الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***
- فيه: عَبْدِاللَّهِ ابْنِ زَمْعَةَ، نَهَى النَّبِى عليه السلام أَنْ يَضْحَكَ الرَّجُلُ مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ الأنْفُسِ، وَقَالَ: (بِمَ يَضْرِبُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ ضَرْبَ الْفَحْلِ، أَوِ الْعَبْدِ، ثُمَّ لَعَلَّهُ يُعَانِقُهَا). - فيه: وَقَالَ ابْن عُمَر:، قال النَّبِى عليه السلام بِمِنًى: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِى شَهْرِكُمْ هَذَا، فِى بَلَدِكُمْ هَذَا). قال المؤلف: قال أهل التفسير فى قوله تعالى: {لا يسخر قوم من قوم) لا يطعن بعضكم على بعض. وقال: لا يستهزى قوم بقوم (عسى أن يكونوا خير منهم) عند الله، ومن هذا المعنى نهيه عليه السلام أن يضحك مما يخرج من الأنفس: الأحداث الناقصة للوضوء؛ لأن الله تعالى سوىّ بين خلقه الأنبياء وغيرهم فى ذلك فقال تعالى فى مريم وعيسى- عليهما السلام-: (كانا يأكلان الطعام) كناية عن الغائط، ومن المحال أن يضحك أحد من غيره أو يعيره بما أتى هو مثله ولاينفك منه. وقد حرم الله تعالى عرض المؤمن كما حرم دمه وماله فلا يحل الهزء والسخرة بأحد، واصل هذا إعجاب المرء بنفسه وازدراء غيره، وكان يقال: من العجب ان ترى لنفسك الفضل على الناس وتمقتهم ولاتمقت نفسك. وقد روى ثابت عن أنس أن النبى عليه السلام قال: (لو لم تكونوا تذنبون لخشيت عليكم ماهو أكبر من ذلك: العجب العجب) وقال مطرف: لأن أبيت نائمًا وأصبح نادمًا أحب إلى من أن أبيت قائمًا واصبح معجبًا. وقال خالد الربعى: فى اإنجيل مكتوب: المستكبر على أخيه بالدين بمنزلة القاتل.
- فيه: عَبْدِاللَّهِ، قال: قال النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (سِبَابُ الْمُؤمن فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ). - وفيه: أَبُو ذَرٍّ، سَمِعَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (لا يَرْمِى رَجُلٌ رَجُلا بِالْفُسُوقِ، وَلا يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ، إِلا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ). - وفيه: أَنَس، قَالَ: لَمْ يَكُنْ النَّبِىّ عليه السلام فَاحِشًا، وَلا لَعَّانًا، وَلا سَبَّابًا، كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْمَعْتَبَةِ: (مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ). - وفيه: ثَابِتَ بْنَ الضَّحَّاكِ، أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام قَالَ: (مَنْ حَلَفَ عَلَى مِلَّةٍ غَيْرِ الإسْلامِ، فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ لَعَنَ مُؤْمِنًا فَهُوَ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ). - وفيه: سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ، اسْتَبَّ رَجُلانِ عِنْدَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم، فَغَضِبَ أَحَدُهُمَا، فَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى انْتَفَخَ وَجْهُهُ وَتَغَيَّرَ، فَقَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (إِنِّى لأعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِى يَجِدُ)، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ، فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ النَّبِى صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: (تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرجيم، فَقَالَ: أَتُرَى بِى بَأْسٌ؟ أَمَجْنُونٌ؟ أَنَا اذْهَبْ. - فيه: عُبَادَة، خَرَجَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم لِيُخْبِرَ النَّاسَ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلاحَى رَجُلانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ عليه السَّلام: (خَرَجْتُ لأخْبِرَكُمْ بِهَا، فَتَلاحَى فُلانٌ وَفُلانٌ، وَإِنَّهَا رُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا....) الحديث. - وفيه: أَبُو ذَرّ، قَالَ: كَانَ بَيْنِى وَبَيْنَ رَجُلٍ كَلامٌ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً فَنِلْتُ مِنْهَا، فَذَكَرَنِى إِلَى النَّبِى عليه السلام فَقَالَ لِى: (أَسَابَبْتَ فُلانًا)؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ)... الحديث. قال المؤلف: سباب المسلم فسوق؛ لأن عرضه حرام كتحريم دمه وماله، والفسوق فى لسان العرب: الخروج من الطاعة، فينبغى ببمؤمن أن لايكون سبابًا ولا لعنًا للمؤمنين ويقتدى فى ذلك بالنبى عليه السلام لأن السب سب الفرقة والبغضة، وقد من الله على المؤمنين بما جمعهم عليه من الفة افسلام فقال: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فالف بين قلوبكم) الآية، وقال: (إنما المؤمنون إخوة) فكما لا ينبغى سب أخيه فى النسب كذلك لاينبغى سب أخيه فى الإسلام ولا ملاحاتة. إلا ترى أن الله تعالى رفع معرفة ليلة القدر عن عباده وحرمهم علمها عقوبة لتلاحى الرجلين بحضرة النبى- عليه السلام. قال عليه السلام لأبى ذر لما سب الرجل الذى أمه أعجمية: (إنك أمرؤ فيك جاهلية). وهذا غاية فى ذم السب وتقبيحة؛ لأن أمور الجاهلية حرام منسوخة بالإسلام، فوجب على كل مسلم هجرانها واجتنباها، وكذلك الغضب هو من نزعات الشيطان فينبغى للمؤمن مغالبة نفسه عليه والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم فإن ذلك دواء للغضب، لقوله عليه السلام: (إنى لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الذى يجد) يعنى التعوذ بالله من الشيطان. وأما قوله: (وقتاله كفر) فمعناه التحذير له عن مقاتلة ومشادته والتغليظ فيه، يراد به: كالكفر فلا يقاتله وهذا كما يقال: الفقر الموت، أي كالموت، ونظير هذا قوله عليه السلام: (كفر بالله من انتفى من نسب وإن دق وادعى نسبًا لا يعرف) ولم يرد أن من انتفى من نسبه أو أدعى غير نسبه كان كافرًا خارجًا عن الإسلام، ومثله فى الكلام كثير، وقد تقدم فى باب خوف المؤمن أن يحبط عمله فى كتاب الإيمان وكذلك تقدم معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن المؤمن كقتله) فى كتاب الإيمان والنذور. وقوله عليه السلام: (ترب جبينه) معناه أصابه التراب ولم يرد الدعاء على مافسره أبو عمرو السيبانى فى قوله عليه السلام: (تربت يمينك).
وَقَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ)؟، وَمَا لا يُرَادُ بِهِ شَيْنُ الرَّجُلِ. - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ... الحديث... وَكَانَ فِى الْقَوْمِ رَجُلٌ كَانَ النَّبِى عليه السلام يَدْعُوهُ ذَا الْيَدَيْنِ، فَقَالَ: صَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ... الحديث. قال المؤلف: اختلف أهل التأويل فى قوله تعالى: {ولا تنابزوا بالألقاب) فروى الأعمش عن أبى جبيرة بن الضحاك قال: (كان أهل الجاهلية لهم الألقاب، للرجل منهم الاسمان والثلاثة، فدعا النبي عليه السلام رجلا منهم بلقبه فقالوا: يارسول الله، إنه يكره ذلك)، فنزلت الآية. وروى عن ابن مسعود والحسن وقتادة وعكرمة، أن اليهودى والنصرانى كان يسلم قيلقب به، فيقال: يا يهودى، يا نصارانى، فنهوا عن ذلك، ونزلت الآية. وعو ابن عيينه: لاتقل: كان يهوديًا ولا مشركًا. قال الطبرى: وقد رأى قوم من السلف أن وصف الرجل غيره بما فيه من الصفة غيبة له، قال شعبة: سمعت معاوية بن قرة يقول: لو مر بك أقطع فقلت: ذاك الأقطع، كانت منك غيبة. وعن الحسن: ألا تخافون أن يكون قولنا: حميد الطويل غيبة؟ وكان قتادة يكره أن يقال: كعب الأحبار، وسلمان الفارسي؛ ولكن كعب المسلم وسلمان المسلم، وروى سليمان الشيبانى، عن حسان ابن المخارق (أن امرأة دخلت على عائشة فلما قامت لتخرج أشارت عائشة بيدها إلى النبى عليه السلام أنها قصيرة، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: اغتبتها). وروى موسى بن وردان عن أبىهريرة (أن رجلاً قام عند النبى فرأو فى قيامه عجزًا، فقالوا: يا رسول الله، ما أعجز فلانًا قال رسول الله: أكلتم أخاكم واغتبتموه). قال الطبرى: وإنما يكون ذلك غيبة من قائله إذا قاله على وجه الذم والعيب للمقول فيه وهو له كاره، وعن مثل هذا ورد النهى، وأما إذا قاله على وجه التعريف والتميز له من سائر الناس كقولهم: يزيد الرشك، وحميد الأرقط، والأحنف بن قيس، والنسبية إلى الأمهات: كإسماعيل ابن علية وابن عائشة، فإن ذلك بعيد من معنى الغيبة ومن مكروه ماورد به الخبر. قال المؤلف: ويشد لصحة هذا قصة ذى اليدين، ويبين أن معنى النهى عن التنابز بالألقاب فى الآية أن يراد به عيب الرجل وتنقصه. قوله عليه السلام: (أصدق ذو اليدين) فعرفه بطول يديه ولم يذكر اسمه، ولو لم يجز ذلك ما ذكره النبى عليه السلام ولهذا استجاز العلماء ذكر العاهات لرواة الحديث، وروى أبو حاتم الرازى، حدثنا عبده قال: سل ابن المبارك عن الرجل يقول: حميد الطويل، وسليمان الأعمش، وحميد الأعرج، ومروان الأصفر. فقال عبد الله: إذا أراد صفته ولم يرد غيبته فلا باس به. وسئل عبد الرحمن بن مهدى عن ذلك. فقال: لا أراه غيبة، ربما سمعت شعبة يقول ليحى بن سعيد: ياأحول، ما تقول؟ يا أحول، ما ترى؟ ذكره ابن الفوطى فى كتاب الألقاب.
- فيه: ابْن عَبَّاس، مَرَّ النَّبِىّ عليه السلام عَلَى قَبْرَيْنِ، فَقَالَ: (إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِى كَبِيرٍ، أَمَّا هَذَا فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وَأَمَّا هَذَا فَكَانَ يَمْشِى بِالنَّمِيمَةِ). قال المؤلف: الغيبة قد فسرها النبى عليه السلام فى مرسل مالك عن الوليد بن عبد الله بن صياد (أن المطلب بن عبد الله بن حنطب أخبره أن رجلاً سأل النبى عليه السلام ما الغيبة؟ قال: أن تذكر من المرء ما يكره أن تسمع وإن كان حقًا، فإن قلت باطلا فذلك البهتان). وترجم البخارى باب الغيبة وذكر فيه حديث النميمة إذ هى فى معنى الغيبة لكراهية المرء أن يذكر عنه بظهر الغيب، فأشتبها من هذه الجهة والغيبة المحرمة عند أهل العلم فى اغتياب أهل الستر من المؤمنين ومن لايعلن بالمعاصى، فأما من جاهز بالكبائر فلا غيبة فيه، وروى عبد الرزاق عن معمر، عن زيد بن اسلم قال: إنما الغيبة فيمن لم يعلن بالمعاصى. وسأذكر غيبة أهل المعاصى فى باب مايجوز من اغتياب أهل الفساد، والغيبة من الذنوب العظام التى تحبط الأعمال. روى عن الرسول أنه قال: (الغيبة تاكل الحسنات كما تأكل النار الحطب). وقد قيل: أنها تفطر الصائم بإحباط أجره، وقد تأول بعض أهل العلم فى قوله عليه السلام: (أفطر الحاجم والمحجوم) أنهما كانا يغتابان على ما تقدم فى باب الصيام، ولذلك قال النخعى: ماأبالى اغتبت رجلا أم شربت ماء بارًا فى رمضان. وعنه عليه السلام أنه قال: (ما صام من ظل يأكل لحوم الناس). ولعظيم وزر الغيبة وكثرة ماتحبط من الأجر كف جماعة من العلماء عن اغتياب جميع الناس حتى لقد روى عن ابن المبارك أنه قال: لو كنت مغتابًا أحدًا لاغتبت والدي؛ لأنهما أحق الناس بحسناتى. وقال رجل لبعض السلف: إنك قلت فيّ. قال: أنت إذا أكرم على من نفسى؟ وقيل للحسن البصرى: إن فلانًا اغتابك، فبعث إليه طبقًا من الطرفّ، وقال: بلغنى أنك أهديت إلى حسناتك فأردت أن أكافئك بها. والآثار فى التشيد فيها كثيرة، وقد جاء حديث شريف فى أجر من نصر اغتيب عنده. روى عبد الرزاق، عن معمر، عن أبان، عن أنس: قال رسول الله: (من اغتيب عنده أخوه المسلم فنصره نصره الله فى الدنيا والآخرة، وإن لم ينصره أدركه الله به الدنيا والآخرة).
- وفيه: عَائِشَةَ، اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: (ائْذَنُوا لَهُ، بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ، أَوِ ابْنُ الْعَشِيرَةِ)، فَلَمَّا دَخَلَ أَلانَ لَهُ الْكَلامَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ الَّذِى قُلْتَ، ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْكَلامَ، قَالَ: (أَىْ عَائِشَةُ، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ، أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ، اتِّقَاءَ فُحْشِهِ). قال المؤلف: هذا الحديث اصل فى جواز اغتياب أهل الفساد، ألا ترى قوله للرجل: (بئس أخو العشيرة)؟ وإنما قال ذلك عليه السلام لما قد صح عنده من شره؛ لقوله عليه السلام فى آخر الحديث: (إن شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشة) وسيأتى معنى ذلك الكلام فى باب لم يكن النبى عليه السلام فاحشًا ولا متفحشًا. روى ابن وضاح، عن محمد بن المصفى حدثنا بقية بن الوليد، عن الربيع بن يزيد، عن أبان، عن أنس، عن النبى عليه السلام قال: (من خلع جلباب الحياء فلا غيبة فيه) وفسره ابن سعدان قال: معناه من عمل عملا قبيحًا كشفه للناظرين، ولم يرع وقوفهم عليه فلا باس بذكره عنه من حيث لايسمع؛ لأنه كمن أذن فى ذلك لكشفه عن نفسه، فأما من استتر بفعله فلا يحل ذكره لمن رآه؛ لأنه غير آذن فى ذكره وإن كان كافرًا. وقد سئل وهب عن غيبة النصرانى، فقال: لا وقولوا للناس حسنًا وهو من الناس (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه) فجعل هذا لهم مثلا. وفى الحديث: (اذكروا الفاسق بما فيه كى يحذروه الناس). قال ابن أبى زيد: يقال: لاغيبة فى أمير جائز ولاصاحب بدعة يدعو إليها، ولافيمن يشاور فى إنكاح أو شهادة ونحو ذلك، وقد قال الرسول عليه السلام لفاطمة بنت قيس حين شاورته فيمن خطبها إلى معاوية: (إن معاوية صعلوك لا مال له) وكذلك رأى الأئمة أن يقبل قوله من أهل الفضل ويجوز له أن يبين له أمر من يخاف أن يتخذ إمامًا فيذكر مافيه من كذب أو غيره مما يوجب ترك الراوية عنه، وكان شعبه يقول: اجلس بنا نغتاب فى الله.
- فيه: أَبُو أُسَيْد، قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُ دُورِ الأنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ). قال المهلب: ترجم له باب خير دور الأنصار وأدخل فيه: (خير الأنصار بنو النجار) وإنما أراد عليه السلام بقوله: (خير دور الأنصار) أهل الدور كما قال تعالى: {واسأل القرية) (والعير) وهو يريد أهلها، وقد جاء هذا الحديث فى غير هذا الموضع: (خير دور الأنصار بنو النجار). وقال ابن قتيبة: الدور فى هذا الحديث القبائل، ويدل على ذلك الحديث الآخر: (ما بقى دار إلا بنى فيها مسجد) ما بقيت قبيلة. قال المهلب: وإنما استوجب بنو النجار الخير فى هذا الحديث لمساعتهم إلى الإسلان، وقد بينه النبى صلى الله عليه وسلم: (إنما بايعك سراق الحجيج من طيىء وأسلم وغفار)- يريد تهجين هذه القبائل الضعيفة القليلة العدد- المسارعة إليك لقتلها وضعفها لتكثر بك وبأصحابك ولتعز من ذلتها، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: (أرأيت إن كان أسلم وغفار وزينة خيرًا من بنى يتميم) يريد بمسارعتها إلى الإسلام، فاستوجب بذلك ماأثنى الله عليها فى القرآن فى قوله: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) الآية، فكذلك استوجب بنو النجار بالمساعرة إلى افسلام من الخيرية ما لم يستوجبه بنو عبد الشهل المتبطئون بالإسلام. قال المؤلف: فإن قال قائل: مامعنى دخول هذا الحديث فى أبواب الغيبة؟ قيل: معناه بين فى ذلك، وهو أنه يدل على أنه يجوز للعالم أن يفاضل بين الناس وينبه على فضل الفاضل ونقص من لا يلحق بدرجته فى الفضل، ولايكون ذلك من باب الغيبة كما لم يكن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لغير بنى النجار أنهم دون بنى النجار فى الفضل من باب الغيبة ومثل هذا اتفاق المسلمين من أهل السنة أن أبا بكر أفضل من عمر، وليس ذلك غيبة لعمر ولا نقصًا له، ولذلك جاز لابن معين وغيره من ائمة الحديث تجريح الضعفاء وتبين أحوالهم خشية التباس أمرهم على العامة واتخاذهم أئمة وهو غير مستحقين للإمامة.
- فيه: وذكر حديث ابن عباس فى صحابى القبرين اللذين كان يعذبان، وقد تقدم فى باب الكبائر فى أول هذا الجزء فأغنى عن إعادته.
وقوله تعالى: {هماز مشاء بنميم} وقوله: {ويل لكل همزة لمزة} (يهمز) ويلمز ويعيب (واحد). - فيه: حُذَيْفَةَ، سَمِعْتُ النَّبِى عليه السلام يَقُولُ: (لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ). قال أهل التأويل: الهماز الذى يأكل لحوم الناس، ويقال: هم المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة، الباغون للبراء العيب. والقتات: النمام عند أهل اللغة، وقوله عليه السلام: (لا يدخل الجنة قتات) معناه: إن أنفذ الله عليه الوعيد؛ لأن أهل السنة مجمعون أن الله تعالى فى وعيده لعصاة المؤمنين بالخيار، إن شاء عذبهم وإن شاء عفا عنهم. وقد فرق أهل اللغة بين النمام والقتات، فذكر الخطابى أن النمام الذى يكون مع القوم يتحثون فينم حديثهم، والقتات: الذى يتسمع على القوم وهو لايعملون ثم ينم حديثهم، والقساس: الذى يقس الأخبار، أى يسأل عنها ثم ينثرها على أصحابه.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ). قال المؤلف: قول الزور هو الكذب، وهو محرم على المؤمنين، وهذا الحديث فى شاهد الزور تغليظ شديد ووعيد كبير، ودل قوله صلى الله عليه وسلم: (فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه) على أن الزور يحبط أجر الصائم، وأن من نطق به فى صيامه كالآكل الشارب عند الله تعالى فى الإثم، فينبغى تجنيبه والحذر منه لإحباطه للصيام الذى أخبر النبى عليه السلام عن اله تعالى أنه قال فيه: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فأنه لى وأنا أجزى به) فما ظنك بسيئة غطت على هذا الفضل الجسيم والثواب العظيم؟.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (تَجِدُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِى يَأْتِى هَؤُلاءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلاءِ بِوَجْهٍ). يريد أنه يأتى إلى كل قوم بما يرضيهم كان خيرًا أو شرًا، وهذه هى الماهنة المحرمة، وإنما سمى ذو الوجهين مداهنًا؛ لأنه يظهر لأهل المنكر أنه عنهم راض فيلقاهم بوجه سمح بالترحيب والبشر، وكذلك يظهر لأهل الحق أنه عنهم راض وفى باطنه أن هذا دابة فى أن يرضى كل فريق منهم ويريهم أنه منهم، وإن كان فى مصاحبته لأهل الحق مؤيدًا لفعلهم، وفى صحبته لأهل الباطل منكرًا لفعلهم، فبخلطته لكلا الفريقين وإظهار الرضا بفعلهم استحق اسم المداهنة للأسباب الظاهرة عليه المشبهة بالدهان الذى يظهر على ظواهر الأشياء ويستر بواطنها، ولو كان مع احخدى الطائفتين لم يكن مداهنًا، وإنما كان يسمى باسم اطائفة المنفرد بصحبتها. وقد جاء فى ذى الوجهين وعيد شديد، روى أبو هريرة عن النبى عليه السلام أنه قال: (ذو الوجهين لايكون عند الله وجيهًا) وروى أنس عن النبى عليه السلام أنه قال: (من كان ذا لسانين فى الدنيا جعل الله له لسانين من نار يوم القيامة) فينبغى للمؤمن العاقل أن يرغب بنفسه عما يوبقه ويخزيه عند الله- تعالى.
- فيه: ابْن مَسْعُود، قَسَمَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قِسْمَةً، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: وَاللَّهِ مَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ بِهَذَا وَجْهَ اللَّهِ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ، وَقَالَ: (رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى، لَقَدْ أُوذِىَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ). قال المؤلف: فى هذا الحديث من الفقه أنه يجوز للرجل أن يخبر أهل الفضل والستر من إخوانه بما يقال فيهم مما لايليق بعم ليعرفهم بذلك من يؤذيهم من الناس وينقصهم، ولا حرج عليه فى مقابلته بذلك وتبليغه له. وليس ذلك من باب النميمة؛ لأن ابن مسعود حين أخبر النبى عليه السلام يقول الأنصارى فيه وتجويره له فى القسمة، لم يقل له: أتيت بما لايجوز، ونمت الأنصارى والنميمة حرام، بل رضى ذلك عليه السلام وجاوبه عليه بقوله (يرحم الله موسى، لقد أوذى بأكثر من هذا فصبر) وإنما جاز لابن مسعود نقل ذلك إلى النبى عليه السلام لأن الأنصارى فى تجويره للنبى عليه السلام استباح إثمًا عظيمًا وركب جرمًا جسيمًا، فلم يكن لحديثه حرمة، ولم يكن نقله من باب النميمة. وقد قال مالك- رحمه الله- فى الرجل يمر بالرجل يقذف غائبًا: فليشهد عليه إن كان معه غيره. وقال فى قوم سمعوا رجلا يقذف رجلا فرفعوا إلى الإمام: فلا ينبغى أن يحده حتى يجىء الطالبب، ولو كان هذا نميمة لم تجز الشهادة؛ لأن النميمة كبيرة، والكبائر تسقط الشهادات. وفى تمعرّ وجه النبى عليه السلام حين أخبر بقوله الأنصارى من الفقه أن أهل الفضل والخير قد يعزّ عليهم مايقال فيهم من الباطل، ويكبر عليهم، فإن ذلك جبله فى البسر، فطردهم الله عليها، إلا أن أهل الفضل يتلقون ذلك بالصبر الجميل اقتداء بمن تقدمهم من المؤمنين، ألا ترى أن الرسول قد اقتدى فى ذلك بصبر موسى. وقد روى عن الحسن البصرى أنه قيل له: فلان اغتباك، فبعث إليه طبقًا من الطرف وقال: بلغنى أنك أهدبت وفى تمعرّ وجه النبى عليه السلام حين أخبر بقول الأنصارى من الفقه أن أهل الفضل والخير قد يعزّ عليهم مايقال فيهم من الباطل، ويكبر عليهم، فإن ذلك جبلة فى البشر، فطرهم الله عليها، إلا أن أهل الفضل يلتقون ذلك بالصبر الجميل اقتداء بمن تقدمهم من المؤمنين، ألا ترى أن الرسول قد اقتدى فى ذلك بصبر موسى. وقد روى عن الحسن البصرى أنه قيل له: فلان اغتابك، فبعث إليه طبقًا من الطرف وقال: بلغنى انك أهدبت إلى حسناتك فأردت أن أكافئك بها.
- فيه: أَبُو مُوسَى، سَمِعَ النَّبِى عليه السلام رَجُلا يُثْنِى عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِى الْمِدْحَةِ، فَقَالَ: (أَهْلَكْتُمْ، أَوْ قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ). - وفيه: أَبُو بَكْرَةَ، أَنَّ رَجُلاً ذُكِرَ عِنْدَ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَجُلٌ خَيْرًا، فَقَالَ رسُول اللَّه: (وَيْحَكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، يَقُولُهُ مِرَارًا، إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا لا مَحَالَةَ، فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ كَذَا وَكَذَا، إِنْ كَانَ يُرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَحَسِيبُهُ اللَّهُ، وَلا يُزَكِّى عَلَى اللَّهِ أَحَدًا). قَالَ وُهَيْبٌ، عَنْ خَالِدٍ: وَيْلَكَ. معنى هذا الحديث- والله أعلم- النهى عن أن يفرط فى مدح الرجل بما ليس فيه؛ فيدخله من ذلك الإعجاب، ويظن أنه فى الحقيقة بتلك المنزلة؛ ولذلك قال: قطعتم ظهر الرجل. حين وصفتموه بما ليس فيه. فربما ذلك على العجب والكبر، وعلى تضييع العمل وترك الازدياد من الفضل، واقتصر على حاله من حصل موصوفًا بما وصف به، وكذلك تأول العلماء فى قوله عليه السلام: (احثوا التراب فى وجه المداحين) المراد به: المداحون الناس فى وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم. ولذلك قال عمر بن الخطاب: المدح هو الذبح. ولم يرد به من مدح رجلاً بما فيه، فقد مدح رسول الله عليه السلام فى الشعر والخطب والمخاطبة، ولم يحث فى وجه المداحين ولا أمر بذلك كقول أبى طالب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه تثمال اليتامى عصمة للأرامل وكمدح العباس وحسان له فى كثير من شعره، وكعب بن زهير، وقد مدح رسول الله عليه السلام الأنصار فقال: (إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع) ومثل هذا قوله عليه السلام: (لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، قالوا: عبد الله؛ فإنما أنا عبد الله ورسوله) أى: لاتصفونى بما ليس لى من الصفات تلتمسون بذلك مدحى، كما وصفت النصارى عيسى لما لم يكن فيه، فنسبوه إلى أنه ابن الله، فكفروا بذلك وضلوا. فأما وصفه بما فضله الله به وشرفه فحق واجب على كل من بعثه الله إليه من خلقه وذلك كوصفه عليه السلام بما وصفها به فقال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشق الأرض عنه). وفى هذا من الفقه أن من رفع أمرأط فوق حده وتجاوز به مقداره بما ليس فيه، فمعتدّ آثم؛ لأن ذلك لو جاز فى أحد لكان أولى الخلق بذلك رسول الله، ولكن الواجب أن يقصر كل أحد على ما أعطاه الله من منزلته، ولا يعدى به إلى غيرها من غير قطع عليها، ألا ترى قوله عليه السلام فى حديث أبى بكرة: (إن كان أحدكم مادحًا أخاه لا محالة فليقل: أحسب كذا وحسيبه الله، ولا أزكى على الله أحدًا).
وَقَالَ سَعْدٌ: مَا سَمِعْتُ النَّبِى عليه السلام يَقُولُ لأحَدٍ يَمْشِى عَلَى الأرْضِ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلا لِعَبْدِاللَّهِ بْنِ سَلامٍ. - فيه: ابْن عُمَر: أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام حِينَ ذَكَرَ فِى الإزَارِ مَا ذَكَرَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ إِزَارِى يَسْقُطُ مِنْ أَحَدِ شِقَّيْهِ، قَالَ: (إِنَّكَ لَسْتَ مِنْهُمْ). قال المؤلف: فيه من الفقه: أنه يجوز الثناء على الناس بما فيهم على وجه الإعلام بصفاتهم لتعرف لهم سابقتهم وتقدمهم فى الفضل فينزلزا منازلهم ويقدموا على من لايساويهم ويقتدى بهم فى الخير، ولو لم يجز وصفهم بالخير والثناء عليهم بأحوالهم لم يعلم أهل الفضل من غيرهم، ألا ترى أن النبى عليه السلام خص اصحابه بخواص من الفضائل بانوا بها عن سائر الناس وعرفوا بها إلى يوم القيامة فشهد للعشرة- رضى الله عنهم- بالجنة، كما شهد لعبد الله ابن سلام. وليس قول سعد: (ما سمعت النى عليه السلام يقول لأحد أنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام) بمعارض لمن سمعه عليه السلام يشهد بذلك لغيره، بل يأخذ كل واحد بما يسمع، وكذلك قال فى أبى بكر الصديق: (كل الناس قال لى: كذبت، وقال لى النبى صلى الله عليه وسلم: أرحم أمتى بأمتى أبو بكر، وأقواهم فى الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم على، وأمين أمتى أبو عبيدة بن الجراح، وأعلم أمتى بالحلال معاذ بن جبل، وأقرؤهم أبى موسى، وأفرضهم زيد). وقال عليه السلام فى حديث آخر: (ما أظلت الخضراء ولا قلت الغبراء أصدق لهجة من أبى ذر) فأثنى عليهم بالحق وعرف أمته بفضائلهم، وقال لبى بكر الصديق حين قال له: إزارى سقط من أحد شقية: (لست منهم) فدل هذا كله أن المدح بالحق جائز وأن الذى لا يجوز من ذلك إنما هو المدح بالكذب أو القصد بالمدح إلى جهة الإعجاب والفخر وإن كان حقًا، والله الموفق.
وقال: {إنما بغيكم على أنفسكم} ثم بغى عليه لينصرنه الله (وترك إثارة الشر على مسلم أو كافر - فيه: عَائِشَةَ، أَنّ النَّبِى عليه السلام سحُره لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ اليهودية، فِى مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ فِى بِئْرِ ذَرْوَانَ، فَأَمر النَّبِىُّ عليه السلام فَأُخْرِجَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَلا تَنَشَّرْتَ، فَقَالَ: (أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِى، وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا). قال المؤلف: تأول البخارى من هذه الآيات التى ذكرها ترك إثارة الشر على مسلم أو كافر دل عليه حديث عائشة، ووجه ذلك- والله أعلم- أنه تأول فى قوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان) الندب إلى الإحسان إلى المسىء وترك معاقبة على إساءته، فإن قيل: فكيف يصح هذا التأويل فى آيات البغى التى ذكرها؟ قيل: فكيف يصح هذا التأويل فى آيات البغى التى ذكرها؟ قيل: وجه ذلك- والله أعلم- أنه لما أعلم الله عباده أن البغى ينصرف على الباغى بقوله: (إنما بغيكم على أنفسكم) وضمن تعالى نصره لمن بغى عليه بقوله تعالى: {ثم بغى عليه لينصرنه الله) كان الأولى لمن بغى عليه _ شكر الله على ما ضمن من نصره ومقابلة ذلك بالعفو عمن بغى عليه، وكذلك فعل النبى باليهودى الذى سحره حين عفا عنه، وقد كان له الانتقام بقوله: (وإن عاقبتم فعاقبوه بمثل ما عوقبتم به) لكن آر الصفح عنه أخذًا بقوله تعالى: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور (وكذلك أخبرت عائشة عنه عليه السلام أنه كان لاينتقم لنفسه، ويعفو عمن ظلمه. وللسلف فى قوله: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} أقوال أكثرها يخالف قول البخارى، فقال ابن عباس: العدل شهادة أن لا إله ألا الله، والإحسان أداء الفرائض. وقال غيره: العدل الفرض، واإحسان النافلة، وقال ابن عيينه: العدل هاهنا العلانية. وقال ابن مسعود: أجمع آية فى القراآن لخير أو شر: {إن الله يأمركم بالعدل والإحسان} الآية. ويمكن أن يتخرج تأويل البخارى على هذا القول. وقوله: {وينهى عن الفحشاء والمنكر} يعنى عن كل فعل أو قول قبيح، وقال ابن عباس: هو الزنا. والبغى: قيل: هو الكبر والظلم، وقيل: هو التعدى ومجاوزة الحد. وقال ابن عيينه: {إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا} المراد بها أن البغى تعجل عقوبته لصاحبه فى الدنيا يقال: البغى مصرعه.
وقوله تعالى: {ومن شر حاسد إذا حسد} - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلا تَحَسَّسُوا وَلا تَجَسَّسُوا، وَلا تَحَاسَدُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَلا تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا). في هذا الحديث: الأمر (بالصحبة والألفة) والنهي عن التباغض والتدابر، وما أمرهم النبى عليه السلام فعليهم العمل به ومانهاهم عنه فعليهم الانتهاء عنه، غير موسع عليهم مخالفة إلا أن يخبرهم عليه السلام أن مخرج أمره لهم ونهيه على وجه الندب والإرشاد، وقد تقدم فى باب الحب فى الله قوله صلى الله عليه وسلم: (والذى نفسى بيده لاتدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولاتؤمنوا حتى تحابوا). فذلك أن أمره عليه السلام ونهيه فى هذا الحديث على الوجوب، وقال أبو الدرداء: (ألا أخبركم بخير لكم من الصدقة والصيام: صلاح ذات البين، وإن البغضة هى الحالقة) لأن فى تباغضهم افتراق كلمتهم وتشتت أمرهم، وفى ذلك ظهور عدوهم عليهم ودروس دينهم. وفيه: النهى عن الحسد على النعم، وقد نهى الله عباده المؤمنين عن أن يتمنوا مافضل الله به بعضهم على بعض وأمرهم أن يسألوه من فضله، وقد أجاز النبى الحسد فى الخير، وسيأتى هذا المعنى فى كتاب التمنى، إن شاء الله تعالى. وفيه: النهى عن التجسس وهو البحث عن باطن أمور الناس وأكثر ما يقال ذلك فى السر. وقال ابن الأعرابى وأبو عمرو الشيبانى: الجاسوس: صاحب سر، والناموس: صاحب سر الخير. وقال سليمان الخطابى: وأما التحسس بالحاء فقد اختلف فى تفسيره فقال بعضهم: هو كالتجسس سواء، وقرأ الحسن: ولا تحسسوا. ومنهم من فرق بينهما، وروى الأوزاعى عن يحى بن أبى كثير أنه قال: التجسس: البحث عن عورات المسلمين، والتحسس: الاستماع لحديث القوم. وقال أبو عمر: التحسس بالحاء أن تطلبه لنفسك، وبالجيم أن تكون رسولا لغيرك. وقال صاحب العين: دابرت الرجل: عاديته، ومنه قولهم جعلته دبر أذنى أى خلفها.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلا تَحَسَّسُوا وَلا تَجَسَّسُوا...) الحديث. - وفيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لا تَبَاغَضُوا، وَلا تَحَاسَدُوا...) الحديث. قال أبو سليمان الخطابى: قوله: (إياكم والظن) فإنه أراد النهى عن تحقيق ظن السوء وتصديقه دون مايهجس بالقلب من خواطر الظنون فإنها لاتملك، قال الله تعالى: {إن بعض الظن أثم (فلم يجعل الظن كله إثمًا. قال غيره: فنهى عليه السلام أن تحقق على أخيك ظن السوء إذا كان الخير غالبًا عليه. وروى عن عمر أنه قال: لايحل لمسلم يسمع من أخيه كلمة أن يظن بها سوء وهو يجد لها فى شىء من الخير مصدرًا. وقال علي بن أبي طالب: من علم من أخيه مروءه جميله فلا يسمعن فيه مقالات الرجال، ومن حسنت علانيته فنحن لسريرته أرجى. وروى معمر عن إسماعيل بن أمية قال: ثلاث لايعجزن ابن آدم، الطيرة، وسوء الظن والحسد. قال: فينجيك من سوء الظن أن لا تتكلم به، وينجيك من الحسد أن لا تبغى أخاك سوءًا وينجيك من الطيرة أن لا تعمل بها. فإن قال قائل: لى فى حديث أنس ذكر الظن فكيف ذكره فى هذا الباب؟. قال المهلب: فالجواب أن التباغض والتحاسد أصلهما سوء الظن، وذلك أن المباغض والمحاسد يتأول أفعال من يبغضه ويحسده على أسوأ التأويل، وقد أوجب الله تعالى أن يكون ظن المؤمن بالمؤمن حسنًا أبدًا إذ يقول: لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا فإذا جعل الله سوء الظن بالمؤمنين إفكا مبينًا فقد الزم أن يكون حسن الظن بهم صدقًا بينًا والله الموفق.
- فيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (مَا أَظُنُّ فُلانًا وَفُلانًا يَعْرِفَانِ مِنْ دِينِنَا شَيْئًا). قَالَ اللَّيْثُ: كَانَا رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وقال مرة: (مَا أَظُنُّ فُلانًا وَفُلانًا يَعْرِفَانِ دِينَنَا الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ). قال المؤلف: سوء الظن جائز عن أهل العلم لمن كان مظهرًا للقبيح وجانبًا لأهل الصلاح وغير مشاهد للصلوات فى الجماعة، وقد قال ابن عمر: كنا إذا فقدنا الرجل فى صلاة العشاء والصبح أسأنا الظن به. وأما قول النبى: (ماأظن فلانًا وفلانًا يعرفان ديننا) فى رجلين من المنافقين، فإن الظن هاهنا بمعنى اليقين؛ لأنه كان يعرف المنافقين حقيقة بإعلام الله له بهم فى سورة براءة. وقال ابن عباس: كنا نسمى سورة براءة: الفاضحة. قال ابن عباس: ما زالت تنزل (ومنهم..) (ومنهم..) حتى خشينا. لأن الله تعالى قد حكى فيها اقوال المنافقين وأذاهم للنبى عليه السلام ولمزاهم فى الصدقات وغيرها، إلا أن الله لم يأمره بقتلهم، ونحن لانعلم بالظن مثل ماعلمه النبى- عليه السلام لأجل نزول الوحى عليه، فلم يجب لنا القطع على الظن غير أنه من ظهر منه فعل منكر فقد عرض نفسه لسوء الظن والتهمة فى دينه فلا حرج على من أساء به الظن.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ أُمَّتِى مُعَافًى إِلا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، فَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَليْهُ). - وفيه: ابْنَ عُمَرَ: أَنّ رجلاً سأله كَيْفَ سَمِعْتَ النَّبِىّ عليه السَّلام يَقُولُ فِى النَّجْوَى؟ قَالَ: (يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَرِّرُهُ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّى سَتَرْتُ عَلَيْكَ فِى الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ). قال المؤلف: وروى عن ابن مسعود أنه قال: ماستر الله على عبد فى الدنيا إلا ستر عليه فى الآخرة. وهذا مأخوذ من حديث النجوى. وقال ابن عباس فى قوله تعالى: {وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنه) قال: أما الظاهرة بالإسلام وماحسن من خلقك وافضل عليك من الرزق، وأما الباطنة فما ستر عليك من الذنوب والعيوى. وفى ستر المؤمن على نفسه منافع. منها: أنه إذا اختفى بالذنب عن العباد لم يستخفوا به ولا استذلوه؛ لأن المعاصى تذل أهلها. ومنها: أنه كان ذنبًا يوجب الحد سقطت عنه المطالبة فى الدنيا. وفى المجاهرة بالمعاصى استخفاف بحق الله وحق رسوله وضرب من العناد لهما فلذلك قال عليه السلام: (كل أمتى معافى إلا المجاهرون). قال المهلب: , اما قوله فى حديث النجوى: (يدنو أحدكم من ربه) فقال ابن فورك: معناه يقرب من رحمته وكرامته ولطفه لاستحالة حمله على قرب المسافة والنهاية إذ لايجوز ذلك على الله؛ لأنه لا يحويه مكان، ولايحيط به موضع، ولاتقع عليه الحدود، والعرب تقول: فلان قريب من فلان يريدون قرب المنزلة وعلو الدرجة عنده. وأما قوله: (فيضع الجبار عليه كنفه) فإنه يبين ما أشرنا اليه فى معنى الدنو أنه على تأويل قرب المنزلة والدرجة، وذلك أن لفظ الكنف إنما يستعمل فى مثل هذا المعنى، ألا ترى أنه يقال: أنا فى كنف فلان إذا أراد أن يعرف إسباغ فضله عليه وتوقيره عنده. وقال مهلب: عبر عليه السلام بالكنف عن ترك إظهار جرمه للملائكة وغيرهم بإدامة الستر الذى منّ به على العبد فى الدنيا، وجعله سببًا لمغرفته له فى الآخرة، ودليلاً للمذنب على عفوه، وتنبيهًا له على نعمة الخلاص من فضيحة الدنيا وعقوبة الآخرة التى هى اشد من عقوبة الدنيا، لقوله تعالى: {ولعذاب الآخرة أشد وأبقي) فيشكر ربه ويذكر وهذا الحديث كقوله تعالى: {إن رحمتى سبقت غضبى) لأن تأخير غضبه عنه عند مجاهرة ربه بالمعصية، وهو يعلم أنه لاتخفى عنه خافية مما يعلم بصحيح النظر أنه لم يؤخر عقوبته عنه لعجز عن إنفاذها عليه إلا لرحمته التى حكم لها بالسبق لغضبه؛ إذ ليس من صفة رحمته التى وسعت كل شىء أن تسبق فى الدنيا بالستر من الفضيحة ويسبقها الغضب فى ذلك الذنب فى الآخرة، فإذا لم يكن بد من تغليب الرحمة على الغضب فليبشر المذنبون المستترون بسعة رحمة الله، وليحذر المجاهرون بالمعاصى من وعيد الله النافذ على من شاء من عباده. وفى قوله تعالى: (سترتها عليك فى الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم). نص منه تعالى على صحة قول أهل السنة فى ترك إنفاذ الوعيد على العصاة من المؤمنين، والحجة فيه من طريق النظر أنه ليس مذمومًا من وجب له حق على غيره فوهبه له، والمرء قد يقول لعبده: إن صنعت كذا عاقبتك بكذا على معنى أنك إن أتيت هذا الفعل كنت مستحقًا عليه هذه المعاقبة، لإذا جنى العبد تلك الجناية كان السيد مخيرًا فى حق نفسه إن شاء أمضاه وإن شاء تركه، وإذا قال: إن فعلت كذا وكذا فلك على كذا وكذا ففعل ماكلفه لم يجز أن يخلفه بما وعده؛ لأن فى تمام الوعد حقا للعبد، وليس لأحد أن يدع حق غيره كما له أن يدع حق نفسه. والعرب تفتخر بخلف الوعيد، ولو مذمومًا لما جاز أن تفتخر بخلفه وتمتدح به، أنشد أبو عمرو الشيبانى: إنى متى أوعدته ووعدته *** لمخلف إيعادى ومنجز موعدى قال المهلب: فإن أخذ الله المنفذين للوعيد بحكمهم أنفذه عليهم دون غيرهم لقطعهم على الله الواسع الرحمة بإنفاذه الوعيد لظنهم بالله ظن السوء فعليهم دائرة السوء، وكان لهم عند ظنهم كما وعد فقال: (أنا عند ظن عبدى بى فليظن بى ما شاء).
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {ثَانِى عِطْفِهِ} [الحج: 9]: مُسْتَكْبِرٌ فِى نَفْسِهِ، عِطْفُهُ: رَقَبَتُهُ - فيه: حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَاعِفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأبَرَّهُ، أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ). - فيه: أنس قال: أَنَس، قَالَ: كَانَتِ الأمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ النَّبِىّ عليه السلام فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ. قال المؤلف: روى شعبة عن على بن زيد، عن أنس زيادة فى هذا الحديث قال: (إن كانت الوليدة من ولائد المدينة لتأخذ بيد النبى عليه السلام فما ينزع يدها من يده حتى تكون هى تنزعها). وروى شعبة عن أبان بن تغلب، عن فضيل الفقيمى عن النخعى، عن عقلمة، عن عبد الله، عن النبى عليه السلام قال: (لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر. فقال رجل: إن الرجل ليحب أن يكون ثوبه حسنأط ونعله حسنأط، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمص الناس). روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبى عليه السلام قال: (إن المستكبرين يحشرون يوم القيامة أشباه الذر على صور الناس، يعلوهم كل شىء من الصغار، يساقون حتى يدخلون سجنًا فى النار يسقون من طينه الخبال: عصارة أهل النار). قال الطبرى: فإن قيل: قد وصف النبى عليه السلام العتل الجواظ المستكبر أنه من أهل النار فبين تكبره على من هو؟ قيل: هو الذى باطنه منطو على الكبر على الله، فهذا كافر لاشك فى كفره، وذلك هو الكبر الذى عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في حديث ابن مسعود: (لايدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال حبة من كبر). فإن قيل: فقد وصفت الكبر بغير ماوصفه به النبى عليه السلام وذلك أنك رويت عنه أنه قال: (الكبر من سفه الحق وغمص الناس وأزدراء الحق ووصفت أنت الكبر بأنه التكبر على الله). قيل: الكبر الذى وصفناه هو خلاف خشوع القلب لله تعالى ولا ينكر أن يكون من الكبر ما هو استكبار على غير الله، والذى قلنا من معنى الكبر على الله فإنه غير خارج من معنى مارويناه عنه عليه السلام أنه: (غمص الناس وازدراء الحق) وذلك أن معتقد الكبر على ربه لاشك أنه للحق مزدر وللناس أشد استحقارًا. ومما يدل على أن المراد يمعنى الآثار فى ذلك عن النبى عليه السلام ماقلناه ماحدثناه يونس، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث أن دراجًا أبا السمح حدثه عن أبى الهيثم، عن أبى سعيد الخدرى، عن رسول الله قال: (من تواضع لله درجة رفعه الله درجة، ومن تكبر على الله درجة يضعه الله درجة حتى يجعله فى أسفل سافلين) فلدل هذا الحديث أن غمص الحق وحقر الناس استكبارًا على الله. وقد روى حماد بن سلمة عن قتادة، و على بن زيد عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة، عن النبى عليه السلام فيما حكى عن ربه تعالى قال: (الكبرياء ردائى فمن نازعنى ردائى قصمته). فالمستكبر على الله تعالى لاشك أنه منازعه رداءه، ومفارق دينه، وحرام عليه جنته كما قال عليه السلام أنه: (لا يدخلها إلا نفس مسلمة) ومن لم يخشع لله قلبه عليه مستكبر؛ إذ معنى الخشوع التواضع وخلاف الخشوع والتواضع التكبر والتعظم، فالحق لله على كل مكلف إشعار قلبه الخشوع بالذلة والاستكانة له بالعبودية خوف أليم عقابه، وقد روى عن محمد بن على أنه قال: (ما دخل قلب أمرىء شىء من الكبر إلا نقص من عقله قل ذلك أو كثر). وقد تقدم تفسير العتل والجواظ فى باب قول الله تعالى: {واقسموا بالله جهد أيمانهم) فى كتاب الأيمان والنذور.
وَقَوْلِ الرسُولِ صلى الله عليه وسلم: (لا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ). - فيه: عَائِشَةَ أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، قَالَ فِى بَيْعٍ أَوْ عَطَاءٍ أَعْطَتْهُ عَائِشَةُ: وَاللَّهِ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ أَوْ لأحْجُرَنَّ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: أَهُوَ قَالَ هَذَا؟ قَالُوا نَعَمْ، قَالَتْ: هُوَ لِلَّهِ عَلَى نَذْرٌ أَنْ لا أُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَدًا، فَاسْتَشْفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَيْهَا حِينَ طَالَتِ الْهِجْرَةُ، فَقَالَتْ: لا، وَاللَّهِ لا أُشَفِّعُ فِيهِ أَبَدًا، وَلا أَتَحَنَّثُ إِلَى نَذْرِى، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ كَلَّمَ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الأسْوَدِ بْنِ عَبْدِيَغُوثَ- وَهُمَا مِنْ بَنِى زُهْرَةَ- وَقَالَ لَهُمَا: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ لَمَّا أَدْخَلْتُمَانِى عَلَى عَائِشَةَ، فَإِنَّهَا لا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْذِرَ قَطِيعَتِى، فَأَقْبَلَ بِهِ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُالرَّحْمَنِ مُشْتَمِلَيْنِ بِأَرْدِيَتِهِمَا حَتَّى اسْتَأْذَنَا عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالا: السَّلامُ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، أَنَدْخُلُ؟ قَالَتْ عَائِشَةُ: ادْخُلُوا، قَالُوا: كُلُّنَا؟ قَالَتْ: نَعَم، ادْخُلُوا كُلُّكُمْ، وَلا تَعْلَمُ أَنَّ مَعَهُمَا ابْنَ الزُّبَيْرِ، فَلَمَّا دَخَلُوا دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحِجَابَ، فَاعْتَنَقَ عَائِشَةَ، وَطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِى، وَطَفِقَ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُالرَّحْمَنِ يُنَاشِدَانِهَا إِلا مَا كَلَّمَتْهُ وَقَبِلَتْ مِنْهُ، وَيَقُولانِ إِنَّ النَّبِى صلى الله عليه وسلم نَهَى عَمَّا قَدْ عَلِمْتِ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَى عَائِشَةَ مِنَ التَّذْكِرَةِ وَالتَّحْرِيجِ، طَفِقَتْ تُذَكِّرُهُمَا نَذْرَهَا، وَتَبْكِى وَتَقُولُ: إِنِّى نَذَرْتُ، وَالنَّذْرُ شَدِيدٌ، فَلَمْ يَزَالا بِهَا حَتَّى كَلَّمَتِ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَأَعْتَقَتْ فِى نَذْرِهَا ذَلِكَ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً، وَكَانَتْ تَذْكُرُ نَذْرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَتَبْكِى حَتَّى تَبُلَّ دُمُوعُهَا خِمَارَهَا. - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (لا تَبَاغَضُوا، وَلا تَحَاسَدُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِى يَبْدَأُ بِالسَّلامِ). قال الطبرى: فى حديث أنس وأبى أيوى البيان الواضح أنه غير جائز لمسلم أن يهجر مسلمًا أكثر من ثلاثة أيام، وأنه إن هجره أكثر من ثلاثة أيام أثم، وكان أمره إلى الله إن شاء عذبع وإن شاء شاء عفا عنه؛ لأنه عليه السلام أخبر أنه لا يحل ذلك ومن فعل ماهو محظور عليه فقد اقتحم حمى الله وانتهك حرمته. وفيه دليل هجرته دون ثلاث أيام مباح لهما ولاتبعه عليهما فيها. وقال غيره: تجاوز الله لهما عما يعرض لهما من ذلك فى ثلاثة أيام لما فطر الله العباد عليه من ضعف الحيلة، وضيق الصدر وحرم عليهما مازاد على الثلاث؛ لأنه من الغل الذى لا يحل. وروى عيسى عن ابن القاسم فى الرجل يهجر أخاه إلا أنه يسلم عليه من غير أن يكلمه بغير السلام هل يبرأ من الحناء؟ فقال: سمعت مالكًا يقول: إن كان مؤذيا له برىء من الشحناء، وإن كان غير مؤذ فلا يبرأ من الشحنا. وقاله أحمد بن حنبل. وروى ابن وهب عن مالك قولا آخر: إذا سلم عليه فقد قطع الهجرة، وقوله عليه السلام: (وخيرهما الذى يبدأ بالسلام) حجة لهذا القول. وقيل لابن القاسم: هل ترى شهادته عليه جائزة باجتنابه كلامه وهو غير مؤذ له؟ قال: لا تقبل شهادته عليه. قال الطبرى: فإن قيل: فما أنت قائل فى حديث عائشة حين هجرت عبد الله بن الزبير وحلفت أن لا تكلمه أبدًا فتحمل عليها بالشفعاء حتى كلمته؟ قال: معنى الهجرة هو ترك الرجل كلام أخيه مع تلاقيهما واجتماعهما وإعراض كل واحد منهما عن صاحبه مصارمة له وتركه السلام عليه وذلك أن من حق المسلم على المسلم إذا تلاقيا أن يسلم كل واحد منهما على صاحبه، فإذا تركا ذلك بالمصارمة فقد دخلا فيما حظر الله، واستحقا العقوبة إن لم يعف الله عنهما. فعائشة لم تكن ممن يلقى ابن الزبير فتعرض عن السلام عليه صرما له، وإنما كانت من وراء حجاب، ولا يدخل عليها أحد إلا بإذن، وكان لها منع ابن الزبير دخول منزلها، وليس من الهجرة المنهى عنها، كما لو كانت فى بلدة وهو فى أخرى لا يتلتقيان لم يكن ذلك من الهجرة التى يأثمان بتركهما الاجتماع، وإن مرت أعوام كثيرة، ولم يكونا يجتماعان فيعرض أحدهما عن صاحبه. ويبين صحة ماقلناه قوله فى حديث أبى أيوى: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا)، فأخبر عليه السلام بسبب حظر الله تعالى هجرة المسلم أخاه إنما ذلك من أجل تضييعهما ماأوجب الله عليهما عن تلاقيهما فإذا لم يلتقيا فيفرط كل واحد منهما فى واجب أخيه عليه، وذلك بعيد من معنى الهجرة. وقد تأول غير الطبرى فى هجرة عائشة لابن الزبير وجهًا آخر فقال: إنما ساغ لعائشة ذلك؛ لأنها أم المؤمنين وواجب توقيرها وبرها لجميع المؤمنين، وتنقصها كالعقوق لها فهجرت ابن الزبير أدبًا له، ألا ترى أنه لما نزع عن قوله، وندم عليه وتشفع اليها رجعت إلى مكالمته وكفرت يمينها، وهذا من باب إباحة هجران من عصى والإعراض عنه حتى يفىء إلى الواجب عليه.
وَقَالَ كَعْبٌ حِينَ تَخَلَّفَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: وَنَهَى الرسول صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلامِنَا وَذَكَرَ خَمْسِينَ لَيْلَةً. - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنِّى لأعْرِفُ غَضَبَكِ وَرِضَاكِ)، قُلْتُ: وَكَيْفَ تَعْرِفُ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (إِنَّكِ إِذَا كُنْتِ رَاضِيَةً، قُلْتِ بَلَى، وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ سَاخِطَةً، قُلْتِ: لا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ)، قَالَتْ: قُلْتُ: أَجَلْ لَسْتُ أُهَاجِرُ إِلا اسْمَكَ. قال المهلب: غرضه فى كتاب هذا الباب أن يبين صفة الهجران الجائز وأن ذلك متنوع على قدر الإجرام، فمن كان جرمه كبيرًا فينبغى هجرانه واجتنابه وترك مكالمته كما جاء فى أمر كعب بن مالك وصاحبيه، وماكان من المغاضبة بين الأهل والإخوان فالهجران الجائز فيهما هجران التحية والتسمية وبسط الوجه كما فعلت عائشة فى مغاضبتها مع رسول الله. قال الطبرى: وفى حديث كعب بن مالك أصل فى هجران أهل المعاصى والفسوق والبدع، ألا ترى أنه عليه السلام نهى عن كلامهم بتخلفهم عنه، ولم يكن ذلك كفرًا ولا ارتدادًا، وإنما كان معصية ركبوها، فأمر بهجرتهم حتى تاب الله عليهم، ثم أذن فى مراجعتهم، فكذلك الحق فيمن أحداث ذنبًا خالف به أمر الله ورسوله فيما لا شبهة فيه ولا تأويل، أو ركب معصية على علم أنها معصية لله أن يهجر غضبًا لله ورسوله، ولا يكلم حتى يتوب وتعلم توبته علمًا ظاهرًا كما قال فى قصة الثلاثة الذين خلفوا. فإن قيل: فيحرج مكلم أهل المعاصى والبدع على كل وجه؟ قيل: إن كلمهم بالتقريع لهم والموعظة والزجر لهم عما يأتونه لم يكن حرجًا فإن كلمهم على غير ذلك خشيت أن يكون إثمًا، إلا من أمر لا يجد من كلامه فيه بدا فيكلمه وهو كاره لطريقته وعليه واجد كالذى كان من أبى قتادة فى كعب بن مالك إذ ناشده الله هل تعلم أنى أحب الله وروسوله؟ كل ذلك لا يجيبه، ثم أجابه أن قال: الله ورسوله أعلم، ولم يزده على ذلك. فإن قيل: إنك تبيح كلام أهل الشرك بالله، ولاتوجب على المسلمين هجرتهم فكيف ألزمتنا هجرة أهل البدع والفسوق، وهم بالله وروسوله مقرون؟ قيل: إن حظرنا ماحظرنا وإطلاقنا ماأطلقناه لم يكن إلا عن أمر من لا يسعنا خلاف أمره، وذلك لنهيه عليه السلام عن كلام النفر المتخلفين عن تبوك وهم بوحدانية الله مقرون ونبوة نبيه مصدقون وأما المشركون فإنما أطلقت لأهل الإيمان كلامهم لإجماع الجميع على إجازتهم البيع والشراء منهم والأخذ والإعطاء، وقد يلزم من هجرة كثير من المسلمين فى بعض الأحوال مالايلزم من هجرة كثير من أهل الكفر. وذلك أنهم أجمعوا على أن رجلا من المسلمين لو لزمه حد من حدود الله فى غير الحرم ثم استعاذ بالحرم أنه لا يبايع ولايكلم ولايجالس حتى يخرج من الحرم فيقام عليه حد الله تعالى ولله أحكام فى خلقه جعلها بينهم مصلحة لهم هو أعلم بأسبابها وعليهم التسليم لأمره فيها؛ لأن الخلق والأمر لله، تبارك الله رب العالمين.
- فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَى إِلا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْهِمَا يَوْمٌ إِلا يَأْتِينَا فِيهِ النَّبِىّ عليه السلام طَرَفَىِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَبَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ فِى بَيْتِ أَبِى بَكْرٍ فِى نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، قَالَ قَائِلٌ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِى سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا.... الحديث. قال المؤلف: فى هذا الحديث جواز زيارة الصديق الملاطف مرتين كل يوم، وليس- بمعاض لحديث أبى هريرة أن النبى عليه السلام قال: (زد غبًا تزدد حبًا) ذكره أبو عبيد فى كتاب الأمثال، وإنما فى قوله هذا إعلام منه عليه السلام أن إغاب الزيارة أزيد فى المحبة وأثبت للمودة؛ لأن مواترة الزيارة والإكثار منها ربما أدت إلى الضجر، وأبدت أخلاقًا كامنة لا تظهر عند الإغباب فآلت إلى البغضة، وكانت سببًا للقطيعة أو للزهد فى الصديق. وفى حديث عائشة فى هذا الباب جواز الصديق الملاطف لصديقه كل يوم على قدر حاجته إليه والانتفاع به فى مساركته له، فهما حديثان مختلفان لك منهما معنى غير معنى صاحبه وليسا بمتعاضين.
وَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فِى عَهْدِ النَّبِى عليه السلام فَأَكَلَ عِنْدَهُ. - فيه: أَنَس، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَارَ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ الأنْصَارِ، فَطَعِمَ عِنْدَهُمْ طَعَامًا، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَمَرَ بِمَكَانٍ مِنَ الْبَيْتِ، فَنُضِحَ لَهُ عَلَى بِسَاطٍ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَدَعَا لَهُمْ. قال المؤلف: من تمام الزيارة إطعام الزائر ماحضر واتحافه بما تيسر وذلك من كريم الأخلاق، وهو ممايثبت المودة ويؤكد المحبة. وفيه: أن الزائر إذا أكرمه المزور أنه ينبغى له أن يدعو له ولأهل بيته ويبارك فى طعامهم وفى رزقهم.
- فيه: يَحْيَى بْنُ أَبِى إِسْحَاقَ، قَالَ: قَالَ لِى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مَا الإسْتَبْرَقُ؟ قُلْتُ: مَا غَلُظَ مِنَ الدِّيبَاجِ وَخَشُنَ مِنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَاللَّهِ، يَقُولُ: رَأَى عُمَرُ عَلَى رَجُلٍ حُلَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، فَأَتَى بِهَا النَّبِى صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اشْتَرِ هَذِهِ، فَالْبَسْهَا لِوَفْدِ النَّاسِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ، فَقَالَ: (إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ....) الحديث. قال المؤلف: فيه: جواز تجمل الخليفة والإمام للوفود القادمين عليه بحسن الزى وجميل الهيئة ألا ترى قول عمر للنبى: (اشتر هذه فالبسها لوفد الناس إذا قدموا عليك) وهذا يدل أن عادة النبى كانت جارية بالتجمل لهم، فينبغى الاقتداء بالنبى فى ذلك، ففيه تفخيم الإسلام ومباهته للعدو وغيظ الكفار. وقد تقدم فى كتاب اللباس ماللعلماء فى لباس الحرير.
وَقَالَ أَبُو جُحَيْفَةَ: آخَى النَّبِى عليه السلام بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِى الدَّرْدَاءِ. وقال عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ آخَى النَّبِى عليه السلام بَيْنِى وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ. - فيه: أَنَس، قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْف، فَآخَى النَّبِى عليه السلام بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ. - وفيه: عَاصِمٌ، قُلْتُ لأنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَبَلَغَكَ أَنَّ النَّبِى عليه السلام قَالَ: (لا حِلْفَ فِى الإسْلامِ)؟ فَقَالَ: قَدْ حَالَفَ النَّبِى عليه السلام بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالأنْصَارِ فِى دَارِى. قال المؤلف: آخى النبى بين المهاجرين والأنصار أول قدومه المدينة وحالف بينهم، وكانوا يتوارثون بذلك الإخاء والحلف دون ذوى الرحم، قال سعيد بن الجبير: وقد عاقد أبو بكر رجلا فورثه. قال الحسن: كان هذا قبل آية المواريث، وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك. وقال ابن عباس: فلما نزلت: (ولكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان (يعنى: ورثه، ونسخت ثم قال: (والذين عقدت أيمانهم فآتوهم نصيبهم (يعنى: من النصر والرفادة والنصيحة. وقد ذهب الميراث. قال الطبرى: لا يجوز الحلف اليوم فى الإسلام لما حدثنا به أبو كريب وغيره قالا: حدثنا محمد بن بشير، حدثنا زكريا بن أبى زائدة، حدثنا سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جبير بن مطعم، عن النبى عليه السلام أنه قال: (لا حلف فى الإسلام وما كان من حلف فى الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا شدة). وقال ابن عباس: نسخ الله حلف الجاهلية وحلف الإسلام بقوله: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض) ورد المواريث إلى القرابات. فإن قيل: فما معنى قوله عليه السلام: (وما كان من حلف فى الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا شدة). قيل: الذى أمر به النبى عليه السلام- بالوفاء به من ذلك هو ما لم ينسخه الإسلام ولم يبطله حكم القرآن، وهو التعاون على الحق والنصرة على الأخذ على يد الظالم الباغى.
وقالت فاطمة: أسر إلى النبى- عليه السلام فضحكت. وقالتْ فَاطِمَةُ: أَسَرَّ إِلَى النَّبِىُّ عليه السَّلام فَضَحِكْتُ. ذكر فى هذا الباب أحاديث كثيرة فيها أن النبى عليه السلام ضحك وفى بعضها أنه تبسم وذكر حديث عائشة قالت: ما رأيت النبى صلى الله عليه وسلم مستجمعًا قط ضاحكا حتى أرى منه لهواته إنما كان يبتسم. وفى حديث أبى هريرة فى الذى وقع على أهله فى رمضان: أنه عليه السلام ضحك حتى بدت نواجذه. والنواجذ آخر الأسنان، وهى أسنان الحلم عند العرب. فإن قيل: إن هذا الخلاف لما روته عائشة (أنها لم تره عليه السلام مستجمعًا ضاحكًا قط حتى تبدو لهواته. ولا تبدو النواجذ على ما قال أبو هريرة إلا عند الاستغراق فى الضحك وظهور اللهوات. قيل: ليس هذا بخلاف لأن أبا هريرة شهد مالم تشهد عائشة، وأثبت ماليس فى خبرها، والمثبت أولى وذلك زيادة يجب الأخذ بها، وليس فى قول عائشة قطع منها أنه لم يضحك قط حتى تبدو لهواته فى وقت من الأوقات، وإنما أخبرت بما رأت كما أخبر أبو هريرة بما رأى، وذلك إخبار عن وقتين مختلفين. ووجه تأويل هذه الآار- والله أعلم- أنه كان عليه السلام فى أكثر أحواله يبتسم، وكان أيضًا يضحك فى أحوال أخر ضحكا أعلى من التبسم، واقل من الاستغراق الذى تبدو فيه اللهوات، هذا كان شأنه، وكان فى النادر عند إفراط تعجبه ربما ضحك حتى تبدو نواجذه، ويجرى على عادة البشر فى ذلك لأنه قد قال: (إنما أنا بشر) فيبين لأمته بضحكة الذى بدت فيه نواجذه أنه غير محرم على أمته، وبان بحديث عائشة أن التبسم ولاقتصار فى الضحك هو الذى ينبغى لأمته فعله والاقتداء به فيه للزومه عليه السلام له فى أكثر أحواله. وفيه وجه آخر: من الناس من يسمى الأنياب الضواحك نواجذ واستشهد بقول لبيد: وإذا الأسنة اشرعت لنحورها أبرزن حد نواجذ الأنياب فتكون النواجذ الأنياب على معنى إضافة الشىء إلى نفسه، وذلك جائز إذا اختلف اللفظان كما يجوز عطف الشىء على نفسه إذا اختلف اللفظان، ومن إضافة الشىء إلى نفسه قوله تعالى: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) (وحب الحصيد)، وقولهم: مسجد الجامع، وقال رؤبة: إذا استعبرت من جفون الأغماد والجفون على الأغماد وإضافة الشىء إلى نفسه مذهب الكوفيين، وقد وجدنا أن النواجذ يعبر عنها بالأنيبا فى حديث الذى وقع على أهله فى رمضان وقع فى هذا الباب: (أن النبى عليه السلام ضحك حتى بدت نواجذه) ووقع فى كتاب الصيام فى هذا الحديث: (أنه ضحك حتى بدت أنيابه) فارتفع اللبس بذلك وزال الاختلاف بين الأحاديث، وهذا الوجه أولى، والله أعلم. وهذا الباب يرد ما روى عن الحسن البصرى أنه كان لا يضحك، وروى جعفر عن أسماء قالت: ما رأيت الحسن فى جماعة ولا فى أهله ولا وحده ضاحك قط إلا مبتسمًا. ولا أحد زهد كزهد النبى صلى الله عليه وسلم وقد ثبت عنه أنه ضحك، وكان ابن سيرين يضحك ويحتج على الحسن ويقول: الله هو الذى أضحك وأبكى. وكان الصحابة يضحكون، وروى عبد الرواق، عن معمر، عن قتادة قال: سئل ابن عمر هل كان أصحاب النبى عليه السلام يضحكون؟ قال: نعم، والإيمان فى قلوبهم أعظم من الجبال. وفى رسول الله واصحابه المهتدين السوة الحسنة. وأما المكروه من هذا الباب فهو الإكثار من الضحك كما قال لقمان لأبنه: يابنى إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب فلإكثار منه وملازمته حتى يغلب على صاحبه، مذموم منهى عنه، وهو من فعل أهل السفه والبطالة.
- فيه: عَبْدِاللَّهِ، عَنِ النَّبِى صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِى إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِى إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا). - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ: قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ). - وفيه: سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِى، قَالا: الَّذِى رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ، فَكَذَّابٌ يَكْذِبُ بِالْكَذْبَةِ، تُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفَاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). قال المؤلف: مصداق حديث عبد الله فى كتاب الله: (إن الأبرار لفى نعيم وإن الفجار لفى جحيم) والصدق أرفع خلال المؤمنين إلا ترى قوله: (ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) فجعل الصدق مقارنًا للتقوى، وقيل للقمان الحكيم: مابلغ بك ما نرى؟ قال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وتركى ما لا يعنينى. وروى مالك عن صفوان بن سليم أنه قيل للنبى صلى الله عليه وسلم: (أيكون المؤمن كذابًا؟ قال: لا). وظاهر هذا معارض لحديث عبد الله، والتأويل الجامع بينهما أن معنى حديث صفوان لا يكون المؤمن المستكمل لأعلى درجات الإيمان كذابًا حتى يغلب عليه الكذب لأن كذابًا وزنه فعال، وهو من أبنية المبالغة لمن يكثر منه الكذب ويكرر حتى يعرف به، ومثاله الكذوب أيضًا، ويبين هذا قوله عليه السلام: (إن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صدوقًا)، يعنى لا يزال يتكرر الصدق منه حتى يستحق اسم المبالغة فى الصدق وكذلك قوله: (إن الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذابًا) يعنى لا يزال يتكرر الكذب منه حتى يغلب عليه، وهذه الصفة ليست صفة عليه المؤمنين بل هى من صفات المنافقين وعلاماتهم كما قال عليه السلام فى حديث أبى هريرة، وقد تقدم معناه فى كتاب الإيمان فى باب علامة المنافق. وأخبر عليه السلام فى حديث سمرة بعقوبة الكاذب الذى كذبه الآفاق أنه يشق شدقه فى النار إلى يوم القيامة، فعوقب فى موضع المعصية وهو فمه الذى كذب به.
- فيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ: إِنَّ أَشْبَهَ النَّاسِ دَلا وَسَمْتًا وَهَدْيًا بِرَسُولِ اللَّهِ عليه السلام لابْنُ أُمِّ عَبْدٍ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ، لا نَدْرِى مَا يَصْنَعُ فِى أَهْلِهِ إِذَا خَلا. - وفيه: عَبْدُ اللَّه بْن عُمَر، قَالَ: إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْىِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ. قال المؤلف: قال أبو عبيد: الهدى والدل أحدهما قرريب المعنى من الآخر وهما من السكينة والوقار فى الهيئة والمنظر والشمائل وغير ذلك، قال الأخطل يصف الكذاب: حتى تناهين عنه ساميًا جرحًا وماهدى هدى مهزوم ولا نكلا يقول: لم أسرع إسراع المنهزم ولكن على سكون وحسن هدى. وقال عدى بن زيد يصف امرأة بحسن الدل: لم تطلع من خدرها تبتغى خب با ولا ساء دلها فى العناق والسمت يكون فى معنيين: أحدهما: حسن الهيئة والمنظر فى مذهب الدين، وليس من الجمال والزينة، ولكن يكون له هيئة أهل الخير ومنظرهم. والوجه الآخر: السمت: الطريق يقال: الزم هذا السمت. وكلاهما له معنى جيد بكون: أن يلزم طريقه أهل الإسلام فتكون له هيئة أهل افسلام، وذكر أبو عبيد فى حديث عمر بن الخطاب أن أصحاب عبد الله كانوا يدخلون إليه فينظرون إلى مته وهديه ودله فيشتبهون به. قال المؤلف: فى هذا من الفقه أنه ينبغى للناس الاقتداء بأهل الفضل والصلاح فى جميع أحواليهم فى هيئتهم وتواضعهم ورحمتهم للخلق، وإنصافهم من أنفسهم، ورفقهم فى أخذ الحق إذا وجب لهم إن أحبوا الاقتصاص أو عفوهم عن ذلك إن آثروا العفو، وفى مأكلهم ومشربهم واقتصادهم فى أمرورهم تبركًا به.
وقول الله تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} - فيه: أَبُو مُوسَى قَالَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ أَحَدٌ- أَوْ لَيْسَ شَىْءٌ- أَصْبَرَ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ لَهُ وَلَدًا، وَإِنَّهُ لَيُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ). - وفيه: عَبْدُ اللَّهِ: قَسَمَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم قِسْمَةً كَبَعْضِ مَا كَانَ يَقْسِمُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: وَاللَّهِ إِنَّهَا لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، قُلْتُ: أَمَّا أَنَا لأقُولَنَّ لِلنَّبِى صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُهُ، وَهُوَ فِى أَصْحَابِهِ، فَسَارَرْتُهُ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِى عليه السلام وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، وَغَضِبَ حَتَّى وَدِدْتُ أَنِّى لَمْ أَكُنْ أَخْبَرْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ أُوذِى مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَصَبَرَ. قال المؤلف: ذكر الله جزاء الأعمال وجعل له نهاية وحدا فقال: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) وجعل جزاء الصدقة فى سبيل الله فوق هذا القول: (مثل الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء) وجعل أجر الصابرين بغير حساب ومدح أهله فقال: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) والصبر على الأذى من باب جهاد النفس وقمعها من شهواتها ومنعها عن تطاولها، وهو من أخلاق الأنبياء والصالحين، وإن كان قد جبل الله النفوس على تألمها من الأذى ومشقته، الا ترى أن النبى عليه السلام شق عليه تجوير الأنصارى له فى القسمة حتى تغير وجهه وغضب، ثم سكن ذلك منه علمه بما وعد الله ذلك من جزيل الأجر، واقتدى بصبر موسى على أكثر من أذى الأنصارى له رجاء ما عند الله. وللصبر أبواب غير الصبر على الأذى روى عن على بن أبى طالب أن النبى عليه السلام قال: (الصبر ثلاثة: فصبر على الكصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر على المعصية، فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلثمائة درجة مابين الدرجة إلى الدرجة ما بين السماء والأرض، ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة مابين الدرجة إلى الدرجة مابين تخوم الأرض السابعة إلى منتهى العرش، ومن صبر على المعصية كتب الله له تسعمائة درجة مابين الدرجة إلى الدرجة مابين تخوم الأرض السابعة إلى منتهى العرش مرتين). وقد روى يزيد الرقاشى عن أنس أن النبى عليه السلام قال: (الإيمان نصفان نصف فى الصبر والنصف فى الشكر). وروى ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله (أن النبى عليه السلام سئل عن الإيمان فقال: السماحة والصبر). وقال الشعبى: قال على بن أبى طالب: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد. قال الطبرى: وصدق على، وذلك أن الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالحوارج، فمن لم يصبر على العمل بشرائع لم يستحق اسم الإيمان بالإطلاق، والصبر على العمل بالشرائع نظير الرأس من جسد الإنسان الذى لاتمام له إلا له، وهذا فى معنى حديث أنس وجابر أن الصبر نصف الإيمان، وعامة المواضع التي ذكر الله فيها الصبر وحث عليه عباده إنما هى مواضع الشدائد ومواطن المكاره الذى يعظم على النفوس ثقلها، ويشتد عندها جزعها وكل ذلك محن وبلاء، الا ترى قوله عليه السلام للأنصار: (لن تعطوا عطاءًا خيرًا وأوسع من الصبر). والصبر فى لسان العرب: حبس النفس عن المطلوب حتى يدرك، ومنه نهيه عليه السلام عن صبر البهائم. يعنى أنه نهى عن حبسها على التمثيل بها. ورميها كما ترمى الأغراض، ومنه قولهم: صبر الحاكم يمين فلان يعنى حبسه على حلفه. فإن قال قائل: فهذه صفات توجب التغير وحوث الحواث لمن وصف بها فما معنى وصف الله تعالى بالصبر؟. قيل: معنى وصفه بذلك هو بمعنى الحلم، ومعنى وصفه بالحلم هو تأخير العقوبة عن المستحقين لها، ووصفه تعالى بالصبر لم يرد فى التنزيل، وإنما ورد فى حديث أبى موسى، وتأوله أهل السنة على تأويل الحلم، هذا قول ابن فورك.
- فيه: عَائِشَة، صَنَعَ النَّبِى عليه السلام شَيْئًا، فَرَخَّصَ فِيهِ، فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِى عليه السلام فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ، فَوَاللَّهِ إِنِّى لأعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً). - وفيه: أَبُو سَعِيد الْخُدْرِىِّ، قَالَ: كَانَ النَّبِى عليه السلام أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِى خِدْرِهَا، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِى وَجْهِهِ. قال المؤلف: إنما كان عليه السلام لا يواجه الناس بالعتاب يعنى على مايكون فى خاصة نفسه كالصبر على جهل الجاهل وجفاء الأعرابى ألا ترى أن ترك الذى حبذ البردة من عنقه حتى أثرت حبذته فيه؛ لأنه كان لا ينتقم لنفسه، وهذا معنى حديث أبى سعيد، فأما أن تنتهك من الدين حرمة فإنه كان لا يترك العتاب عليها والتقريع فيها ويصدع بالحق فيما يجب على منتهكها ويقتص منه، سواء كان حقًا لله، أو من حقوق العباد. فإن قيل: فإن كان معنى حديث أبى سعيد ماذكرت من أنه عليه السلام كان لا يعاتب فيما يكون فى خاصة نفسه فقد وجه بالعتاب فى حديث عائشة، وخطب بذلك ذكره فى باب من لم يواجه الناس بالعتاب؟. فالجواب: أن هذا العتاب وإن كان خطب به فلم يعين من أراد به، ولايقرعه من بين الناس، وكل ما جرى هذا المجرى من عتاب يعم الكل ولايقصد به أحد بعينه فهو رفق بمن عنى به وستر له كما أراد عمر بن الخطاب- حين أمر الناس كلهم بالوضوء يوم الجمعة، وهو يخطب- ومن أجل الرجل الذى أحدث بين يديه للستر له والرفق به، وليس ذلك بمنزلة أمره له بالوضوء من بينهم وحده فى الستر له لو فعل ذلك، وإنما فعل ذلك عليه السلام- والله أعلم- لأن كل رخصة فى دين الله فالعباد مخيرون بين الأخذ بها والترك لها، وكان عليه السلام رفيقًا بأمته حريصًا على التخفيف عنهم، فلذلك خفف عنهم العتاب لأنهم فعلوا مايجوز لهم من الأخذ بالشدة، وقد ترك عتابهم مرة أخرى على ترك الرخصة، وأخذهم بالشدة حين صاموا فى السفر وهو مفطر، وإن كان قد جاء فى الحديث (إن دين الله يسر). قال الشعبى: إن الله يحب أن يعمل برخصة كما يحب أن يعمل بعزائمه. فليس ذلك دليلاً على تحريم الأخذ بالعزائم؛ لأن ذلك لو كان حرامًا لأمر الذين خالفوا رخصته بالرجوع من فعلهم إلى فعله. وفى حديث أبى سعيد الحكم بالدليل؛ لأنهم كانوا يعرفون كراهية النبى الشىء بتغير وجهه، كما كانوا يعرفون قراءءته فيما أسر فيه فى الصلاة باضطراب لحيتة.
|