَّيْهَا بَيْنَ أَصَابِعِهَا. قال المؤلف: كان النبى عليه السلام ينام على الحصير حتى يؤثر فى جنبه، ويتخذ من الثياب مايشبه تواضعه صلى الله عليه وسلم وزهده فى الدنيا توفيرًا لحظة فى الآخرة، وقد خيره الله ان يكون نبيا ملكا أو نبيا عبدًا، فاختار أن يكون نبيًا عبدًا إيثار للآخرة على الدنيا، وتزهيدًا لأمته فيها ليقتدوا به فى أخذ البلغة من الدنيا، إذ هى اسلم من الفتنة التى تخشى على من فتحت عليه زهرة الدنيا، ألا ترى قوله عليه السلام: (ماذا أنزل الليلة من الفتنة؟ ماذا أنزل من الخزائن؟) فقرن عليه السلام الفتنة بنزول الخزائن، فدل ذلك على أن الكفاف والقصد فى أمور الدنيا خير من الإكثار واسلم من الفتنة. فإن قال قائل: حديث أم سلمه لا يوافق معنى الترجمة قيل: بل موافق لها، وذلك أن النبى عليه السلام حذر أهله وجميع المؤمنات من لباس رقيق الثياب الواصفة لأجسامهن، لقوله: (كم من كاسية فى الدنيا عارية يوم القيامة) وفهم منه أن عقوبة لابسة ذلك أن تعرى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، وقام الدليل من ذلك أنه عليه السلام حض أزواجه على استعمال خشن الثياب السائرة لهن حذرًا أن يعرين فى الآخرة. ألا ترى قول الزهرى: وكانت هند لها أزرار فى كميها بين اصابعها. وإنما فعلت ذلك، لئلا يبدو من سعة كميها شىء من جسدها، فتكون وإن كانت ثيابها غير واصفة لجسدها داخلة فى معنى قوله: (كاسية عارية) فلم يتخذ النبى عليه السلام ولا أهله من الثياب إلا الساتر لهن غير الواصف، وهو كان فعل السلف وهو موافق للترجمة. وقوله: أهب، جمع إهاب عن سيبويه، والقرظ: ورق السلم يدبغ به الأدم، وقد تقدم معنى حديث ابن عباس فى كتاب النكاح فى باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها.
- فيه: أُمُّ خَالِدٍ، قَالَتْ: أُتِى النّبِىّ صلى الله عليه وسلم بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَ: (مَنْ تَرَوْنَ نَكْسُوهَا هَذِهِ الْخَمِيصَةَ؟) فَأُسْكِتَ الْقَوْمُ، قَالَ: (ائْتُونِى بِأُمِّ خَالِدٍ)، فَأُتِىَ بِى النَّبِىُّ عليه السَّلام فَأَلْبَسَنِيهَا بِيَدِهِ، وَقَالَ: (أَبْلِى وَأَخْلِقِى) مَرَّتَيْنِ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَلَمِ الْخَمِيصَةِ، وَيُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَىَّ، وَيَقُولُ: (يَا أُمَّ خَالِدٍ، هَذَا سَنَا، وَيَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَا). وَالسَّنَا بالْحَبَشِيَّةِ: الْحَسَنُ. قال المؤلف: من روى اخلقى بالقاف فهو تصحيف، والمعروف من كلام العرب أخلفى بالفاء، يقال: خلفت الثوب إذا أخرجت باليه ولفقته، ويقال: أبل وأخلف أى: عش فخرق ثيابك وارقعها، هذا كلام العرب. وقد روى داود، عن عمرو بن عون، عن ابن المبارك، عن الجريرى، عن أبى نضرة قال: (كان أصحاب رسول الله إذا لبس أحدهم ثوبًا جديدا، قيل له: تبلى ويخلف الله). وقوله: (فأسكت القوم) قال صاحب الأفعال يقال: سكت سكوتًا، وأسكت: صمت، ويقال: بل معنى أسكت: أطرق.
- فيه: أَنَس، قَالَ: نَهَى النَّبِىُّ عليه السَّلام أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ. قال المؤلف: نهيه عليه السلام عن التزعفر للرجال معناه فى الجسد. وقد روى أبو داود، عن موسى بن إسماعيل، عن حماد، عن عطاء الخراسانى، عن يحى بن يعمر، عن عمار بن ياسر قال: (قدمت على أهلى ليلاً وقد تشققت يداى فخلقونى بزعفران، فغدوت على النبى عليه السلام فسلمت عليه ولم يرحب بى، فقال: اذهب فاغسل عنك هذا. فذهب فغسلته، ثم جئت وقد بقى على منه ردع فسلمت فلم يرد على ولم يرحب بى وقال: اذهب فاغسل عنك هذا. فذهبت فغسلته ثم جئت، فسلمت فرد على ورحب بى وقال: إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر بخير، ولا المتضمخ بالزعفران، ولا الجنب). وقد رواه بن عطاء بن أبى الجوزاء، عن يحى بن يعمر، عن رجل عن عمار، فهو حديث معلول. فإن قيل: فنهيه عليه السلام عن التزعفر للرجال محملة التحريم. قيل: لا، بدليل حديث أنس أن عبد الرحمن بن عوف قدم على النبى عليه السلام وبه أثر صفرة، وروى (وضر صفرة) وزاد حماد بن سلمه، عن ثابت: (وبه ردع من زعفران، فقال له: مهيم؟ فقال: تزوجت...) الحديث، ولم يقل له النبى عليه السلام أن الملائكة لا تحضر جنازتك بخير، ولا أن هذه الصفرة التى التصقت بجسمك حرام بقاءها عليك، ولا أمره بغسلها، فدل أن نهيه عليه السلام عن التوعفر لمن لم يكن عروسًا إنما هو محمول على الكراهية، لأن توعفر الجسد من الرفاهية التى نهى النبى عليه السلام عنها بقوله: (البذاذة من الإيمان).
- فيه: ابْن عُمَر، نَهَى النَّبِى صلى الله عليه وسلم أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِوَرْسٍ أَوْ بِزَعْفَرَانٍ. قال المؤلف: اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فحمل قوم نهيه عليه السلام عن الثوب المزعفر فى حال الإحرام خاصة. وقالوا: ألا ترى قول ابن عمر أن النبى عليه السلام إنما نهى المحرم عن ذلك، وراوى الحديث أعلم بمخرجه وسببه، وأجازوا لباس الثياب المصبوغة بالزعفران فى غير حال الإحرام للرجال، وروى ذلك عن ابن عمر، وهو قول مالك وأهل المدينة، قال مالك: رأيت عطاء بن يسار يلبس الرداء والازرار المصبوغ بالزعفران ورأيت ابن هرمز، ومحمد بن المنكدر يفعلان، ورأيت فى رأس ابن المنكدر الغالية. وحملت طائفة نهيه عليه السلام عن لباس المزعفر للرجال فى حال الإحرام وفى كل حال وهو قول الكوفيين والشافعى.
- فيه: الْبَرَاء، قَالَ: كَانَ النَّبِى عليه السَّلام، مَرْبُوعًا: وَقَدْ رَأَيْتُهُ فِى حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْهُ. قال الطبرى: إن قال قائل: ما وجه هذا الحديث وقد عارضه حديث آخر وهو ما حدثنا حماد بن محمد عن عمارة السدى، حدثنا على بن قادم، حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، عن عمه، عن أبى هريرة قال: (خرج عثمان حاجا إلى مكه، واتينا محمد بن عبد الله بن جعفر بامرأته فبات عندها، ثم غدا إلى مكة فأتى الناس، وهم بملل قبل أن يروحوا، فرآه عثمان وعليه ملحفة معصفرة مقدمة، فانتهز، وقال: تلبس المعصفر وقد نهى رسول الله عليه السلام عنه؟ فقال على: إن رسول الله لم ينهه ولا إياك إنما نهانى أنا. فسكت عثمان). قال الطبرى: وقد اختلف السلف فى ذلك، فمنهم من رخص فى لبس ألوان الثياب المصبغه بالحمرة مشبعة كانت أو غير مشبعة، ومنهم من كره المشبعة، ورخص فيما لم يكن مشبعًا، ومنهم من كره لبس جميع الثياب مشبعها وغير مشبعها، ومنهم من رخص فيه للمهنة وكره للبس. ذكر من رخص فى جميع الوان الثياب الصبغة. روى بريدة، عن على أنه نهض بالراية يوم خبير وعليه حلة أرجوان حمراء، وقال أبو ظبيان: رايت على على إزارًا أصفر. وقال الأحنف بن قيس: رأيت على عثمان ملاءة صفراء. وقال عروة بن الزبير: قال عبد الله بن الزبير: كان على الزبير يوم بدر ملاءه صفراء، ونزلت الملائكة يوم بدر معتمين بعمائم صفر. وقال ابن سيرين: كان أبو هريرة يلبس المغيرة. وقال عمران بن مسلم: رأيت على أنس بن مالك إزار معصفرًا. وكان ابن المسيب يصلى وعليه برنس ارجوان. ولبس المعصفر: عروة، والشعبى، وابو وائل، وابراهيم النخعى، والتيمى، وابو قلابة، وجماعة، وقال مالك فى الموطأ، فى الملاحف المعصفرة للرجال فى البيوت والأفنية: ولا أعلم شيئًا من ذلك حرامًا وغير ذلك من الثياب أحب إلى. وقال غير الطبرى: أجاز لباس المعصفر: البراء، وطلحة بن عبيد الله، وهو قول الكوفيين، والشافعى. ذكر من رخص فى ذلك فيما امتهن، وكره مما لبس: وروى عطاء، عن ابن عباس أنه قال: لا بأس بما امتهن من المعصفر ويكره ما لبس منه. ذكر من كره مااشتدت حمرته واباح ماخف منها: روى ذلك عن عطاء، وطاوس، ومجاهد. ذكر من كره لبس جميع الوان الحمرة: روى أيوب، عن إبراهيم الخزاعى قال: حدثنا عجوز لنا قالت: كنت أرى عمر إذا راى على الرجل الثوب المعصفر ضربه وقال: دعوا هذه الترافات للنساء. ورأى ابن محيريز على ابن عليه رداء موردًا فقال: دع ذا عنا. وروى يحى بن أبى كثير، عن محمد بن إبراهيم، عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفير، عن عبد الله بن عمرو قال: (رآنى رسول الله عليه السلام وعلى ثياب معصفرة فقال: القها فإنها ثياب الكفار). قال الطبرى: وحجة الذين أجازوا لباس المعصفرة والمصبغ بالحمرة للرجال حديث البراء أن النبى عليه السلام لبس حلة حمراء، والذين كرهوا ذلك للرجال اعتمدوا على حديث عبد الله بن عمرو، أن النبى عليه السلام أغلظ له القول فى الثياب المعصفر. والذين لم يروا بامتهانه بأسا وكرهوا لبسه قالوا: إنما ورد الخبر بالنهى عن لبسه دون امتهانه وافتراشه وقالوا: لا يعدى بالنهى عن ذلك موضعه. والذين رخصوا من ذلك فيما خفت حمرته بحديث قتيلة أنها قدمت على النبى عليه السلام قالت: (فرأيته قاعدًا القرفصاء وعليه أسمال- ملاءتين كانتا بزعفران- قد نفضتا). والصواب عندنا أن لبس المعصفر وشبه من الثياب المصبغة بالحمرة وغيرها من الأصباغ غير حرام، بل ذلك مطلق مباح غير أنى أحب للرجال توقى لبس ماكان مشبعًا صبغة، وأكره لهم لبسه ظاهرًا فوق الثياب لمعنين: أحدهما: ماورى فى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من الكراهية، والثانى: أنه شهرة وليس من لباس أهل المروءة فى زماننا هذا، وإن كان قد كان لباس كثير من أهل الفضل والذين قبلنا، فالذى ينبغى للرجل أن يتزى فى كل زمان بزى أهله مالم يكن إثمًا لأن مخالفة الناس فى زيهم ضرب من الشهرة، ويكون الجمع بين الحديثين أن لبسه عليه السلام للحمرة ليعلم أمته أن النهى عنه لم يكن على وجه التحريم للبسه، ولكن على وجه الكراهية، إذ كان الله تعالى قد ندب أمته إلى الاستنان به.
- فيه: الْبَرَاء، أَمَرَنَا النَّبِى عليه السَّلام: بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ: عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ، وَالدِّيبَاجِ، وَالْقَسِّىِّ، وَالإسْتَبْرَقِ، وَالْمَيَاثِرِ الْحُمْرِ. قال الطبرى: المثيرة: وطأ كان النساء يوطئه لأزواجهن من الأرجوان الأحمر على سروج خيلهم أو من الديباج والحرير، وكان ذلك من مراكب العجم. قال الطبرى: على سروج خيلهم أو من الديباج والحرير، وكان ذلك من مراكب العجم. وقال أبو عبيد: المياثر الحمر التى جاء فيها النهى، فإنها كانت من مراكب الأعاجم من ديباج أو حرير. قال المؤلف: فقول أبى عبيد يدل أن المياثر إذا لم تكن من حرير أو ديباج من صوف أحمر فإنه يجوز الركوب عليها، وليس النهى عنها كالنهى إذا كانت من حرير أو ديباج، وهذا يشبه قول مالك. قال ابن وهب: سئل مالك عن مثيره أرجوان أيركب عليها؟ قال ماأعلم حرامًا، ثم قرأ: (قل من حرم زينة الله) الآية. والإستبرق: غليظ الديباج والحرير، وهو بالفارسية استبره، وكان الأصمعى يقول: عربتها العرب. والسندس: مارق منه.
- فيه: أَنس: قيل له: أَكَانَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى فِى نَعْلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. - وفيه: عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ لابْن عُمَر: رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا.... الحديث، قَالَ: أَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ، فَإِنِّى رَأَيْتُ النبِىّ عليه السَّلام يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِى لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا. - وفيه: ابْن عُمَر، قَالَ: النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ...) الحديث. قال المؤلف: النعال من لباس النبي صلى الله عليه وسلم وخيار السلف. قال مالك: والانتعال من عمل العرب وقد روى أبو داود، عن محمد بن الصباح، عن ابن أبى الزناد، عن موسى بن عقبة، عن أبى الزبير، عن جابر قال: (كنا مع النبى فى سفر فقال: أكثروا من النعال، فإن الرجل لا يزال راكبًا ما انتعل). وقال ابن وهب: النعال السبتية هى التى لا شعر فيها. وقال الخليل والأصمعى: السبت: الجلد المدبوغ بالقرظ. قال أبو عبيد: وإنما ذكرت السبتية، لأن أكثرهم فى الجاهلية كان يلبسها غير مدبوغة إلا أهل السعه منهم. وذهب قوم إلى أنه لا يجوز لبس النعال السبتية فى المقابر خاصة، واحتجوا بما رواه سليمان بن حرب: حدثنا الأسود بن شيبان، حدثنى خالد بن سمير، حدثنى بشير بن نهيك قال: حدثنى بشير بن الخصاصية قال: (بينما أنا أمشى فى المقابر وعلى نعلان فإذا رسول الله فقال: إذا كنت فى مثل هذا الموضع فاخلع نعليك فخلعتهما) فأخذ أحمد بن حنبل بهذا الحديث، وقال: الأسود بن شيبان ثقة، وبشير بن نهيك ثقة. وقال لآخرون: لا بأس بذلك، وحجتهم لباسه عليه السلام للنعال السبتية وفيه السوة الحسنة، ولو كان لباسها فى المقابر لا يجوز لبين ذلك لأمته، وقد يجوز أن يأمره عليه السلام بخلعهما لأذى كان فيهما أو غير ذلك. ويؤيد هذا قوله عليه السلام: (إن العبد إذا وضع فى قبره وتولى عنه اصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم) قاله الطحاوى. قال: وثب عن النبى عليه السلام أنه صلى فى نعليه فلما كان دخول المسجد بالنعل غير مكروه، وكانت الصلاة بها غير مكروهه، كان المشى بها بين القبور أحرى ألا يكون مكروها. وأما الصفرة فقد روى عن ابن عمر كان يصبغ بها لحيته، روى عنه أنه كان يصبغ بها ثيابه، وروى ابن إسحاق، عن سعيد المقبرى، عن عبيد بن جريح أنه قال لابن عمر: (رأيتك تصفر لحيتك. فقال: إن رسول الله كان يصفر بالورس، فأنا أحب أن أصفر به كما كان رسول الله يصبغ). وروى عبد الرازق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع أن ابن عمر كا، يأمر بشىء من زعفران ومشق، فيصبغ به ثوبه فيلبسه. قال عبد الرزاق: وربما رأيت معمرًا يلبسه. وروى ابن وهب قال: أخبرنى عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم، قال: (كان رسول الله عليه السلام يصبغ ثيابه بالزعفران حتى العمامة). قال المهلب: والصفرة أبهج الألوان للنفوس، كذلك قال ابن عباس: أحسن الألوان كلها الصفرة، وتلا قوله تعالى: {صفراء فاقع لونها تسر الناظرين (فقرن بها السرور.
- فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِىُّ عليه السَّلام يُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِى طُهُورِهِ وَتَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ. هذا من باب الأدب وتفضيل الميامن على المياسر فى كل شىء وقد تقدم فى الوضوء.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ، وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ؛ لِيَكُنِ الْيُمْنَى أَوَّلَهُمَا تُنْعَلُ وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ). وهذا معناه أيضًا تفضيل اليمين على الشمال كالحديث الأول.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (لا يَمْشِى أَحَدُكُمْ فِى نَعْلٍ وَاحِدَةٍ لِيُحْفِهِمَا جَمِيعًا أَوْ لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا). قال الأبهرى: كره ذلك- والله أعلم- لأن الماشى فى نعل واحد ينسب إلى اختلال الرأى وضعف الميز. وقال غيره: إنما كره ذلك والله أعلم- لأنه لم يعدل بين جوارحه وهو من باب المثله. وروى عن وكيع عن سفيان عن عبد الله بن دينار قال: (انقطع شسع نعل عبد الله بن عمر فمشى أذرعًا فى نعل واحدة).
- فيه: أَنَسٌ أَنَّ نَعْلَ النَّبِىِّ عليه السَّلام كَانَ لَهَا قِبَالانِ. هذا كله مباح قبالان وقبال، وليس فى ذلك شىء لا يجزئ غيره.
- فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِىَّ عليه السَّلام وَهُوَ فِى قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ. - وفيه: أَنَس، أَرْسَلَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم إِلَى الأنْصَارِ، فَجَمَعَهُمْ فِى قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ. فيه: أن الأدم يجوز استعماله فى القباب والبسط وماأشبه ذلك للأئمة الصالحين.
- فيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىَّ عليه السَّلام يَحْتَجِرُ حَصِيرًا بِاللَّيْلِ، فَيُصَلِّى، وَيَبْسُطُهُ فِى النَّهَارِ، فَيَجْلِسُ عَلَيْهِ... الحديث. فيه: تواضع النبى عليه السلام ورضاه باليسير وصلاته على الحصير، وجلوسه عليها لسن ذلك لأمته.
- فيه: الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ: أَنَّ أَبَاهُ قَالَ لَهُ: بَلَغَنِى أَنَّ النَّبِيَّ عليه السَّلام قَدِمَتْ عَلَيْهِ أَقْبِيَةٌ، فَهُوَ يَقْسِمُهَا، فَاذْهَبْ بِنَا إِلَيْهِ، فَذَهَبْنَا، فَوَجَدْنَا النَّبِى صلى الله عليه وسلم فِى مَنْزِلِهِ، فَقَالَ لِى: يَا بُنَىِّ، ادْعُ لِى النَّبِى صلى الله عليه وسلم فَأَعْظَمْتُ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: أَدْعُو لَكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: يَا بُنَيِّ، إِنَّهُ لَيْسَ بِجَبَّارٍ، فَدَعَوْتُهُ فَخَرَجَ، وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّرٌ بِالذَّهَبِ، فَقَالَ: (يَا مَخْرَمَةُ، هَذَا خَبَأْنَاهُ لَكَ)، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ. هذا الحديث كان فى أول الإسلام- والله أعلم- قبل تحريم الذهب والحرير. وفيه أن الخليفة والرجل العالم إذا زال من موضع قعوده للناس ونظره بينهم وتعليمه لهم، أنه يجوز دعاؤه وإخراجه لما يعن إليه من حاجات الناس، وأن خروجه لمن دعاه من التواضع والفضل.
- فيه: الْبَرَاء وأَبُو هُريرة، نَهَانَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ. - فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ النَّبِىّ عليه السَّلام اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، وَجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِى كَفَّهُ، فَاتَّخَذَهُ النَّاسُ، فَرَمَى بِهِ، وَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، أَوْ فِضَّةٍ. التختم بالذهب منسوج لا يحل استعماله، لنهى النبى، عليه السلام، عنه، والذهب محرم على الرجال، حلال للنساء، ومن ترخص فى التختم بالذهب من السلف لم يبلغه النهى والنسخ والله أعلم.
- فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ النَّبِىّ عليه السَّلام اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ، وَجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِى كَفَّهُ، وَنَقَشَ فِيهِ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ مِثْلَهُ، فَلَمَّا رَآهُمْ قَدِ اتَّخَذُوهَا رَمَى بِهِ، وَقَالَ: لا أَلْبَسُهُ أَبَدًا، ثُمَّ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ الْفِضَّةِ). قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَلَبِسَ الْخَاتَمَ بَعْدَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، حَتَّى وَقَعَ مِنْ عُثْمَانَ فِى بِئْرِ أَرِيسَ. - وفيه: أَنَس، أَنَّهُ رَأَى فِى يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ يَوْمًا وَاحِدًا، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اصْطَنَعُوا الْخَوَاتِيمَ مِنْ وَرِقٍ، فَلَبِسُوهَا، فَطَرَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمَهُ، فَطَرَحَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ. رواه يونس، عن الزهرى، وتابعه إبراهيم بن سعد، وزياد، وشعيب، عن الزهرى. قال المؤلف: أما حديث ابن عمر فإن فيه أن النبى عليه السلام نبذ خاتم الذهب، واتخذ خاتمًا من فضة ولبسه إلى أن مان، وأما حديث أنس أن النبى عليه السلام نبذ خاتم الورق، فهو عند العلماء وهم من ابن شهاب، لأن الذى نبذ عليه السلام خاتم الذهب رواه عبد العزيز بن صهيب، وثابت البنانى، وقتادة، عن أنس وهو خلاف مارواه ابن شهاب، عن أنس، فوجب القضاء للجماعة على الواحد إذا خالفها مه مايشهد للجماعة من حديث ابن عمر. قال المهلب: وقد يمكن أن يتأول لأبن شهاب ماينفى عنه الوهم- وإن كان الوهم عنه أظهر- وذلك أنه يحتمل أن يكون النبى لما عزم على إطراح خاتم الذهب اصطنع خاتم الفضة، بدليل أنه كان لا يستغنى عن الختم به على الكتب إلى البلدان، وأجوبه العمال، وقواد السرايا، فلما لبس خاتم الفضة أراد الناس ذلك اليوم أن يصطنعوا مثله فطرح عند ذلك خاتم الهب فطرح الناس خواتيم الذهب، والتأليف بين الأحاديث أولى من حملها على التنافى والتضاد، وبالله التوفيق. وقال أبو داود: ولم يختلف الناس على عثمان حتى سقط الخاتم من يده.
|