الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح السير الكبير **
وإذا أحرق المشركون سفينة من سفائن فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رضي الله عنهما من في السفينة بالخيار إن شاء صبر على النار حتى يحترق وإن شاء ألقى نفسه في الماء حتى يغرق لأنه على يقين من هلاكه في الوجهين وله غرض في كل وجه والناء يكون أسرع لهلاكه ولكن فيه زيادة الألم من حيث تفريق الأعضاء والماء أبطأ لهلاكه ولكن فيه زيادة الغم وطبائع الناس في هذا مختلفة فمنهم من يختار ألم الجرح وسرعة الاستراحة على غم الماء وبطء الهلاك ومنهم من يختار غم الماء على ألم الجراحة فله أن يميل إلى أي الجانبين شاء. وعلى قول محمد رحمة الله عليه هذا على وجوه إن كان يطمع في النجاة في كل واحد من الجانبين ويخاف الهلاك فله الخيار لأنه إن صبر فإنما يقصد به تحصيل النجاة التي يطمع فيها وكذلك إن ألقى نفسه في الماء فإنما يقصد تحصيل النجاة بفعله فله ذلك. وإن كان على يقين من الهلاك في أحذ الوجهين وهو يرجو النجاة في الوجه الآخر فعليه أن يصنع ما يرجو فيه النجاة لأنه مأمور بدفع سبب الهلاك عن نفسه بحسب الوسع منهي عن قتل نفسه. وإن كان على يقين من الهلاك فيهما فعليه أن يصبر وليس له أن يلقي نفسه في الماء لأنه إن ألقى نفسه في الماء صار هالكاً بفعل نفسه وإن صبر صار هالكاً بفعل غيره ولأن يهلك بفعل غيره أولى من أن يهلك بفعل نفسه. ألا ترى أن ظالماً لو قال لإنسان: لتقتلن نفسك أو لأقتلنك لم يسعه أن يقتل نفسه لهذا المعنى وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول: الاستدامة فيما يستدام كالإنشاء فالمقام في مكانه حتى تنتهي إليه النار من فعله كما أن إلقاء نفسه في الماء من فعله وليس هذا نظير مسألة الإكراه لأن تيقن فيما هدده به المكره ليس كتيقنه فيما يفعل بنفسه فقد يهدد المكره ثم لا يحقق وها هنا تيقنه في الهلاك في الجانبين بصفة واحدة. واستشهد محمد رحمه الله برجل يدخل في بيت إلى جانبه بيت فوقع الحريق في البيتين وهو على يقين من الهلاك إن ثبت في البيت الذي هو فيه أو وثب إلى البيت الآخر فإنه يتعين عليه الثبات وليس له أن يتحول إلى البيت الآخر فمن أصحابنا من يقول: الخلاف في الفصلين واحد ومن عادة محمد رحمه الله الاستشهاد بالمختلف على المختلف لإيضاح الكلام فالأصح أن هذا قولهم جميعاً والفرق لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أن جهة الهلاك ها هنا واحدة في البيتين ولا غرض له في التحول من أحدهما إلى الآخر وإنما يثبت الخيار للمرء بين الشيئين إذا كان مفيداً له فائدة فأما في مسألة السفينة فجهة الهلاك مختلفة لما بينا أن الماء ليس من جنس النار وفي إثبات الخيار له فائدة فأثبتناه. ولو أن مشركاً طعن مسلماً برمح فأنفذه فأراد أن يمشي في الرمح إليه ليضربه بالسيف فإن كان يخاف الهلاك إن فعل ذلك ويرجو النجاة إن خرج من الرمح فعليه أن يخرج لأن المشي إليه في الرمح إعانة على قتل نفسه والواجب على كل أحد الدفع عن نفسه بجهده أولا ثم النيل من عدوه. وإن استوى الجانبان عنده في التيقن بالهلاك فيهما أو رجاء النجاة فيهما من حيث إنه لا يزيد في جراحته فلا بأس بأن يمشي إليه في الرمح حتى يضربه بالسيف وإن شاء خرج من الرمح لأنه لا بد من أن يخرج من الرمح حتى يضربه بالسيف وإن شاء خرج من الرمح لأنه لا بد من أن يخرج من الرمح من أي الجانبين شاء وفرق محمد رحمه الله بين هذا وبين ما سبق وقال: ليس هناك في إلقاء نفسه معنى النيل من العدو وها هنا في المشي إليه في الرمح معنى النيل من العدو والظفر به وهذا القصد يبيح له الإقدام وهذا كله إنما يمكن العمل فيه بغالب الرأي لأنه لا طريق إلى الوقوف على حقيقة الأمر فيه وغالب الرأي كاليقين فيمثله. ولو أن مسلماً حمل على ألف رجل وحده فإن كان يطمع أن يظفر بهم أو ينكأ فيهم فلا بأس بذلك لأنه يقصد بفعله النيل من العدو. وقد فعل ذلك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم غير واحد من الأصحاب يوم أحد ولم ينكر ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشر بعضهم بالشهادة حين استأذنه في ذلك وإن كان لم يطمع في نكاية فإنه يكره له هذا الصنيع لأنه يتلف نفسه من غير منفعة للمسلمين ولا نكاية فيه للمشركين. وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسعه الإقدام وإن كان يعلم أن القوم يقتلونه وأنه لا يتفرق جمعهم بسببه لأن القوم هناك مسلمون معتقدون لما يأمرهم به فلا بد من أن فعله ينكئ في قلوبهم وإن كانوا لا يظهرون ذلك وها هنا القوم كفار لا يعتقدون حقيقة الإسلام وفعله لا ينكئ في باطنهم فيشترط النكاية ظاهراً لإباحة الإقدام وإن كان لا يطمع في نكاية ولكنه يجرئ بذلك المسلمين عليهم حتى يظهر بفعل النكاية في العدو فلا بأس بذلك إن شاء الله تعالى لأنه لو كان على طمع من النكاية بفعله جاز له الإقدام فكذلك إذا كان يطمع في النكاية فيهم بفعل غيره. وكذلك إن كان في إرهاب العدو وإدخال الوهن عليهم بفعله فلا بأس به لأن هذا أفضل وجوه النكاية وفيه منفعة للمسلمين وكل واحد يبذل نفسه لهذا النوع من المنفعة ولو أن راكب السفينة حين انتهى النار إليه فوجد مسها وحرارتها لم يجد محيصاً إلا أن يرمي بنفسه في الماء فرمى بنفسه كان إن شاء الله في سعة لأن هذا الان مدفوع من إلقاء النار في السفينة والأول يكون ملقياً نفسه في الماء لا مدفوع غيره فإنه لا يتصور مدفوعاً قبل أن يتصل به فعل الدافع وهناك ما اتصل به فعل الدافع وها هنا قد اتصل به فعله. ألا ترى أنه لو أوقدت له نار وقيل له: لنضربنك بالسياط حتى نقتلك أو تلقي نفسك في النار حتى تحترق لم يسعه إلقاء نفسه وإن كان ضربوه بالسياط فبلغ من جزعه واضطرابه أن يسقط في النار رجوت أن يكون في سعة لأنه مدفوع الضارب ها هنا ولأن ألم السوط قد أصابه وما أصابه ألم النار بعد فهو إنما يفر من ألم قد أصابه فأرجو أن يكون في سعة. والأصل فيه حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: لفتنة السوط أشد من فتنة السيف إن الرجل ليضرب بالسوط حتى يركب الخشبة يعني إذا أريد صلبه عليها والله الموفق.
قال: لا ينبغي للمسلمين أن يقاتلوا أهل الشرك مع أهل الشرك لأن الفئتين حزب الشيطان وحزب الشيطان هم الخاسرون فلا ينبغي للمسلم أن ينضم إلى إحدى الفئتين فيكثر سوادهم ويقاتل دفعاً عنهم وهذا لأن حكم الشرك هو الظاهر والمسلم إنما يقاتل لإظهار أهل الحق لا لإظهار حكم الشرك ولا ينبغي أن يقاتل أحد من أهل العدل أحداً من الخوارج مع قوم آخرين من الخوارج إذا كان حكم الخوارج هو الظاهر. لأنه إباحة القتال مع الفئة الباغية من المسلمين إن رجعوا إلى أمر الله لا يحصل هذا المقصود بهذا القتال إذا كان حكم الخوارج هو الظاهر. ولا بأس بأن يقاتل المسلمون من أهل العدل مع الخوارج المشركين من أهل الحرب لأنهم يقاتلون الآن لدفع فتنة الكفر إظهار الإسلام فهذا قتال على الوجه المأمور به وهو إعلاء كلمة الله تعالى بخلاف ما سبق فالقتال هناك لإظهار ما هو مائل عن طريق الحق وها هنا لإثبات أصل الطريق. ثم إنما يباح ذلك إذا لم يكن فيه نقض عهد منهم فأما إذا أمنوا قوماً ثم غدروا بهم فإنه لا يسع القتال معهم لأهل العدل لأن الوفاء بالأمان واجب فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب في كل عهد وفاء لا غدر فيه وإذا كان المنع لأهل العدل يختص بذلك المحل حتى يجوز أن يقاتل معهم قوماً آخرين من أهل الحرب ممن لم يؤمنوهم لأنه ليس في هذا القتال معنى الغدر بل فيه إظهار الإسلام. ولو قال أهل الحرب لأسراء فيهم: قاتلوا معنا عدونا من المشركين وهم لا يخافونهم على أنفسهم إن لم يفعلوا فليس ينبغي أن يقاتلوهم معهم لأن في هذا القتال إظهار الشرك والمقاتل يخاطر بنفسه فلا رخصة في ذلك إلا على قصد إعزاز الدين أو الدفع عن نفسه. فإذا كانوا يخافون أولئك الآخرين على أنفسهم فلا بأس بأن يقاتلوهم لأنهم يدفعون الآن شر القتل عن أنفسهم فإنهم يأمنون الذين هم في أيديهم على أنفسهم ولا يأمنون الآخرين إن وقعوا في أيديهم فحل لهم أن يقاتلوا دفعاً عن أنفسهم. وإن قالوا لهم: قاتلوا معنا عدونا من المشركين وإلا قتلناكم فلا بأس بأن يقاتلوا دفعاً لهم لأنهم يدفعون الآن أشر القتل عن أنفسهم. وقتل أولئك المشركين لهم حلال ولا بأس بالإقدام على ما هو حلال عند تحقق الضرورة بسبب الإكراه وربما يجب ذلك كما في تناوله الميتة وشرب الخمر وإن قالوا لهم قاتلوا معنا المسلمين وإلا قتلناكم لم يسعهم القتال مع المسلمين لأن ذلك حرام على المسلمين بعينه فلا يجوز الأقدام عليه بسبب التهديد بالقتل كما لو قال له: اقتل هذا المسلم وإلا قتلتك. فإن هددوهم يقفوا معهم في صفهم ولا يقاتلوا المسلمين رجوت أن يكونوا في سعة لأنهم الآن لا يصنعون بالمسلمين شيئاً فهذا ليس من جملة المظالم أكبر ما فيه أن يلحق المسلمين هم لكثرة سواد المشركين في أعينهم فهو بمنزلة ما لو أكره على إتلاف مال المسلمين بوعيد متلف فإن كانوا لا يخافون المشركين على أنفسهم فليس لهم أن يقفوا معهم في صف وإن أمروهم بذلك لأن فيه إرهاب المسلمين وإلقاء الرعب والفشل فيهم وبدون تحقق الضرورة لا يسع المسلم الأقدام على شيء منه. ولو قالوا للأسراء: قاتلوا معنا عدونا من أهل حرب آخرين على أن نخلي سبيلكم إذا انقضت حربنا لو وقع في قلوبهم أنهم صادقون فلا بأس بأن يقاتلوا معهم لأنهم يدفعون بهذا الأسر عن أنفسهم ولا يكون هذا دون ما إذا كانوا يخافون على أنفسهم من أولئك المشركين فكما يسعهم الإقدام هناك فكذلك يسعهم ها هنا فإن قيل: كيف يسعهم هذا وفيه قوة لهم على المسلمين لأنهم إذا ظفروا بعدوهم فأمنوا جانبهم أقبلوا على قتال المسمين وربما يأخذون منهم الكراع والسلاح فيتقوون بها على المسلمين قلنا: ذلك موهوم وما يحصل لهم الآن من النجاة عن أسر المشركين بهذا القتال معلوم فيترجح هذا الجانب ألا ترى أنهم لو طلبوا من إمام المسلمين أن يفاديهم بأعدادهم من المشركين أو بالكراع والسلاح جاز له أن يفعل لتخلصهم به من الأسر وإن كانوا يتقوون بما يأخذون على المسلمين. ولو قالوا أعيوننا على المسلمين بقتال أو بتكثير سواد على أن نخلي سبيلكم لم يحل لهم هذا لأنه لا رخصة لهم في قتال المسلمين بحال ولا في إلقاء الرعب في قلوبهم ما لم تحقق الضرورة بخوف الهلاك على أنفسهم وذلك غير موجود ها هنا ولو قالوا: قاتلوا معنا عدونا من المشركين على أن نخليكم في بلادنا ولا ندعكم ترجعون إلى أهليكم فليس ينبغي لهم أن يقاتلوا معهم لأنهم إن كانوا آمنين على أنفسهم لا يخافون من جانبهم تلف نفس أو عضو فلا فرق بين أن يكونوا محبوسين في بلادهم وبين أن يكونوا في سجونهم لأن في الوجهين يلحقهم هم بالانقطاع عن أهاليهم. وعن إخوانهم من المؤمنين فلا ينبغي لهم أن يقاتلوا لإظهار حكم الشرك بدون منفعة ظاهرة لهم في ذلك. وإن كانوا في ضر وبلاء يخافون على أنفسهم الهلاك فلا بأس بأن يقاتلوا معهم المشركين إذا قالوا: نخرجكم من ذلك لأن لهم في هذا القتال غرضاً صحيحاً وهو دفع البلاء والضر الذي نزل بهم. ولو أنهم خلوا سبيلهم ليرجعوا إلى دار المسلمين فظفروا بمال من أموالهم فلا بأس بأن يأخذوها سراً منهم فيخرجوها إلى دار الإسلام لأنهم أسراء في أيديهم ما لم يخرجوا وإن خلوا سبيلهم فليس في أخذ أموالهم وقتل نفوسهم إن تمكنوا من ذلك غدر بأمان بينهم وبين أهل الحرب وإنما هو إصابة من الحلال فحالهم في ذلك كحال المتلصصين في دار الحرب. حتى إذا أخرجوا ذلك فإن كانوا أهل منعة خمس والباقي بينهم على سهام الغنيمة لأنهم إنما تم إحرازهم لذلك بالإخراج إلى دار الإسلام. وكذلك إن كان هذا المال أصابوه من أهل الشرك الذين قاتلوا معهم وخفي على الذين كانوا أسراء في أيديهم أن يأخذوا ذلك منهم فيستوي إن كان ما أصابوه من المسلمين أو من أهل الحرب لأن ذلك كله كان للمشركين ولم يتم إحراز المسمين لها إلا بعد الإخراج إلى دار الإسلام. فإن كانوا قد قالوا لهم: تقاتلون معنا عدونا على أن تسلموا الغنائم كلها لنا ولا تأخذوا منها شيئاً على أن نخلي سبيلكم فهذا والأول سواء لأن أكبر ما في الباب أن بهذا الشرط يلتحق المصاب بأموالهم. وقد بينا أنه لا بأس بأن يأخذوا أموالهم إذا تمكنوا من ذلك لأنه لا أمان بينهم وبين أهل الحرب وإنما يمتنع أخذ المال المباح إذا كان فيه غدر الأمان. وإن كانوا قالوا لهم: نخلي سبيلكم إلى بلادكم على أن تأخذوا من أموالنا شيئاً فأجابوهم إلى ذلك فليس ينبغي لهم أن يأخذوا من أموالهم شيئاً لأنهم شرطوا ترك التعرض لهم في أموالهم والمسلمون عند شروطهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قيل: في المسألة الأولى شرطوا ذلك لهم أيضاً ثم قلتم: يسعهم إخفاء ما أخذوا من أهل الحرب الآخرين حتى يخرجوا إلى دار الإسلام قلنا: هناك إنما شرطوا عليهم أن يسلموا غنائمهم وإنما غنائمهم ما كانوا هم الذين أخذوه من العدو فأما ما أخذه الأسراء من العدو فليس من غنائم الذين قاتلوهم معهم. لأن ثبوت الشركة في الغنائم من حكم الإسلام وذلك لا يثبت في منعة أهل الشرك وإنما الثابت في منعتهم أن من أخذ شيئاً فهو أحق به من غيره فعرفنا أنه ليس في هذا الإخفاء مخالفة شرط مفصح له ثم تبين أن مخالفة الشرط المفصح به لا يصح لهم. وإن كانوا أسراء في أيديهم فقال: لو كانوا في سجن من سجونهم فقالوا: نؤمنكم على أن نخرجكم فتكونوا في بلادنا على ألا ندعكم ترجعون إلى بلادكم ولا تقتلوا منا أحداً ولا تأخذوا منا مالاً سراً ولا علانية فرضي الإسراء بذلك فينبغي لهم أن يفوا بهذا الشرط لأنهم فيما التزموا بالشرط نصاً بمنزلة المستأمنين فيهم. ألا ترى أنهم آمنوا بقبول ذلك من القتل والحبس والعذاب. فإن وجدوا بعد هذا عبداً أصابوه من المسلمين لم يسع لهم أن يأخذوه لأن ذلك مالهم لو أسلموا عليه كان لهم. ولو وجدوا حرة مأسورة أو مدبرة لم أر بأساً أن يأخذوها فيخرجوها لأن أهل الحرب لم يملكوها وإنما شرطوا عليهم ترك التعرض لهم في أموالهم. ولو وجدوا كراعاً أو سلاحاً أخذوه من المسلمين لم يسعهم أن يتعرضوا لشيء من ذلك لأن هذا من أموالهم. ولو قالوا للأسراء: اخرجوا إلى بلادكم فأنتم آمنون ولم يقل لهم الأسراء شيئاً فلا بأس بأن يقاتلهم الأسراء بعد هذا القول ويأخذوا أموالهم لأن الأسراء ما التزموا لهم شيئاً بالشرط واشتراط أهل الحرب عليهم لا يلزمهم شيئاً مما لم يلتزموه. وهذا بخلاف ما إذا جاءهم قوم من المسلمين ليدخلوا دار الحرب فقال لهم أهل الحرب: ادخلوا وأنتم آمنون فدخلوا ولم يشترطوا لهم شيئاً لأن هناك مجيئهم على سبيل الاستئمان بمنزلة التصريح بالاشتراط على أنفسهم ألا يغدروا بهم ولا يوجد هذا المعنى في حق الأسراء لأنهم كانوا مقهورين في أيديهم لا مستأمنين. ولو قال أهل الحرب للأسراء فيهم: قاتلوا معنا عدونا على أن نخلي سبيلكم لترجعوا إلى بلادكم وعلى أن ما أصبتم من شيء فهو لكم وما أصبنا نحن من شيء لم تعرضوا فيه لنا ثم تمكن الأسراء من أخذ ما أصابه أهل الحرب سراً فليس ينبغي لهم أن يأخذوه لأنهم شرطوا لهم ذلك والوفاء بالشرط واجب. فإن سلم أهل الحرب للأسراء ما أصابوه فأخرجوه إلى دار الإسلام أو إلى عسكر المسلمين في دار الحرب فهو لهم خاصة لا خمس فيه والفارس والراجل فيه سواء لأنهم أصابوه وحكم الشرك هو الظاهر عليهم فتم إحرازهم له في دار الشرك حين سلم لهم العدو ذلك ولأن ما أصابوا في منعة أهل الشرك فهو من وجه كان أهل الشرك هم الذين أصابوه ثم سلموه لهم بطيبة أنفسهم. فيكون ذلك بمنزلة مال وهبوه لهم. ولا يكون لذلك المال حكم الغنيمة لأنه صار لهم قبل أن يخرجوه إلى منعة المسلمين. ولو كان المصيب بعضهم كان ذلك لمن أصابه خاصة لما بينا أنه لا تأثير للإحراز بمنعة المسلمين ها هنا وغير المصيب في هذا بالإحراز وسبب تمام الحق والإصابة مع تسليم المشركين ذلك للمصيب ولا شركة للآخرين في هذا السبب. ولو كان المشركون شرطوا أن ما أصابه إنسان من الأسراء فهو بين جميع الأسراء ورضي الأسراء بذلك فهذا المصاب بينهم بالسوية وإن أصابه بعضهم لأن أهل الحرب إنما سلموه لجماعتهم فكان هذا بمنزلة مال وهبوه لهم جميعاً من أموالهم وقبضه بعضهم برضاء الجماعة منهم ولو كانوا شرطوا عليهم أن ما أصبنا نحن وأنتم فلكم نصفه ولنا نصفه واقتسموا ما أصابوه نصفين ثم خرج الأسراء إلى دارنا فجميع ما أصابوه بينهم بالسوية ولا خمس فيه لأنهم تمكنوا من إخراجه بتسليم المشركين لهم وإنما الغنيمة اسم لمال مأخوذ على وجه القهر وذلك ينتفي إذا سلم المشركون لهم ذلك. فأما ما أخرجته الأسراء هنا بغير طيب نفس أهل الحرب مما لو ظهر عليه أهل الحرب أخذوه منهم فإن ذلك يخمس والباقي بينهم على سهام الغنيمة لأن هذا مصاب بطريق القهر. ول يتم سبب حقهم فيه قبل الإحراز بمنعة المسلمين. إلا في خصلة واحدة وهي ما أخذ الأسراء بغير طيب أنفس أهل الحرب مما غدروا فيه فإن ذلك لا يخمس لأن الأخذ لم يكن حلالاً لهم وللإمام أن يأمرهم برده على سبيل الفتوى بمنزلة ما أخذه المستأمنون منهم على وجه التلصص. ولو أن أهل الحرب أرسلوا الأسراء خاصة أن يقاتلوا أهل حرب آخرين وجعلوا الأمير من الأسراء وجعلوا له أن يحكم بحكم أهل الإسلام وسلموا لهم الغنائم يخرجونها إلى دار الإسلام فلا بأس بالقتال على هذا إذا خافوهم أو لم يخافوا لأنهم يقاتلون وحكم الإسلام هو الظاهر عليهم فيكون ذلك جهاداً منهم. ثم يخمس ما أصابوا إذا أخرجوه إلى دار الإسلام ويقسم الباقي بينهم على سهام الغنيمة لأن المصاب لما أخذ حكم الغنيمة ها هنا فتأكد الحق فيه يكون الإحراز بدار الإسلام ألا ترى أن قوماً من أهل الحر موادعين لأهل الإسلام لو طلب إليهم المسلمون أن يدخلوا بلادهم جنداً ليغيروا على أهل حرب آخرين ففعلوا ذلك فإنه يخمس ما أصابوا ثم يقسم الباقي بينهم على سهام الغنيمة. ولو كان أهل الحرب الذين بعثوا الأسراء لقتال عدوهم شرطوا أن المصاب لهم دون الأسراء أو نصف المصاب لهم والأسراء لا يخافونهم إن لم يفعلوا ذلك فليس ينبغي لهم أن يقاتلوا على هذا الشرط لأن فيه إعانتهم على المسلمين ألا ترى أنهم لو اصابوا كراعاً أو سلاحاً أخذوا منهم المشروط فتقووا به على قتال المسلمين إلا أن يكونوا شرطوا لهم أن يتركوهم فيخرجوا إلى دار الإسلام إذا فعلوا ذلك فحينئذ لا بأس بأن يفعلوا لأن هذا في المعنى بمنزلة مفاداتهم أنفسهم بما يعطونهم من السبي والكراع والسلاح. ثم إذا خرجوا بالبقية إلى دار الإسلام خمس ذلك وقسم بينهم على سهام الغنيمة لأنهم أصابوه وحكم الإسلام هو الظاهر فيهم وبالإحرار بدار الإسلام يتأكد حقهم فيه لا بتسليم المشركين لهم ذلك لأن المشركين ما كانوا معهم حين اصابوا ذلك وكانت منعتهم حين اصابوا منعة المسلمين. ولو كانوا شرطوا للأسراء الكراع والسلاح والسبي ولهم ما سوى ذلك لم يكن بقتال الأسراء على هذا بأس أيضاً بمنزلة مفاداتهم أنفسهم بالمال فإن كانوا قالوا لهم: ذلك لكم على ألا تخرجوه إلى دار الإسلام ولا تخرجوا أنتم أيضاً فحينئذ لا ينبغي لهم أن يقاتلوا على هذا إلا عند تحقق الضرورة بأن يخافوهم على أنفسهم لأن في هذا القتال تحصيل منفعة المال للمشركين وليس بمقابلته معنى الخلاص للمسلمين فلا ينفع القتال على هذا إلا عند تحقق الضرورة.
|