الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***
وقول الله تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا}. - فيه: عَبْدِاللَّه، سَأَلْتُ النَّبِى صلى الله عليه وسلم أَى الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: (الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا)، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (بِرُّ الْوَالِدَيْنِ)، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ)، قَالَ: حَدَّثَنِى بِهِنَّ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِى. قال المؤلف: ذكر أهل التفسير أن هذه الآية التى فى سورة لقمان نزلت فى سعد بن أبى وقاص، قالت أمه حين هاجر: لا يظلنى بين حتى ترجع فنزلت: (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما (فأمره تعالى أن يحسن إليهما ولا يطعهما فى الشرك. وقيل: نزلت فى عياش بن أبى ربيعة. فأخبر النبى عليه السلام أن بر الوالدين افضل الأعمال بعد الصلاة التى هى أعظم دعائم الإسلام، ورتب ذلك بثم التى تقتضى الترتيب، وتدل على أن الثانى بعد الأول وبينهما مهله، وقد دل التنزيل على ذلك قال تعالى: {وقضى ربك إلا تعبدوا إلا أياه وبالوالدين إحسانًا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) يعنى مايبولان ويحدثان) فلا تقل لهما اف (قال مجاهد: والمعنى لاتستقذرهما كما لم يكونا يستقذرانك. وقال عطاء: لاتنغض يديك عليهما ولا تنهرهما أى لاتغلظ لهما) وقل لهما قولا كريمًا (أى سهلا لينا عن قتادة وغيره. وقال ابن السيب: قول العبد الذليل للسيد الفظ الغليظ) واخفض لهما جناح الذل من الرحمة (أى كن بمنزله الذليل المقهور إكراما لهما، وجعل تعالى شكر الأبوين بعد شكره فقال: (أن أشكر لى ولوالديك (وقال أبو هريرة: لا تمش أمام أبيك، ولا تقعد قبله، ولا تدعه باسمه. وقيل: تمشى فى الظلمة بين يديه: من لم يدرك أبويه أو أحدهما، فلا باس أن يقول: رب أرحمهما كما ربيانى صغيرًا.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِى؟ قَالَ: (أُمُّكَ)، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ)، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ)، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أَبُوكَ). قال المؤلف: فى هذا الحديث دليل ان محبة الأم والشفقة عليها ينبغى أن تكون ثلاث اميال محبة الب، لأن عليه السلام كرر الأم ثلاث مرات، وذكر الأب فى المرة الرابعة فقط، وإذا تؤمل هذا المعنى شهد له العيان، وذلك أن صعهوبة الحمل وصعوبة الوضع وصعوبة الرضاع والتربية تنفرد بها الأم، وتشقى بها دون الب فهذه ثلاث منازل يخلو منها الأب. وقد جرى لبى السود الدؤلى مع زوجته قصة أثار فيها هذا المعنى، ذكر أبو حاتم عن أبى عبيدة أن أبا الأسود جرى بينه وبين امرأته كلام فأراد أخذ ولده منها، فسار إلى زياد وهو وإلى البصيرة، فقالت المرأة: اصلح الله الأمير، هذا بطنى وعاؤه وحجرى فناؤه وثدى سقاؤه، أكلؤه إذا نام، وأحفظه أذا قام، فلم أزل بذلك سبعة أعوام حتى استوفى فصاله وكملت خصالة وأملت نفعه وروجوت رفعه أراد أن يأخذه منى كرهًا. فقال أبو الأسود: أصلحك الله، هذا ابنى حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه.. وأنا أقوم عليه فى أدبه، وحملته ثقلا، ووضعه شهوة، ووضعته كرهًا. فقال له زياد: اردد على المرأة ولدها فهى أحق به منك، ودعنى من سجعك. وروى عن مالك أن رجلا قال له: إن أبى فى بلد السودان، وقد كتب إلى أن اقدم إليه، وأمى تمنعنى من ذلك، فقال له: أطع أباك ولاتعص أمك. فدل قول مالك هذا أن برهما عنده متساوًا لا فضل لواحد منهما فيه على صاحبه، لأنه قد قدر أمره بالتخلص منهما جميعًا، وإن كان لاسبيل إلى ذلك فى المسالة، ولو كان لأحدهما عنده فضل فى البر على صاحبه لأمره بالمصير إلى أمره. وقد سئل الليث عن هذه المسالة فأمره بطاعة الأم، وزعم أن لها ثلثي البر، وحديث أبى هريرة يدل على ان لها ثلاثة ارباع البر، وهو الحجة على من خالفه، وزعم المحاسبى أن تفضيل الأم على الأب فى البر والطاعة هو إجماع العلماء.
- فيه: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قال: قال رَجُلٌ لِلنَّبِى صلى الله عليه وسلم: أُجَاهِدُ، قَالَ: (لَكَ أَبَوَانِ)؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ). قال المؤلف: هذا موافق لحديث ابن مسعود أن بر الأبوين أفضل من الجهاد، لأنه ذلك عليه السلام بثم التى تدل على الرتبة، وهذا إنما يكون فى وقت قوة الإسلام وغلبه أهله للعدو، وإذا كان الجهاد من فروض الكفاية، فأما إذا قوى أهل الشرك وضعف المسلمون، فالجهاد متعين على كل نفس، ولايجوز التخلف عنه وإن منع منه الأبوان. وقال ابن المنذر: فى هذا الحديث أن النهى عن الخروج بغير إذن الأبوين مالم يقع النفير، فإذا وقع وجب الخروج على الجميع، وذلك بين فى حديث أبى قتادة: (أن رسول الله بعث جيش الأمراء، فذكر وصية زيد بن حارثه، وجعفر بن أبى طالب، وابن رواحة أن منادى رسول الله نادى بعد ذلك إن الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس اخرجوا فأمدوا إخوانكم ولا يتخلفن أحد. فخرج الناس مشاة وركابًا فى حر شديد) فدل قوله: (أخرجوا فأمدوا إخوانكم) أن العذر فى التخلف عن الجهاد إنما هو ما لم يقع النفر مع قوله: (وإذا استنفرتم فانفروا). واختلفوا فى الوالدين المشركين، هل يخرج بإذنهما إذا كان الجهاد من فروض الكفاية؟ وكان الثورى يقول: لا يغزوا إلا بإذنهما قال الشافعى: له أن يغزو بغير إذنهما. قال ابن المنذر: والأجداد آباء، والجدات أمهات، فلا يغزو المرء إلا يإذنهم، ولا أعلم دلاله توجب ذلك لغيرهم من الإخوة وسائر القرابات، وكان طاوس يرى السعى على الأخوات افضل من الجهاد فى سبيل الله.
- فيه: عبد الله بن عمر: قال: قال النبي عليه السلام:إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه. قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه (ويسب أمه). قال المؤلف: هذا الحديث أصل في قطع الذرائع، وأن من آل فعله إلى محرم وإن لم يقصده فهو كمن قصده وتعمده في الإثم، ألا ترى أنه عليه السلام نهى أن يلعن الرجل والديه؟ فكان ظاهر هذا أن يتولى الابن لعنهما بنفسه، فلما أخبر النبي عليه السلام أنه إذا سب أبا الرجل وسب الرجل أباه وأمه، كان كمن تولى ذلك بنفسه، وكان [ما آل إليه فعل ابنه] كلعنه في المعنى؛ لأنه كان سببه، ومثله قوله تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم (وهذه من إحدى آيات قطع الذرائع في كتاب الله- تعالى. والثانية: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا (، والثالثة: (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن}.
- فيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: (بَيْنَمَا ثَلاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَاشَوْنَ فأَخَذَهُمُ الْمَطَرُ، فَمَالُوا إِلَى غَارٍ فِى الْجَبَلِ، فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ، فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالا عَمِلْتُمُوهَا لِلَّهِ صَالِحَةً، فَادْعُوا اللَّهَ بِهَا، لَعَلَّهُ يَفْرُجُهَا، فَقَالَ بعضهم: صِغَارٌ كُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِمْ، فَإِذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ، فَحَلَبْتُ، بَدَأْتُ بِوَالِدَىَّ....) وذكر الحديث (.... فَفَرَجَ اللَّهُ عَنْهُمْ). قال المؤلف: كل من دعا إلى الله تعالى بنيه صادقة و توسل إليه بما صنعه لوجهه خاصا ترجى له الإججابة، الا ترى أن اصحاب الغار توسلوا إلى الله تعالى بأعمال عملوها خالصة (لوجهه، ورجوا الفرج بها، فذكر أحدهم بر أبويه، وذكر الثانى أنه قعد من المرأة التى كان يحبها مقعد الرجل من المرأة، وانه ترك الزنا بها لوجه الله، وذكر الثالث أنه تجر فى أجرة الأجير حتى صار منها غنم وراعها، وأنه دفعه إليه حين طلب منه أجره، فتفضل الله عليهم بإجابة دعائهم ونجاهم من الغار، فكما أجيب دعوة هؤلاء النفر، فكذلك ترجى إجابة دعاء كل من أخلص فعله لله وأراد به وجهه).
- فيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ)؟ قُلْنَا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (الإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ)- وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ- فَقَالَ: (أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ)، فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ: لا يَسْكُتُ. - وفيه: أَنَس، قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْكَبَائِرَ- أَوْ سُئِلَ عَنِ الْكَبَائِرِ- فَقَالَ: (الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ)، فَقَالَ: (أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قَالَ: قَوْلُ الزُّورِ- أَوْ قَالَ شَهَادَةُ الزُّورِ-). قال المؤلف: ذكر البخارى فى كتاب اليمان والنذور حديث عبد الله بن عمر وفيه زيادة اليمين الغموس، وفى كتاب الديات والاعتصام حديث ابن مسعود (أن تقتل ولدك خشية ان يأكل معك) وفيه الزنا بحليلة الجار من الكبائر. وروى الزنا من الكبائر عن النبى عليه السلام عمران بن حصين، وعبد الله بن انيس، وأبو هريرة، وفى حديث أبى هريرة: (لا يزنى حين يزنى وهو مؤمن) وفى كتاب الحدود، وفى حديث أبى هريرة قال النبى صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات) وفيه: (السحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولى يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات والمؤمنات). وفى باب عقوق الوالدين من الكبائر حديث المغيرة عن النبى صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنع وهات ووأد البنات...) الحديث، وفى حديث ابن عباس أن النميمة وترك التحرز من البول من الكبائر. وروى السرقة من الكبائر وشرب الخمر من الكبائر عمران بن حصين فى غير كتاب البخارى، وفى كتاب البخارى: (لايسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولايشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولاينتهب نهبه وهو مؤمن) وفى غير البخارى من حديث ابن عباس: (الإضرار فى الوصية من الكبائر، والقنوط من رحمة الله من الكبائر). وفى حديث أبى أيوب الأنصارى عن النبى صلى الله عليه وسلم: (منع ابن السبيل من الكبائر). وروى بريدة عن النبى صلى الله عليه وسلم: (منع ابن السبيل الماء من الكبائر) وفى حديث ابن عمر: (والإلحاد فى البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتًا من الكبائر) وفى حديث عبد الله بن عمر: (وأكبر الكبائر أن يشتم الرجل والديه، قالوا: وكيف؟ قال: يساب الرجل فيسب أباه). فهذه آثار رويت عن النبى عليه السلام- بذكر الكبائر، فجميع الكبائر فى هذه الاثار ست وعشرون كبيرة وهى: الشرك، وقتل النفس، وعول الوالدين، وشهادة الزور، واليمين الغموس، وأن تقتل ولدك خشية ان يأكل معك، والزنا، والسحر، واكل الربا وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف، وقذف المحصنات، والسرقة، وشرب الخمر، والإضرار فى الوصية، والقنوط من رحمة الله، ومنع ابن السبيل الماء، والإلحاد فى البيت الحرام، والذى يستسب لوالديه، وفى حديث المغيرة: (حرم عليكم منعًا وهات ووأد البنات) والنميمة، وترك التحرز من البول، والغلول. فهذه ست وعشرون كبيرة وتستنبط كبائر أخر من الأحاديث منها: حديث ابن المسيب عن النبى عليه السلام أنه قال: (إن من أربى من الكبائر)، ومنها حديث أبى سعيد وأبى هريرة أن النبى عليه السلام قال: (أسوء السرقة الذى يسرق صلاته). وقد ثبت أن السرقة من الكبائر، وفى التنزيل الجور فى الحكم قال تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) و) الظالمون (و) الفاسقون (وقال تعالى: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا (فهذه تسع وعشرون كبيرة. قال الطبرى: واختلف أهل التأويل فى الكبائر التى وعد الله عباده بالنهى عنها من أول سورة النساء إلى رأس الثلاثين آيه منها هذا قول ابن مسعود والنخعي. وقال آخرون: الكبائر سبع روى هذا عن على بن أبى طالب، وهو قول عبيد بن عمير وعبيدة وعطاء، قال عبيد: ليس من هذه كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله تعالى قال تعالى: {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء (وقال: (الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا} الآية، وقال تعالى: {الذين يأكلون الربا لايقومون إلا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان من المس (و) الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات} الآية، والفرار من الزحف، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفًا فلا تولوهم الأدبار (والسابعة: التعرب بعد الهجرة) إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ماتبين لهم الهدى (وقتل النفس. وقال آخرون: هى تسع. روى هذا عن عبد الله بن عمر، وزاد فيه السحر والإلحاد فى المسجد الحرام. وقال آخرون: هى اربع، رواه الأعمش عن وبرة بن عبد الرحمن، عن أبى الطفيل، عن ابن مسعود قال: الكبائر اربع: الإشراك بالله، والقنوط من رحمة، والإياس من روح الله، والأمن من مكر الله. ففى حديث أبى الطفيل مما لم يمض فى الآثار: الأمن من مكر الله، وفى حديث عبيد بن عمير: التعرب بعد الهجرة، فتمت إحدى وثلاثين كبيرة. وقال آخرون: كل مانهى الله عنه فهو كبيرة، روي ذلك عن ابن عباس قال: وقد ذكرت الطرفة وهى النظرة، قال ابن الحداد: وهذا قول الخوارج: قالوا: كل ماعصى الله فهو كبيرة يخلد صاحبه فى النار، واحتجوا بقوله: ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم قالوا: فالكلام على العموم فى جميع المعاصى. قال الطبرى: وعن ابن عباس قول آخر، قال: كل ذنب ختمه الله بنار أو لعنه أو غضب فهو كبيرة، وقال طاوس: قيل لابن عباس: الكبائر سبع؟ قال: هى إلى السبعين أقرب. وقال سعيد بن جبير قال رجل لابن عباس: الكبائر سبع؟ قال: هى إلى السبعمائة أقرب منها إلى سبع: غير أنه لاكبيرة مع استغفار، ولاصغيرة مع إصرار. وذهب جماعة أهل التأويل إلى أن الصغائر تغفر باجتناب الكبائر، وهو قول عامة الفقهاء، وخالفهم فى ذلك الشعرية أبو بكر بن الطيب وأصحابه، فقالوا: معاصى الله كلها عندنا كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة بافضافة _ إلى ماهو أكبر منها، كما يقال: الزنا صغيرة بإضافته إلى الكفر، والقبلة المحرمة صغيرة بإضافتها إلى الزنا، وكلها كبائر، ولا ذنب عندنا يغفر واجبًا باجتناب ذنب آخر، بل كل ذلك كبيرة ومرتكبة فى المشيئة غير الكفر لقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. واحتجوا بقراءة من قرأ (إن تجنبوا كبيرة ما تنهون عنه) على التوحيد يعنون الشرك، وقال الفراء: من قرأ (كبائر) فالمراد بها كبير، وكبير الإثم الشرك، وقد يأتى لفظ الجمع يراد به الواحد قال تعالى: {كذبت قوم نوح المرسلين (ولم يأتيهم إلا نوح وحده، ولا أرسل إليهم روى قبله فى حديث الشفاعة: (ولكن أئتوا نوحًا) فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض. قالوا: فجواز العقاب عندنا على الصغيرة كجواز على الكبيرة وقوله عليه السلام: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لايظن أنها تبلغ حيث بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم القيامة). وحجة أهل التأويل والفقهاء ظاهر قوله تعالى: {إن تجنبوا كبائر ماتنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم}. قال الطبرى: يعنى نكفر عنكم أيها المؤمنون ياجتناب الكبائر صغائر سيئاتكم، لأن الله تعالى قد وعد مجتنبها تكفير ماعداها من سيئاته ولا يخلف الميعاد. واحتجوا رواه موسى بن عقبة، عن عبيد الله بن سليمان الأغر، عن أبيه، عن أبى أيوب الأنصارى قال: قال رسول الله (ما من عبد يعبد الله لايشرط به شيئًا، ويقيم الصلاة، ويوتى الزكاة، ويصوم رمضان، ويجتنب الكبائر إلا دخل الجنة) وقال أنس: إن الله تجوز عما دون الكبائر فما لنا ولها وتلا الآتية. وأما قول الفراء من قرأ (كبائر) فالمراد بها كبير الإثم وهو الشرك، فهذا خلاف ما ثبت فى الآثار، وذلك أن فى حديث أبى بكرة أن النبى- عليه اسلام- قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر. فذكر الشرك، وعقوق الوالدين، وكان متكئًا فجلس وقال: ألا وقول الزور، فما زال يقولها حتى قلت: لا يسكت) وفى حديث ابن مسعود (قلت: يا رسول الله، أى الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك، وأن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك، وأن تزانى بحليلة جارك) فجعل عليه السلام فى حديث أبى بكرة قول الزور وعقوق الوالدين من أكبر الكبائر، وجعل فى حديث ابن مسعود أن يقتل ولده خشية أن يأكل معه، والزنا بحليلة جاره من أعظم الذنوب، فهذا يرد تأويل الفراء أن كبائر يراد بها كبير وهو الشرك خاصة، ولوعكس قول الفراء فقيل له من قرأ (كبير الإثم) فالمراد به كبائر كان أولى فى التأويل بدليل هذه الاثار الصحاح، وبالمتعارف المشهور فى كلام العرب، وذلك أن يأتى لفظ الواحد يراد به الجمع كقوله تعالى: {يخرجكم طفلاً (وقوله: (لا نفرق بين أحد من رسله (والتفريق لايكون إلا بين اثنين فصاعدا والعرب تقول: فلان كثير الدينار والدرهم، يريدون الدنانير والدراهم. وقولهم: إن الصغائر كلها كبائر فهذه دعوى وقد ميز الله بين الكبائر وبين ماسماه سيئه من غيرها بقوله تعالى: {إن تجنبوا كبائر ماتنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم (وأخبر أن الكبائر إذا جونبت كفر ماسواها، وماسوى الشىء هو غيره ولايكون هو، ولا ضد للطبائر إلا الصغائر، والصغائر معلومه عند الأمة، وهى ما أجمع المسلمون على رفع التحريج فى شهادة من أتاها، ولا يخفى هذا على ذى لب. وأما احتجاجهم بقوله عليه السلام: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لايظن أنها تبلغ حيث بلغت) فليس فيه دليل أن تلك الكلمة ليست من الكبائر، ومعنى الحديث: إن الرجل ليتكلم بالكلمة عند السلطان يغريه بعدو له ويطلب أذاه، فربما قتله السلطان أو أخذ ماله أو عاقبه اشد العقوبة، والمتكلم بها لايعتقد أن السلطان يبلغ به كل ذلك فيسخط الله عليه إلى يوم القيامة، وهذا كقوله تعالى: {وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم}.
- فيه: أَسْمَاء، أَتَتْنِى أُمِّى رَاغِبَةً فِى عَهْدِ النَّبِىِّ عليه السَّلام فَسَأَلْتُ النَّبِى صلى الله عليه وسلم آصِلُهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ) الحديث. قال المؤلف: صلة الوالدين المشركين واجبة بكتاب الله تصديقًا لحديث أسماء وذلك قوله: {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا} {وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما فى الدنيا معروفا} فأمر ببرهما ومصاحبتهما بالمعروف وإن كان مشركين، وقد تقدم هذا فى كتاب الهبة واسماء هذه بنت أبى بكر الصديق زوج الزوبير بن العوام وأمها قتيلة. وترجم لحديث اسماء: باب المرأة أمها ولها زوج وفقه هذه الترجمة أن النبى عليه السلام أباح لأسماء أن تصل أمها ولم يشترط لها فى ذلك مشاورة زوجها، ففيه حجة لمن أجاز من الفقهاء أن تتصرف المرأة فى مالها وتتصدق بغير إذن زوجها، وقد تقدم فى الهبة.
- فيه: عُمَر بْن الْخطاب أَنّ النَّبِىّ عليه السَّلام أهدى له حُلَّةَ سِيَرَاءَ وقَالَ: (إِنِّى لَمْ أُعْطِكَهَا، لِتَلْبَسَهَا، وَلَكِنْ تَبِيعُهَا أَوْ تَكْسُوهَا)، فَأَرْسَلَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ.
- فيه: أَبُو أَيُّوبَ، أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِى بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِى الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ عليه السَّلام: (تَعْبُدُ اللَّهَ لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِى الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ...) الحديث. وقد تقدم هذا الحديث فى أو كتاب الزكاة، والآثار كثيرة فى فضل صلة الرحم. منها ما ذكر بإسناده عن النبى عليه السلام قال: (إن الله ليعمر بالقوم الديار ويكثر لهم فى الأموال، وما نظر إليهم مذ خلقهم بغضًا لهم. قيل: وكيف ذلك يارسول الله؟ قال: بصلتهم أرحامهم). وقال عليه السلام: (إن أعجل الطاعة ثوابًا صلة الرحم، حتى إن أهل البيت يكونون فجارًا تنمى أموالهم ويكثر عددهم إذا وصلوا أرحامهم).
- فيه: جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ، قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ). روى هذا الحديث سعيد عبد الرحمن، عن سفيان، عن الزهرى وقال فيه: (لا يدخل الجنة قاطع رحم). ومعناه عند أهل السنة: لايدخل الجنة إن أنفذ الله عليه الوعيد، لإجماعهم أن الله تعالى فى وعيده لعصاة المسلمين بالخيار إن شاء عذبهم وإن شاء عفا عنهم. قال الطبرى: فإن قال قائل: قد تقدم من قولك أن المتعاهد رحمة بأدنى البر كالسلام ونحوه غير مستحق اسم قاطع، فمن القاطع الذى جاء فيه الوعيد فى هذا الحديث؟ قال: هو الذى يقطعهم بالهجرة لهم والمعاداة، مع منعه إياهم معروفه ومعونته. وروى ابن وهب، عن سعيد بن أبى أيوب، عن عبد الله بن الوليد، عن أبى حجيرة الأكبر أن رجلا أتاه، فقال: انى نذرت ألا أكلم أخى. قال: إن الشيطان ولد له ولد فسماه نذرًا، وإنه من قطع ماأمر الله به أن يوصل حلت عليه اللعنة، وهذا فى كتاب الله فى قوله: (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار).
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِى رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِى أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ). - وفيه: أَنس، عَن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم مثله. قال الطبرى: فإن قيل كيف ينسأ له فى أجله، وقد قال تعالى: {فإذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولايستقدمون (وقال النبى صلى الله عليه وسلم: (إن ابن آدم يكتب فى بطن أمه أثره وأجله ورزقه)؟. فالجواب: أنه إن فعل ذلك به جزاء له على ما كان له من العمل الذى يرضاه، فإنه غير زائد فى علم الله تعالى شيئًا لم يكن له عالما قبل تكوينه، ولا ناقص منه شيئًا، بل لم يزل عالمًا بما العبد فاعل وبالزيادة التى هو زائد فى عمره بصلة رحمه، والنقص الذى هو بقطعه رحمة من عمره ناقص قبل خلقه لايعزب عنه شىء من ذلك. وقد تقدم الزيادة فى بيان هذا المعنى فى كتاب البيوع فى باب: من أحب البسط فى الرزق. وقال الخطابى: قوله: (ينسأ له فى أثره) معناه يؤخر فى أجله ويسمى الأجل أثرًا لأنه تابع للحياة وسابقها، قال كعب بن زهير: والمرء ما عاش ممدود له أمل لا ينتهى العين حتى ينتهى الأثر
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِى صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ، قَالَتِ: الرَّحِمُ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، يَا رَبِّ، قَالَ: فَهُوَ لَكِ، قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِى الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (} [محمد: 22]. - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ، عليه السَّلام: (إِنَّ الرَّحِمَ شَجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ). - وفيه: عَائِشَةَ عَن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم مثله. قال الطبرى: معنى وصل الله تعالى عبده إذا وصل رحمه، فهو تعطفه عليه بفضله، إما فى عاجل دنياه أو آجل آخرته، والعرب تقول إذا تفضل رجل على آخر بمال أو هبة هبة: (وصل فلان فلانًا بكذا و تسمى العطية صلة فتقول: وصلت إلى فلان صلة فلان)، وكذلك قوله تعالى فى الرحم: (من وصلها....) يعنى وصلته بفضلى ونعمى، وصلة العبد ربه فتعطفه على ذوى أرحامه من قبل أبيه وأمه بنوافل فضله. فإن قال: أفما يكون المرء واصلا رحمه إلا بتعطفه عليهم بفضل ماله؟. قيل: للبر بالأرحام مراتب ومنازل، وليس من لم يبلغ أعلى تلك المراتب يستحق اسم قاطع، كما من لم يبلغ أعلى منازل الفضل يستحق اسم الذم، فواصل رحمة بماله مستحق اسم واصل، وواصلها بمعونته ونصرته مستحق اسم واصل، وقد بين ذلك قوله عليه السلام فى حديث أنس: (صلوا أرحامكم ولو بالسلام) فأعلم عليه السلام أمته أن المتعاهد لرحمة بالسلام خارج عن معنى القاطع وداخل فى معنى الواصل، فواصلها بما هو أعلى وأكثر أحق أن يكون خارجا من معنى القاطع. وقول غيره: يقال: هذا شجر متشجن إذا التف بعضه ببعض. قال أبو عبيد: وفيه لغتان: شجنة وشجنة بكسر الشين وضمها. قال الطبرى: الشجنة الفعلة من قولهم شجن فلان على فلان إذا حزن عليه فشجن عليه شجنًا، والمعنى أن الرحم حزينة مستعيذة بالله من القطيعة.
- فيه: عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، سَمِعْتُ النَّبِى صلى الله عليه وسلم جِهَارًا غَيْرَ سِرٍّ، يَقُولُ: (إِنَّ آلَ أَبِى لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِى، إِنَّمَا وَلِيِّىَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنْ لَهُمْ رَحِمٌ، أَبُلُّهَا بِبَلاهَا). قال المهلب: إن آل أبى ليسوا بأوليائى، إنما وليى الله وصالح المؤمنين، فأوجب عليه السلام الولاية بالدين ونفاها عن أهل رحمه، إذ يكونوا من أهل دينه، فدل ذلك أن النسب محتاج إلى الولاية التى بها تقع الوراثة بين المتناسبين والقارب، فإن لم يكن لهم دين يجمعهم لم تكن ولاية ولا موارثة، ودل عذا أن الرحمن التى تضمن الله أن يصل من وصلها ويقطع من قعها، إنما ذلك كان فى الله وفيهما شرع، وأما من قطعها فى الله وفيما شرع فقد وصل الله والشريعة واستحق صلة الله بقطعه من قطع الله. قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا عدوى وعدوكم (وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان (وقال: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شىء حتى يهاجروا (فكيف بمن لم يؤمن؟. وقوله: (ولكن لهم رحم إبلها ببلالها) يعنى: أصلها بمعروفها والبل هو الترطيب والتنديه بالمعروف، وشبه عليه السلام صلة الرحم بالمعروف بالشىء اليابس يندى فيرطب، وذلك أن العرب تصف الرجل إذا وصفته باللؤم بجمود الكف فتقول: ماتندى كفه بخير وأنه لحجر صلد، يعنى لا يرجى نائله، ولايطمع فى معروفه، كما لايرجى من الحجر الصلد مايشرب، فإذا وصل الرجل رحمه بمعروفه قالوا: بل رحمه بلا وبلالا قال الأعشى: ووصال رحم قد نضحت باللها وإنما ذلك تشبيه من النبى عليه السلام صلة الرجل رحمه بالنار يصب عليها بالماء فتطفأ. قال المهلب: فقوله عليه السلام: (ولكن لهم رحم ابلها ببلالها) هو الذى أمره الله تعالى به فى كتابه فقال: (وصاحبهما فى الدنيا معروفا (فلما عصوه وعاندوه دعا عليهم فقلا: (اللهم أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف) فلما مسهم الجوع أرسلوا اليه قالوا: يامحمد، إنك بعثت بصلة الرحم، وإن أهلك قد جاعوا فادع الله لهم، وذلك مما لايقدح فى دين الله، ألا ترى صنعه عليه السلام فيهم إذ غلب عليهم يوم الفتح من الرق الذى كان توجه إليهم فسموا بذلك الطلقاء، ولم ينتهك حريمهم، ولا استباح أموالهم ومن عليهم، وهذا كله من البلال.
- فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم (لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِى إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا). قال المؤلف: قوله عليه السلام: (ليس الواصل بالمكافىء) يعنى: ليس الواصل رحمه من وصلهم مكافأة لهم على صلة تقدمت منهم إليه فكافأهم عليها بصلة مثلها. وقد روى هذا المعنى عن عمر بن الخطاب، روى عبد الرزاق، عن معمر، عمن سمع عكرمة يحدث عن ابن عباس قال: قال عمر ابن الخطاب: (ليس الواصل أن تصل من وصلك، ذلك القصاص، ولكن الواصل أن تصل من قطعك). قال المؤلف: هذا حقيقة الواصل الذى وعد الله عباده عليه جزيل الأجر، قال تعالى: {والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم..) الآيات.
- فيه: حَكِيمَ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ، مِنْ صِلَةٍ وَعَتَاقَةٍ وَصَدَقَةٍ، هَلْ لِى فِيهَا مِنْ أَجْرٍ؟ فَقَالَ عليه السَّلام: (أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ). فى هذا الحديث تفضل الله على من أسلم من أهل الكتاب وأنه بعطى ثواب ماعمله فى الجاهلية من أعمال البر، وهو مثل قوله عليه السلام: (إذا أسلم الكافر فحسن إسلامه كتب الله كل حسنة كان زلفها) فهذا- والله أعلم- بركة الإسلام وفضله. وقد تقدم هذا فى كتاب الزكاة فى باب من تصدق فى الشرك ثم أسلم.
- فيه: أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ، قَالَتْ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَبِى، وَعَلَى قَمِيصٌ أَصْفَرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (سَنَهْ، سَنَهْ)- قَالَ عَبْدُاللَّهِ وَهِى بِالْحَبَشِيَّةِ: حَسَنَةٌ- قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، فَزَبَرَنِى أَبِى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (دَعْهَا)، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَبْلِى وَأَخْلِقِى، ثُمَّ أَبْلِى وَأَخْلِقِى، ثُمَّ أَبْلِى وَأَخْلِقِى)، ثلاث مرات، قَالَ عَبْدُاللَّهِ: فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ. قال المؤلف: فى هذا الحديث من الفقه أنه يجوز مباشرة الرجل الصبية الصغيرة التى لايشتهى مثلها وممازحتها وإن لم تكن منه بذات محرم؛ لأن لعب أم خالد وهى صبية بمكان خاتم النبوة من جسد النبى عليه السلام ماشرة منها لرسول الله، ومباشرتها له كمباشرته لها وتقبيله إياها، ولو كان ذلك حرامًا لنهاها كما نهى الحسن بن على وهو صغير عن اكل التمرة الساقة التى خشى أن تكون من الصدقة المحرمة على النبى عليه السلام وعلى آله. وقد اختلف أصحاب مالك من هذا الصل فى الصبية الصغيرة تموت هل يغسلها الرجل غير ذى الرحم منها؟ فقال اشهب: لاباس أن يغسلها إذا لم تكن ممن تشتهى لصغرها، وهو قول عيسى بن دينار، وقال ابن القاسم: لايغسلها لحال. وقول عيسى واشهب له هذا الحديث، وذكر ابن مزين قول ابن القاسم وعيسى وذكر ابن حارث قول اشهب.
وَقَالَ ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ: أَخَذَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ. - فيه: ابْن عُمَر، أن رجلاً سَأَلَهُ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ؟ فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، قَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا يَسْأَلُنِى عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ، وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم، وَسَمِعْتُ النَّبِى صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (هُمَا رَيْحَانَتَاىَ مِنَ الدُّنْيَا). - وفيه: عَائِشَةَ، جَاءَتْنِى امْرَأَةٌ وَمَعَهَا ابْنَتَانِ، تَسْأَلُنِى فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِى غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: (مَنْ يَلِى مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئًا، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ، كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ). - وفيه: أَبُو قَتَادَةَ، خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِىُّ عليه السَّلام وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِى الْعَاصِ عَلَى عَاتِقِهِ، فَصَلَّى فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَ، وَإِذَا رَفَعَ رَفَعَهَا. - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَبَّلَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ، وَعِنْدَهُ الأقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِىُّ جَالِسًا، فَقَالَ الأقْرَعُ: إِنَّ لِى عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: (مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ). - وفيه: عَائِشَةَ، جَاءَ أَعْرَابِى إِلَى النَّبِى صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ، فَمَا نُقَبِّلُهُمْ، فَقَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ). - وفيه: عُمَر، قَدِمَ عَلَى النَّبِى صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْىِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِى، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِى السَّبْىِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: (أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِى النَّارِ)؟ قُلْنَا: لا وَهِىَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: (لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا). قال المؤلف: رحمة الولد الصغير ومعانقته وتقبيله والرفق به من الأعمال التى يرضاها الله ويجازى عليها، الا ترى قوله عليه السلام للأقرع بن حابس حين ذكر عند النبى أن له عشرة من الولد ماقبل منهم أحدًا: (من لا يرحم لا يرحم) فدل أن تقبيل الولد الصغير وحمله والتحفى به ممايستحق به رحمة الله، ألا ترى حمل النبى عليه السلام أمامه ابنه أبى العاص على هنقه فى الصلاة، والصلاة أفضل الأعمال عند الله، وقد أمر عليه السلام بلزوم الخشوع فيها ولإقبال عليها، ولم يكن حمله لها مما يضاد الخشوع المأمور به فيها، وكره أن يشق عليها لو تركها ولم يحملها فى الصلاة و فى فعله عليه السلام ذلك أعظم السوة لنا فينبغى الاقتداء به فى رحمته صغار الولد وكبارهم والرفق بهم، ويجوز تقبيل الولد الصغير فى سائر جسده. وروى جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس: (أن النبى عليه السلام أتى بالحسن بن على ففرج بين فخديه وقبل زبيبته). وأما تقبيل كبار الولد وسائر الأهل فقد رخص فى ذلك العلماء. قال اشهب: سئل مالم عن الذى يقدم من سفره فتلقاه ابنته تقبله أو اخته أو أخل بيته؟ قال: لابأس بذلك. وهذا على وجه الرقة وليس على وجه اللذة، وقد كان عليه السلام يقبل ولده وبخاصة فاطمة، وكان أبو بكر يقبل عائشة، وقد فعل ذلك أكثر أصحاب النبى عليه السلام وذلك على وجه الرحمة. وفى حديث ابن عمر من الفقه أنه يجب على المرء أن يقدم تعليم ما هو أوكد عليه من أمر دينه، وأن يبدأ بالاستغفار والتوبة من أعظم ذنوبه وإن كانت التوبة من جميعها فرضًا عليه فهى من الأعظم أوكد، ألا ترى ابن عمر أنكر على السائل سؤاله عن حكم دم البعوض وتركه الاستغفار والتوبة من دم الحسين، وقرعه به دون سائر ذنوبه لمكانته من النبى- عليه السلام. وقوله فى حديث عائشة: (من بلى من هذه البنات شيئًا كن له سترًا من النار) دليل أن أجر القيام على البنات أعظم من أجر القيام على البنين، إذ لم يذكر عليه السلام مثل فى القيام على البنين، وذلك والله أعلم من أجل أن مؤنة البنات والاهتمام بأمورهن أعظم من أمور البنين لأنهن عذرات لا يباشرون أمورهن ولا يتصرفن تصرف البنين.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أنّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ فِى مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِى الأرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ). قال المؤلف: قد جاء هذا الحديث فى كتاب الزهد فى باب الرجاء والخوف بغير هذا اللفظ أن النبى عليه السلام قال: (إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة، وأرسل فى خلقه كلهم رحمة واحدة). قال المهلب: هذه الرحمة هى رحمته التى خلقها لعباده وجعلها فى نفوسهم، والتى أمسك عند نفسه هى مايتراحمون به يوم القيامة ويتغافرون من التباعات التى كانت بينهم فى الدنيا، وقد يجوز أن تستعمل تلك الرحمة المخلوقة فيهم بها سوى رحمته التى وسعت كل شىء، التى لايجوز أن تكون مخلوقة، وهى صفة من صفات ذاته تعالى لم يزل موصوفًا بها، فهى التى يرحمهم بها زائدًا على الرحمة التى جعلها لهم، وقد يجوز أن تكون الرحمة التى أمسكها عند نفسه هى التى عند ملائكته المستغفرين لمن فى الأرض؛ لأن استغفارهم لهم دليل على أن فى نفوس الملائكة رحمة على أهل الأرض، والله أعلم.
- فيه: عَبْدِاللَّهِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: (أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا، وَهُوَ خَلَقَكَ)، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: (أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ)؟ الحديث. إنما جعل النبى قتل الولد خشية أن يأكل مع أبيه أعظم الذنوب بعد الشرك؛ لأن ذلك يجمع القتل وقطع الرحم ونهاية البخل وإنما ذكر البخارى هذا الحديث بإثر باب رحمة الولد وتقبيله؛ ليعلمنا أن قتل الولد خشية أن يأكل مع أبيه من أعظم الذنوب عند الله بعد الشرك به، فإذا كان كذلك فرحمته وصلته والإحساس إليه من أعظم أعمال البر بعد الإيمان.
- فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِى صلى الله عليه وسلم وَضَعَ صَبِيًّا فِى حَجْرِهِ يُحَنِّكُهُ، فَبَالَ عَلَيْهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ، فَأَتْبَعَهُ. كان المسلمون إذا ولد لهم ولد يأتون به إلى الرسول فيحنكه بريقه ويدعو له عليه السلام تبركًا بريقه ودعوتخ، وكان يأخذ الصبى ويضعه فى حجره، ولا يتقزز منه خشية مايكون منه من الحدث، ألا ترى أنا بال فى ثوبه فأتبعه بالماء ولم يضجر من ذلك، فينبغى الاقتداء به فى ذلك، وأن يتوخى المؤمنون بأولادهم أهل الفضل والصلاح منهم فيحملونهم إليهم ليدعوا تاسيًا بفعل النبى فى ذلك.
- فيه: أُسَامَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم يَأْخُذُنِى، فَيُقْعِدُنِى عَلَى فَخِذِهِ، وَيُقْعِدُ الْحَسَنَ عَلَى فَخِذِهِ الأخْرَى، ثُمَّ يَضُمُّهُمَا، ثُمَّ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا فَإِنِّى أَرْحَمُهُمَا). وضع الصبى على الفخد هو من باب رحمة الولد، وقد تقدم أنه عليه السلام كان يحمل ابنه أبى العاصى بن الربيع حفيدته على عنقه فى الصلاة وهو أكثر من إجلاسه للحسن ولأسامة على فخديه فى غير الصلاة. وفيه: مساواة الرجل لبنه ولمن تبناه فى الرفق والرحمة والمنزلة.
- فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَلَقَدْ هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِى بِثَلاثِ سِنِينَ لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا، وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِى الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيَذْبَحُ الشَّاةَ، ثُمَّ يُهْدِى فِى خُلَّتِهَا مِنْهَا. قال المؤلف: حسن العهد فى هذا الحديث هو إهداء النبى عليه السلام اللحم لأجوار خديجة ومعارفها رعيًا منه لذمامها وحفظًا لعهدها كذلك قال أبو عبيد: العهد فى هذا الحديث الحفاظ ورعاية الحرمة والحق، فجعل ذلك البخارى من الإيمان؛ لأنه فعل بر وجميع أفعال البر من الإيمان. وقولها: (ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت فى الجنة من قصب) فالقصب قصب اللؤلؤ، وهو مااستطال منه فى تجويف، وكل مجوف قصب. وقولها: (ببيت) أى بقصر يقال: هذا بيت فلان أى قصره. قاله أبو سليمان الخطابى. وقد روى أن خديجة قالت لرسول الله حين بشرها بذلك: (ما بيت من قصب؟ بيت من لؤلؤ مجبأة) وفسره ابن وهب قال يريد: مجوفة. قال أبو سليمان: وهذا لا يستقيم على ما قاله ابن وهب إلا أن يكون من المقلوب فتكون مجوبة من الجوب وهو القطع قدم الباء على الواو كقوله تعالى: هار والصل هائر، وكقول الشاعر: لاث به الشياء والعبرى *** وإنما هو لائث وقوله: لاوصب فيه ولا نصب أى لا أذى فيه ولا عناء
- فيه: سَهْل، قَالَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم (أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِى الْجَنَّةِ هَكَذَا، وَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى). قال المؤلف: حق على كل مؤمن يسمع هذا الحديث أن يرغب فى العمل به ليكون فى الجنة رفيقًا للنبى عليه السلام ولجماعة النبيين والمرسلين- صلوات الله عليهم أجمعين- ولا منزلة عند الله فى الآخرة أفضل من مرافقة الأنبياء. وقد روى أبان القطان وحماد بن سلمة، عن أبى عمران الجونى (أن رجلاً شكا إلى النبى عليه السلام فسوة قلبه فقال: امسح بيدك على راس اليتيم، واطعمه من طعامك يلن قلبك وتقدر على حاجتك). والسباحة: هى الأصبع التى تلى الابهام، وسميت بذلك لأنها يسبح بها فى الصلاة، وتسمى أيضًا السبابة لأنها يسب بها الشيطان فى التشهد.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (السَّاعِى عَلَى الأرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ كَالَّذِى يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ). قال المؤلف: من عجز عن الجهاد فى سبيل الله وعن قيام الليل وصيام النهار، فليعمل بهذا الحديث وليسع على الرامل والمساكين ليحشر يوم القيامة فى جملة المجاهدين فى سبيل الله دون أن يخطو فى ذلك خطوة، أو ينفق درهمًا، أو يلقى عدوًا يرتاع بلقائه، أو ليحشر فى زمرة الصائمين والقائمين وينال درجتهم وهو طاعم نهاره نائم ليلة أيام حياتو، فينبغى لكل مؤمن أن يحرص على هذه التجارة التى لاتبور، ويسعى على ارملة أو مسكين لوجه الله تعالى فيربح فى تجارته درجات المجاهدين والصائمين والقائمين من غير تعب ولانصب، ذلك فضل الله يوتيه من يشاء.
- فيه: مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، أَتَيْنَا النَّبِى صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، فَظَنَّ أَنَّا اشْتَقْنَا إِلى أَهْلَنَا، وَسَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا فِى أَهْلِنَا، وَكَانَ رَفِيقًا رَحِيمًا، فَقَالَ: (ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ، فَعَلِّمُوهُمْ...) إلى آخر الحديث. - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِى بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا، فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِى كَانَ بَلَغَ بِى، فَنَزَلَ الْبِئْر، َفَمَلأ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، فَسَقَى الْكَلْب، َ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ لَنَا فِى الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ فَقَالَ: (نَعَمْ، فِى كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ). - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَامَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم لِصَلاةٍ، وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقَالَ أَعْرَابِى- وَهُوَ فِى الصَّلاةِ-: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِى وَمُحَمَّدًا، وَلا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا، فَلَمَّا سَلَّمَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم، قَالَ لِلأعْرَابِىِّ: (لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا، يُرِيدُ رَحْمَةَ اللَّهِ). - وفيه: النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِى تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى). - وفيه: أَنَس، قَالَ: قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ غَرَسَ غَرْسًا، فَأَكَلَ مِنْهُ إِنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ، إِلا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ). - وفيه: جَرِير، قَالَ: قَالَ عليه السَّلام: (مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ). قال المؤلف: فى هذه الأحاديث الحض على استعمال الرحمة للخلق كلهم كافرهم ومؤمنهم ولجميع البهائم والرفق بها. وأن ذلك مما يغفر الله به الذنوب ويكفر به الخطايا، فينبغى لكل مؤمن عاقل أن يرغب فى الأخذ بحظه من الرحمة، ويستعملها فى أبناء جنسه وفى كل حيوان، فلم يخلقه الله عبثًا، وكل أحد مسئول عما استرعيه وملكه من إنسان أو يهيمة لاتقدر على النطق وتبيين مابها من الضر، وكذلك ينبغى أن يرحم كل بهيمة وإن كانت فى غير ملكه، ألا ترى أن الذى سقى الكلب الذى وجده بالفلاة لم يكن له ملكًا فغفر الله له بتكلفة النزول فيالبئر وإخراجه الماء فى خفه وسقيه إياه، وكذلك كل مافى معنى السقى من الإطعام، الا ترى قوله عليه السلام: (ما من مسلم غرس غرسًا فأكل منه إنسان أو دابة إلا كان له صدقة). مما يدخل فى معنى سقى البهائم وإطعامها التخفيف عنها فى أحمالها وتكليفها ماتطيق حمله، فذلك من رحمتها والإحسان اليها، ومن ذلك ترك التعدى فى ضربها وأذاها وتسخيرها فى الليل وفى غير أوقات السخرة، وقد نهينا فى العبيد أن نكلفهم الخدمة فى الليل فإن لهم الليل ولواليهم النهار، والواب وجميع البهائم داخلون فى هذا المعنى. وفى قوله عليه السلام: (مامن مسلم غرس غرسًا فأكل منه إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة) دليل على أن ماذهب من مال المسلم بغير علمه أنه يؤجر عليه. وأما إنكار على الأعرابى الذى قال: اللهم ارحمنى ومحمدًا ولاترحم معنا أحدًا، بقوله: (لقد حجرت واسعًا) ولم يعجبه دعاؤه لنفسه وحده، فلأنه بخل برحمة الله على خلقه، وقد أثنى الله على من فعل خلاف ذلك بقوله: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولاتجعل فر قلوبنا غلا للذين آمنوا) و أخبر تعالى أن الملائكة يستغفرون لمن فى الأرض، فينبغى للمؤمن الاقتداء بالملائكة والصالحين من المؤمنين ليكون من جملة من أثنى الله عليه ورضى فعله، فلم يخص نفسه بالدعاء دون إخوانه المؤمنين حرصًا على شمول الخير لجميعهم.
وقوله عز وجل: {ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا..} الآية - فيه: عَائِشَةَ، وَابْن عُمَر، قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (مَا زَالَ يُوصِينِى جِبْرِيلُ بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ). قال المؤلف: فى هذه الآية والحديث الأمر بحفظ الجار والإحسان إليه والوصاة برعى ذمته والقيام بحقوقه، ألا ترى تأكيد الله لذكره بعد الوالدين والأقربين، فقال تعالى: {والجار ذى القربى والجار الجنب) وقال أهل التفسير: (الجار ذى القربى) هو الذى بينك وبينه قرابة فله حق القرابة وحق الجوار. وعن ابن عباس وغيره: (الجار ذى القربى) أى الجار المجاور، وقيل: هو الجار المسلم، والجار الجنب: الغريب عن ابن عباس. وقيل: هو الذى لاقرابة بينك وبينه. والجنابة: البعد. (والصاحب بالجنب) الرفيق فى السفر عن ابن عباس، وعن على وابن مسعود: الزوجة. (وابن السبيل) المسافر الذى يجتاز بك مارًا عن مجاهد وغيره.
يوبقهن: يهلكهن، موبقا: مهلكا - فيه: أَبُو شُرَيْح، قَالَ: قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ الَّذِى لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ). قال المؤلف: وهذا الحديث شديد فى الحض على ترك أذى الجار، الا ترى أنه عليه السلام أكد ذلك بقسمه ثلاث مرات أنه لاؤمن من لايؤمن جاره بوائقه، ومعناه أنه لايؤمن الإيمان الكامل، ولا يبلغ أعلى درجاته من كان بهذه الصفة، فينبغى لكل مؤمن أن يحذر أذى جاره ويرغب أن يكون فى أعلى درجات الإيمان، وينتهى عما نهاه الله ورسوله عنه، ويرغب فيما رضياه وحضا العباد عليه. وقال أبو حازم المنزى: كان اهل الجاهلية أبر بالجار منكم هذا قائلهم يقول: نارى ونار الجار واحدة وإليه قبلى القدر ماضر جارًا لى أجاوره أن لايكون لبابه ستر أعمى إذا ماجورتى برزت حتى يواري جارتى الخدر.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ لا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ). فى هذا الحديث الحض على مهاداة الجار وصلته، وإنما اشار النبى عليه السلام بفرسن الشاة إلى القليل من الهدية، لا إلى إعطاء الفرسن لأنه لافائدة فيه، وقد قال عليه السلام لأبى تميمة الهجيمى: (لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تضع من دلوك فى إناء المستقى). وقد تقدم تفسير الفرسن فى كتاب الهبة.
- فيه: عَائِشَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِى جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِى؟ قَالَ: (إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا). قد تقدم فى آخر كتاب الشفعة وفى كتاب الهبة.
- فيه: جَابِرِ، عَنِ النَّبِى عليه السلام قَالَ: (كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ). - وفيه: أَبُو مُوسَى الأشْعَرِىِّ، قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: فَيَعْمَلُ بِيَدَيْهِ، فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ، وَيَتَصَدَّقُ، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ- أَوْ لَمْ يَفْعَلْ-؟ قَالَ: فَيُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: فَيَأْمُرُ بِالْخَيْرِ- أَوْ قَالَ: بِالْمَعْرُوفِ- قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: فَيُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ، فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ). قال المؤلف: المعروف مندوب إليه، ودل هذا الحديث أن يفعله صدقة عند الله يثبت المؤمن عليه ويجازيه به وإن قل لعموم قوله: (كل معروف صدقة). وقوله فى حديث أبى موسى: (على كل مسلم صدقة) معناه: أن ذلك فى كرم الأخلاق وآداب الإسلام، وليس لك بفرض عليه للإجماع على أن كل فرض فى الشريعة مقدر محدود. وفي هذا الحديث تنبيه للمؤمن المعسر على أن يعمل بيده وينفق على نفسه ويتصدق من ذلك ولايكون عيالا على غيره، وقال مالك بن دينار: قرأت فى التوراة: (طوبى للذى يعمل بيده ويأكل، طوبى لمحياه، وطوبى لمماته). وروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: يامعشر القراء خذوا طريق من كان قبلكم وارفعوا رءوسكم، ولاتكونوا عيالا على الناس. وفيه: أن المؤمن إذا لم يقدر على باب من أبواب الخير ولا فتح له فعله أن ينتقل إلى باب آخر يقدر عليه، فإن أبواب الخير كثيرة والطريق إلى مرضاه الله تعالى غير معدومة، الا ترى تفضل الله على عبده حين جعل له فى حال عجزه عن الفعل عروضًا من القول وهو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ثم جعل عوضًا من ذلك لمن لم يقدر الإمساك عن الشر صدقة. قال المهلب: وهذا يشبه الحديث الآخر: (من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة). وفيه: حجة لمن جعل الترك عملاً وكسبًا للعبد بخلاف من قال من المتكلمين: إن الترك ليس بعمل، وقد بين النبى ذلك بقوله: (فليمسك عن الشر فإنه له صدقة).
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ). - فيه: عَدِىِّ، ذَكَرَ النَّبِى عليه السلام النَّارَ، فَتَعَوَّذَ مِنْهَا، وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ النَّارَ، فَتَعَوَّذَ مِنْهَا، وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: (اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ). الكلام الطيب مندوب إليه وهو من جليل أفعال البر؛ لأن النبى عليه السلام جعله كالصدقة بالمال، ووجه تشبيهه على السلام الكلمة الطيبة بالصدقة بالمال هو أن الصدقة بالمال تحيا بها نفس المتصدق عليه ويفرح بها، والكلمة الطيبة يفرح بها المؤمن ويحسن موقعها من قلبه فاشتبها من هذه الجهة، الا ترى أنها تذهب الشحناء وتجلى السخيمة كما قال تعالى: {ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم) والدفع بالتى هى أحسن قد يكون بالقول كما يكون بالفعل. قال صاحب العين: أشاح بوجهه عن الشىء إذا نحاه، ورجل مشيح، وشائح، أى: حازم حذر.
- فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، قَالَتْ: عَائِشَةُ فَفَهِمْتُهَا، فَقُلْتُ: وَعَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَهْلا يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى الأمْرِ كُلِّهِ)، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (قَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ). - فيه: أَنَس، أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَامُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لا تُزْرِمُوهُ)، ثُمَّ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَيْهِ. في هذين الحديثين أدب عظيم من أدب افسلام، وحض الرفق بالجاهل والصفح والإغضاء عنه؛ لأن الرسول عليه السلام ترك مقابلة اليهود بمثل قولهم، ونهى عائشة من الإغلاط فى ردها، وقال: مهلا ياعائشة، إن الله يحب الرفق فى جميع الأمور؛ لعموم قوله: (إن الله يحب الرفق فى الأمر كله) وإن كان الانتصار بمثل ماقوبل به المرء جائز لقوله تعالى: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ماعليهم من سبيل) فالصبر أعظم أجرًا وأعلى درجة لقوله تعالى: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) والصبر أخلاق النبيين والصالحين، فيجب امتثال طريقتهم والتآسى بهم وقرع النفس عن المغالبة رجاء ثواب الله على ذلك وكذلك رفق النبى بالأعرابى الجاهل حين بال فى المسجد المعظم الذى الصلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وأمر أن لايهاج حتى يفرغ من بوله تأنيسًا له ورفقًا به، فدل ذلك على استعمال الرفق بالجاهل- فإنه بخلاف العالم- وترك اللوم له والنثريب عليه. وقال أبو عبيد: قال الأصمعى: الإزرام: القطع، يقال للرجل إذا قطع بوله: قد أزرمت بولك، وأزرمه غيره: قطعه، وزرم البول نفسه. قال الشاعر: أو كماء المثود بعد جمام *** زرم الدمع لا يئوب نزورا والمثمود: الذى قد ثمده الناس أى: ذهبوا به فلم يبق منه إلا قليل، والجمام: الكثير. قال صاحب العين: زرم البول والدمع: انقطع. وزرم السنور والكلب زرمًا إذا بقى جعره فى دبرة فهو أزرم.
- فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ....) الحديث. قال المؤلف: تعاون المؤمنين بعضهم بعضًا فى أمور الدنيا والآخرة مندوب إليه بهذا الحديث، وذلك من مكارم الأخلاق، وقد جاء فى حديث آخر عن النبى صلى الله عليه وسلم: (الله فى عون العبد ما دام العبد فى عون أخيه) فينبغى للمؤمنين استعمال آدب نبيهم والاقتداء بما وصف المؤمنين بعضهم لبعض من الشفقة والنصيحة، وتشبيكه بيه اصابعه تاكيدًا لقوله وتمثيلا لهم كيف يكونون فيما خولهم من ذلك. وفيه: أن العالم إذا أراد المبالغة فى البيان أنه يمثل لهم معنى أقواله بحركاته وسيأتى شىء من الكلام فى معنى هذا الحديث فى باب الحب فى الله بعد هذا- إن شاء الله تعالى.
- فيه: أَبُو مُوسَى، أن النَّبِى عليه السلام كَانَ إِذَا أَتَاهُ السَّائِلُ، أَوْ صَاحِبُ الْحَاجَةِ، قَالَ: (اشْفَعُوا، فَلْتُؤْجَرُوا، وَلْيَقْضِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَا شَاءَ). قال المؤلف: فى هذا الحديث الخص على الشفاعة للمؤمنين فى حوائجهم، وأن الشافع مأجور وإن لم يشفع فى حاجته، وقال أهل التأويل فى قوله تعالى: {من يشفع شفاعة حسنة) يعنى فى الدنيا (يكن له نصيب منها) فى الآخرة. وقال مجاهد وغيره: نزلت هذه الآية فى شفاعة الناس بعضهم لبعض. وقد قيل فى الاية أقوال أخر، قيل: الشفاعة الحسنة: الدعاء للمؤمنين، والسيئة: الدعاء عليهم، وكانت اليهود تدعو عليهم. وقيل: هو فى قول اليهود: السام عليكم. وقيل: معناه من يكن شفيعًا لصاحبه فى الجهاد يكن له نصيبه من الأجر. ومن يكن شفيعًا لآخر فى باطل يكن له نصيبه من الوزر. والكفل: الوزر والإثم عن الحسن وقتادة. والقول الأول اشبه بالحديث وأولاها بتأويل الآية.
- فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَأَنَّهُ ذَكَر النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلا مُتَفَحِّشًا. - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ يَهُودَ أَتَوُا النَّبِى صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَتْ: عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ: (مَهْلا يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ)، قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: (أَوَلَمْ تَسْمَعِى مَا قُلْتُ، رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِى فِيهِمْ، وَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِىَّ). - وفيه: أَنَس، قَالَ: لَمْ يَكُنِ النَّبِى عليه السلام سَبَّابًا، وَلا فَحَّاشًا، وَلا لَعَّانًا كَانَ يَقُولُ لأحَدِنَا عِنْدَ الْمَعْتِبَةِ: (مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ). - وفيه: عَائِشَةَ: أَنَّ رَجُلا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِى صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: (بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ، وَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ)، فَلَمَّا جَلَسَ، تَطَلَّقَ النَّبِى عليه السلام فِى وَجْهِهِ، وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ، قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ، قُلْتَ: لَهُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِى وَجْهِهِ، وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَتَى عَهِدْتِنِى فَحَّاشًا؟ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ). قال الطبرى: الفاحش: البذىء اللسان، وأصل الفحش عند العرب فى كل شىء خروج عن مقداره وحده حتى يستقبح، ولذلك يقال للرجل المفرط الطول الخارج عن طول الناس المستحسن: فاحش الطول، يراد به قبيح الطول غير أن أكثر ما استعمل ذلك فى الانسان إذا وصف بشىء فالأغلب أن معناه فاحش منطقه، بذىء لسانه، ولذلك قيل للزنا فاحشة لقبحة وخروجه عما أباحه الله لخلقه. وقد قيل فى قوله تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة) معناه والذين إذا زنوا. قال المؤلف: والفحش والذاء مذموم كله، وليس من أخلاق المؤمنين. وقد روى مالك عن يحى بن سعيد أن عيسى ابن مريم لقى خنزيرًا فى طريق فقال له: أنفذ بسلام فقيل له: تقول هذا لخنزيرًا فقال عيسى ابن مريم: إنى أخاف أن أعود لسانى المنطق السوء. فيبغى لمن الهمه الله رشه أن يجنبه ويعود لسانه طيب القول ويقتدى فى ذلك بالآنبياء- عليهم السلام- فهم الأسوة الحسنة. وفى حديث عائشة أنه لاغيبة فى الفاسق المعلن وإن ذكر بقبيح أفعاله. وفيه: جواز مصانعه الفاسق وإلانه القول لمنفعة ترجى منه، وهذا ابن العشيرة هو عيينه بن بدر الفزارى وكان سيد قومه، وكان يقال له: الأحمق المطاع، رجا النبى عليه السلام بإقباله عليه أن يسلم قومه، كما رجا حين أقبل على المشرك وترك حديثه مع ابن مكتوم الأعمى، فأنزل الله تعالى: {عبس وتولى أن جاءه الأعمى) وإنما أقبل عليه يحدثه رجاء أن تسلم قبيلته بإسلامه. وسأذكر فى باب المدارة مع الناس فى الجزء الثانى من الأدب زيادة فى هذا.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِى عليه السلام أَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِى رَمَضَانَ. وقال أَبُو ذَرٍّ: لَمَّا بَلَغَهُ مَبْعَثُ النَّبِى صلى الله عليه وسلم لأخِيهِ: ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِى، فَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ، فَرَجَعَ، فَقَالَ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الأخْلاقِ. - فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِى عليه السلام أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ... الحديث. - وفيه: جَابِر، مَا سُئِلَ النَّبِى عليه السلام عَنْ شَىْءٍ قَطُّ، فَقَالَ: لا. - وفيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو لَمْ يَكُنْ النَّبِىّ عليه السلام فَاحِشًا، وَلا مُتَفَحِّشًا، وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: (إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاقًا). - وفيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السلام، بِبُرْدَةٍ- وهِىَ شَمْلَةٌ مَنْسُوجَةٌ- فَقَالَ رَجُل: مَا أَحْسَنَ هَذِهِ، فَاكْسُنِيهَا؟ فَقَالَ: (نَعَمْ)، فَلَمَّا قَامَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم لامَهُ أَصْحَابُهُ، قَالُوا: مَا أَحْسَنْتَ أَخَذَهَا النَّبِى عليه السلام مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ إِيَّاهَا، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لا يُسْأَلُ شَيْئًا فَيَمْنَعَهُ... الحديث. - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (تَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ، وَهو الْقَتْلُ). - وفيه: أَنَس، خَدَمْتُ النَّبِى عليه السلام عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِى: أُفٍّ، وَلا لِمَ صَنَعْتَ، وَلا أَلا صَنَعْتَ. قال المؤلف: حسن الخلق من صفات النبيين والمرسلين وخيار المؤمنين، وكذلك السخاء من أشرف الصفات؛ لأن الله تعالى سمى نفسه بالكريم الوهاب. وأما البخل فليس من صفات الأنبياء ولا الجلة الفضلاء، ألا ترى قول الرسول يوم حنين: (لو كان عندى عدد سمر تهامة نعمًا لقسمته بينكم ثم لا تجدونى بخيلاً). وقال ابن مسعود: لاداء أدوى من البخل، وكان أبو حنيفة لايجيز شهادة البخيل، فقيل له فى ذلك: أنه يتقصى ويحمله التقصى على أن يأخذ فوق حقه. وقال الطبرى: إن قال قائل: وجه قوله صلى الله عليه وسلم: (خياركم أحسانكم أخلاقًا) وهل الأخلاق مكتسبة فيتخر العبد منها أحسنها ويترك اقبحها؟ فإن كان ذلك كذلك فما وجه قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم كما حسن خلقى فحسن خلقى) ومسألته عليه السلام ما سأل ربه من ذلك بتحسين خلقه،، وأنت عالم أنه لا يحسن خلق العبد غير ربه، فإذا كان الخلق فعلاً له لم يكن له أيضًا محسن غيره، وفى ذلك بطلان حمد العبد عليه إن حسنًا وترك ذمه إن كان سيئًا، فإن قلت ذلك كذلك قيل لك ما وجه قوله عليه السلام: (أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وإن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم) وقد علمناه أن العبد إنما يثاب على مااكتسب لا على ماخلق له من أعضاء جسده؟. قيل: قد اختلف فى ذلك: فقال بعضهم: الخلق حسنة وقبيحه جبله فى العبد كلونه وبعض أجزاء جسمه. ذكر من قال ذلك: روي عن ابن مسعود أنه ذكر عنده رجل فذكروا من خلقه فقال: أرأيتم لو قطعوا راسه أكنتم تستطيعون أن تجعلوا له رأسًا؟ قالوا: لا. قال: فلو قطعتم يده أكنتم تجعلون له يدًا؟ قالوا: لا، قال: فإنكم لن تستطيعوا أن تغيروا خلقه حتى تغيروا خلقه. وقال ابن مسعود: فرغ من اربعة: الخلق والخلق والرزق والأجل. وقال الحسن: من أعطى حسن صورة وخلقًا وزوجة صالحة فقد اعطى خير الدنيا والآخرة. واعتلوا بما رواه الهمدانى: كان ابن مسعود يحدث عن النبى عليه السلام قال: (إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم) قالوا: فهذا الحديث يبين أن الأخلاق من إعطاء الله عباده، ألا ترى تفاوتهم فيه كتفاوتهم بالجبن والشجاعة والبخل والجود، ولو كان الخلق اكتسابًا للعبد لم تختلف أحوال الناس فيه ولكن ذلك غريزة. فإن قيل: فإن كان كذلك فما وجه ثواب الله على حسن الخق إن كان غريزة؟. قيل له: لم يثبت على خلقه ما خلق، وإنما أثابه على استعماله ما خلق فيه من ذلك فيما أمره باستعماله فيه، نظير الشجاعة التى خلقها فيه وأمره باستعمالها عند لقاء عدوه وأثابه على ذلك، وإن استعملها فى غير لقاء عدوه عاقبه على ذلك، فالثواب والعقاب على الطاعة والمعصية لا هى ما خلق فى العبد. وقال آخرون: أخلاق العبد حسنها وسيئها إنما هى من كسبه واختياره فيحمد على الجميل منها، ويثاب على ماكان منها طاعة، ويعاقب على ماكان منها معصية، ولولا أنها للعبد كسب لبطل الأمر به والنهى عنه، وفى قول النبى عليه السلام لمعاذ: (اتق الله حيثما كنت، وخالق الناس بخلق حسن) البيان عن صحة ما قلناه؛ لأن ذلك لو كان طبعًا فى العبد هيأه الله عليه لاستحال الأمر به والنهى عن خلافه، كاستحالة أمر من لابصر له بأن يكون له بصر، فلذلك كان الحكماء يوصون بالحسن منه. وروى ابن عيينه، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر قال:: قال لى عمر بن الخطاب: يا قبيصة، أراك شابًا فصيح اللسان فسيح الصدر، وقد يكون فى الرجل عشرة أخلاق تسعة صالحة وخلق سيىء فيفسد التسعة الصالحة الخلق السيىء، فاتق عثرات الشباب. وقال الشعبى: قال صعصعة بن صوحان لابن أخية زيد بن صوحان: خالص المؤمن وخالق الفاجر، فإن الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن.
- فيه: عَائِشَةَ سُئلت مَا كَانَ النَّبِى عليه السلام يَصْنَعُ فِى أَهْلِهِ؟ قَالَتْ: كَانَ فِى مِهْنَةِ أَهْلِهِ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ قَامَ إِلَى الصَّلاةِ. قال المؤلف: أخلاق النبيين والمرسلين عليهم السلام التواضع والتذلل فى افعالهم، والبعد عن الترفه والتنعم، فكانوا يمتهنون أنفسهم فيما يعن لهم ليسنوا بذلك، فيسلك سبيلهم وتقتفى آثارهم. وقول عائشة: (كان فى مهنة أهله) يدل على دوام ذلك من فعله متى عرض له ما يحتاج إلى إصلاحه؛ لئلا يخلد إلى الدعة والرفاهية التى ذمها الله وأخبر أنها من صفات غير المؤمنين فقال تعالى: {فذورنى والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلا}. روى سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: (أنه سالها: ماكان عمل رسول الله فى بيه؟ قالت: يخصف النعل ويرقع الثوب). وقال فى حديث آخر: (أما أنا فأتتزر بالكساء وأجلس بالأرض وأحلب شاة أهلى). وقال ابن مسعود: إن الأنبياء من قبلكم كانوا يلبسون الصوف ويركبون الحمر ويحلبون الغنم. وهذه كانت سيرة سلف هذه الأمة. وسيأتى فى آخر كتاب الرقائق فى باب التواضع كثير من سيرتهم فى ذلك، إن شاء الله تعالى.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِى عليه السلام قَالَ: (إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِى جِبْرِيلُ فِى أَهْلِ السَّمَاءِ؛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِى أَهْلِ الأرْضِ). قوله: (ثم يوضع له القبول فى الأرض) يريد المحبة فى الناس، وقال بعض أهل التفسير فى قوله تعالى: {وألقيت عليك محبة مني) أى حببتك إلى عبادى، وقال ابن عباس فى قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودًا) قال: يحبهم ويحببهم إلى الناس. روى مالك حديث أبى هريرة، عن سهيل، عن أبيه، عن أبى هريرة وقال فيه مالك: لا أحسبه إلا قال فى البغض مثل ذلك. فدلت زيادة مالك فى هذا الحديث على خلاف ماتقوله القدرية أن الشر من فعل العبد وليس بخلق الله، وبان أن كل شىء من خير وشر ونفع وضر من خلق الله لا خالق غيره، تعالى عما يشركون.
- فيه: أَنَس، قال النَّبِى عليه السَّلام: (لا يَجِدُ أَحَدٌ حَلاوَةَ الإيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَحَتَّى أَنْ يُقْذَفَ فِى النَّارِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ، وَحَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا). قال المؤلف: صفة التحاب فى الله تعالى أن يكون كل واحد منهما لصاحبه فى تواصلهما وتحابهما بمنزلة نفسه فى كل مانابه، كما روى الشعبى عن النعمان بن بشير قال: سمعت النبى عليه السلام يقول: (مثل المؤمنين مثل الجسد إذا اشتكى منه شىء تداعي له سائر الجسد) وكقوله عليه السلام: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا). وروى شريك بن أبى نمر عن أنس قال النبى صلى الله عليه وسلم: (المؤمن مرآة المؤمن) ورواه عبد الله بن أبى رافع عن أبى هريرة، عن النبى عليه السلام وزاد فيه: (إذا رأى فيه عيبًا أصلحه). قال الطبرى: فالأخ فى الله كالذى وصف به رسول الله المؤمن للمؤمن وأن كل واحد منهما لصاحبه بمنزلة الجسد الواحد؛ لأن ماسر أحدهما سر الآخر وماسء أحدهما ساء الآخر، وأن كل واحد منهما عون لصاحبه فى أمر الدنيا والآخرة كالبنيان يشد بعضه بعضًا و كالمرآة له فى توقيفه إياه على عيوبه ونصيحته له فى المشد والمغيب وتعريفه إياه من خطة ومافيه صلاحه ما يخفى عليه، وهذا النوع من الإخوان فى زماننا كالكبريت الأحمر، وقد قيل هذه قبل هذا الزمان؛ كان يونس بن عبيد تقول: ما أنت بواجد شيئًا أقل من أخ فى الله صادق أو درهم طيب. فإن قال قائل: فأخبرنا عن الحب فى الله والبغض فيه أواجب هو أم فضل؟ قيل: بل واجب، هو قول مالك. فإن قيل: وما الدليل على ذلك؟ قيل: مارواه الأعمش عن أبى صالح، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (والذى نفسى بيده لاتدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم، افشوا السلام بينكم) وما أمرهم النبي فعليهم العمل به. ألا ترى أن أقسم عليه السلام جهد النية أن الناس لن يؤمنوا حتى يتحابوا ولن يدخلوا الجنة حتى يؤمنوا. فحق على كل ذى لب أن يخلص المودة والحب لأهل افيمان؛ فقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم: (أن الحب فى الله والبغض فى الله من أوثق عرى الإيمان)، من حديث ابن مسعود والبراء. وروى عن ابن مسعود قال: (أوحى الله إلى نبى من الأنبياء ان قل لفلان الزاهد: أما زهدك فى الدنيا فتعجلت به راحة نفسك وأما انقطاعك إلى فقد تعززت بى، فماذا عملت فيما لى عليك؟ قال: يارب وما لك على؟ قال: هل واليت فى وليًا أو عاديت فى عدوًا)؟.
|