الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} قوله تعالى{إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله} قوله تعالى{قالوا نشهد إنك لرسول الله} قيل: معنى {نشهد} نحلف. فعبر عن الحلف بالشهادة؛ لأن كل واحد من الحلف والشهادة إثبات لأمر مغيب؛ ومنه قول قيس بن ذريح. ويحتمل أن يكون ذلك محمولا على ظاهره أنهم يشهدون أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم اعترافا بالإيمان ونفيا للنفاق عن أنفسهم، وهو الأشبه. {والله يعلم إنك لرسوله} كما قالوه بألسنتهم. {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} أي فيما أظهروا من شهادتهم وحلفهم بألسنتهم. وقال الفراء{والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} بضمائرهم، فالتكذيب راجع إلى الضمائر. وهذا يدل على أن الإيمان تصديق القلب، وعلى أن الكلام الحقيقي كلام القلب. ومن قال شيئا واعتقد خلافه فهو كاذب. وقد مضى هذا المعنى في أول البقرة مستوفى وقيل: أكذبهم الله في أيمانهم وهو قوله تعالى {اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون} قوله تعالى{اتخذوا أيمانهم جنة} أي سترة. وليس يرجع إلى قوله {نشهد إنك لرسول الله} وإنما يرجع إلى سبب الآية التي نزلت عليه، حسب ما ذكره البخاري والترمذي عن ابن أبي أنه حلف ما قال وقد قال. وقال الضحاك: يعني حلفهم بالله {إنهم لمنكم} وقيل: يعني بأيمانهم ما أخبر الرب عنهم في سورة التوبة إذ قال من قال أقسم بالله أو أشهد بالله أو أعزم بالله أو أحلف بالله، أو أقسمت بالله أو أشهدت بالله أو أعزمت بالله أو أحلفت بالله، فقال في ذلك كله {بالله} فلا خلاف أنها يمين. وكذلك عند مالك وأصحابه إن قال: أقسم أو أشهد أو أعزم أو أحلف، ولم يقل {بالله}، إذا أراد {بالله}. وإن لم يرد {بالله} فليس بيمين. وحكاه الكيا عن الشافعي، قال الشافعي: إذا قال أشهد بالله ونوى اليمين كان يمينا. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لو قال أشهد بالله لقد كان كذا كان يمينا، ولو قال أشهد لقد كان كذا دون النية كان يمينا لهذه الآية، لأن الله تعالى ذكر منهم الشهادة ثم قال{اتخذوا أيمانهم جنة}. وعند الشافعي لا يكون ذلك يمينا وإن نوى اليمين، لأن قوله تعالى{اتخذوا أيمانهم جنة} ليس يرجع إلى قوله{قالوا نشهد} وإنما يرجع إلى ما في التوبة من قوله تعالى قوله تعالى{فصدوا عن سبيل الله} أي أعرضوا، وهو من الصدود. أو صرفوا المؤمنين عن إقامة حكم الله عليهم من القتل والسبي وأخذ الأموال، فهو من الصد، أو منعوا الناس عن الجهاد بأن يتخلفوا ويفتدي بهم غيرهم. وقيل: فصدوا اليهود والمشركين عن الدخول في الإسلام، بأن يقولوا ها نحن كافرون بهم، ولو كان محمد حقا لعرف هذا منا، ولجعلنا نكالا. فبين الله أن حالهم لا يخفي عليه، ولكن حكمه أن من أظهر الإيمان أجرى عليه في الظاهر حكم الإيمان. {إنهم ساء ما كانوا يعملون} أي بئست أعمالهم الخبيئة من نفاقهم وأيمانهم الكاذبة وصدهم عن سبيل الله أعمالا. {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} قوله تعالى{ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا} هذا إعلام من الله تعالى بأن المنافق كافر. أي أقروا باللسان ثم كفروا بالقلب. وقيل: نزلت الآية في قوم آمنوا ثم أرتدوا {فطبع على قلوبهم} أي ختم عليها بالكفر {فهم لا يفقهون} الإيمان ولا الخير. وقرأ زيد بن علي {فطبع الله على قلوبهم}. {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون} قوله تعالى{وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم} أي هيئاتهم ومناظرهم. {وإن يقولوا تسمع لقولهم} يعني عبدالله بن أبي. قال ابن عباس: كان عبدالله بن أبي وسيما جسيما صحيحا صبيحا ذلق اللسان، فإذا قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم مقالته. وصفه الله بتمام الصورة وحسن الإبانة. وقال الكلبي: المراد ابن أبى وجد بن قيس ومعتب بن قشير، كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة. قوله تعالى{يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو} أي كل أهل صيحة عليهم هم العدو. فـ {هم العدو} في موضع المفعول الثاني على أن الكلام لا ضمير فيه. يصفهم بالجبن والخور. قال مقاتل والسدي: أي إذا نادى مناد في العسكر أن انفلتت دابة أو أنشدت ضالة ظنوا أنهم المرادون؛ لما في قلوبهم من الرعب. كما قال الشاعر وهو الأخطل: وقيل{يحسبون كل صيحة عليهم هم }العدو كلام ضميره فيه لا يفتقر إلى ما بعد؛ وتقديره: يحسبون كل صيحة عليهم أنهم قد فطن بهم وعلم بنفاقهم؛ لأن للريبة خوفا. ثم استأنف الله خطاب نبيه صلى الله عليه وسلم فقال{هم العدو} وهذا معنى قول الضحاك وقيل: يحسبون كل صيحة يسمعونها في المسجد أنها عليهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر فيها بقتلهم؛ فهم أبدا وجلون من أن ينزل الله فيهم أمرا يبيح به دماءهم، ويهتك به أستارهم. وفي هذا المعنى قول الشاعر: بطن من بني، يربوع. ثم وصفهم الله بقوله{هم العدو فاحذرهم} حكاه عبدالرحمن بن أبي حاتم. وفي قوله تعالى: وجهان: أحدهما: فاحذر أن تثق بقولهم أو تميل إلى كلامهم. الثاني: فاحذر ممايلتهم لأعدائك وتخذيلهم لأصحابك. قوله تعالى{قاتلهم الله} أي لعنهم الله قال ابن عباس وأبو مالك. وهي كلمة ذم وتوبيخ. وقد تقول العرب: قاتله الله ما أشعره! يضعونه موضع التعجب. وقيل: معنى {قاتلهم الله} أي أحلهم محل من قاتله عدو قاهر؛ لأن الله تعالى قاهر لكل معاند. حكاه ابن عيسى. {أنى يؤفكون} أي يكذبون؛ قاله ابن عباس. قتادة: معناه يعدلون عن الحق. الحسن: معناه يصرفون عن الرشد. وقيل: معناه كيف تضل عقولهم عن هذا مع وضوح الدلائل؛ وهو من الإفك وهو الصرف. و{أن} بمعنى كيف؛ وقد تقدم. {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون} قوله تعالى{وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله} لما نزل القرآن بصفتهم مشى إليهم عشائرهم وقالوا: افتضحتم بالنفاق فتوبوا إلى رسول الله من النفاق، واطلبوا أن يستغفر لكم. فلووا رؤوسهم؛ أي حركوها استهزاء وإباء؛ قال ابن عباس. وعنه أنه كان لعبدالله بن أبي موقف في كل سبب يحض على طاعة الله وطاعة رسوله؛ فقيل له: وما ينفعك ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم غضبان: فأته يستغفر لك؛ فأبى وقال: لا أذهب إليه. وسبب نزول هذه الآيات أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطلق على ماء يقال لـ {المريسيع} من ناحية {قديد} إلى الساحل، فأزدحم أجير لعمر يقال له{جهجاه} مع حليف لعبدالله بن أبي يقال له{سنان} على ماء {بالمشلل}؛ فصرخ جهجاه بالمهاجرين، وصرخ سنان بالأنصار؛ فلطم جهجاه سنانا فقال عبدالله بن أبي: أوقد فعلوها! والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز - يعني أبيا - الأذل؛ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. ثم قال لقومه: كفوا طعامكم عن هذا الرجل، ولا تنفقوا على من عنده حتى ينفضوا ويتركوه. فقال زيد بن أرقم - وهو من رهط عبدالله - أنت والله الذليل المنتقص في قومك؛ ومحمد صلى الله عليه وسلم في عز من الرحمن ومودة من المسلمين، والله لا أحبك بعد كلامك هذا أبدا. فقال عبدالله: اسكت إنما كنت ألعب. فأخبر زيد النبي صلى الله عليه وسلم بقول: فأقسم بالله ما فعل ولا قال؛ فعذره النبي صلى الله عليه وسلم. قال زيد: فوجدت في نفسي ولا مني الناس؛ فنزلت سورة النافقين في تصديق زيد وتكذيب عبدالله. فقيل لعبدالله: قد نزلت فيك آيات شديدة فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لك؛ فألوى برأسه، فنزلت الآيات. خرجه البخاري ومسلم والترمذي بمعناه. وقد تقدم أول السورة. وقيل{يستغفر لكم} يستتبكم من النفاق؛ لأن التوبة استغفار. قوله تعالى{ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون} أي يعرضون عن الرسول متكبرين عن الإيمان. وقرأ نافع {لووا} بالتخفيف. وشدد الباقون؛ واختاره أبو عبيد وقال: هو فعل لجماعة. النحاس: وغلط في هذا؛ لأنه نزل في عبدالله بن أبي لما قيل له: تعال يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم حرك رأسه استهزاء. فإن قيل: كيف أخبر عنه بفعل الجماعة؟ قيل له: العرب تفعل هذا إذا كنت عن الإنسان. أنشد سيبويه لحسان: وإنما خاطب حسان ابن الأبيرق في شيء سرقه بمكة. وقصته مشهورة. وقد يجوز أن يخبر عنه وعمن فعل فعله. وقيل: قال ابن أبي لما لوى رأسه: أمرتموني أن أومن فقد آمنت، وأن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت؛ فما بقي إلا أن أسجد لمحمد. {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين} قوله تعالى{سواء عليهم أاستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم} يعني كل ذلك سواء، لا ينفع استغفارك شيئا؛ لأن الله لا يغفر لهم. نظيره {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون} قوله تعالى{هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا } ذكرنا سبب النزول فيما تقدم. وابن أبي قال: لا تنفقوا علي من عند محمد حتى ينفضوا؛ حتى يتفرقوا عنه. فاعلمهم الله سبحانه أن خزائن السموات والأرض له، ينفق كيف يشاء. قال رجل لحاتم الأصم: من أين تأكل؟ فقال{ولله خزائن السموات والأرض}. وقال الجنيد: خزائن السموات الغيوب، وخزائن الأرض القلوب؛ فهو علام الغيوب ومقلب القلوب. وكان الشبلي يقول{ولله خزائن السموات والأرض} فأين تذهبون. {ولكن المنافقين لا يفقهون} أنه إذا أراد أمرا يسره. {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} القائل ابن أبي كما تقدم. وقيل: إنه لما قال{ليخرجن الأعز منها الأذل} ورجع إلى المدينة لم يلبث إلا أياما يسيرة حتى مات؛ فاستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألبسه قميصه؛ فنزلت هذه الآية{لن يغفر الله لهم}. وقد مضى بيانه هذا كله في سورة التوبة مستوفى. وروي أن عبدالله بن عبدالله بن أبي بن سلول قال لأبيه: والذي لا إله إلا هو لا تدخل المدينة حتى تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأعز وأنا الأذل؛ فقاله. توهموا أن العزة بكثرة الأموال والأتباع؛ فبين الله أن العزة والمنعة والقوة لله. {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون} حذر المؤمنين أخلاق المنافقين؛ أي لا تشتغلوا بأموالكم كما فعل المنافقون إذ قالوا - للشح بأموالهم - : لا تنفقوا على من عند رسول الله. {عن ذكر الله} أي عن الحج والزكاة. وقيل: عن قراءة القرآن. وقيل: عن إدامة الذكر. وقيل: عن الصلوات الخمس؛ قاله الضحاك. وقال الحسن: جمع الفرائض؛ كأنه قال عن طاعة الله. وقيل: هو خطاب للمنافقين؛ أي آمنتم بالقول فآمنوا بالقلب. {ومن يفعل ذلك} أي من يشتغل بالمال والولد عن طاعة ربه {فأولئك هم الخاسرون}. {وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين، ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون} قوله تعالى{وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت} يدل على وجوب تعجيل أداء الزكاة، ولا يجوز تأخيرها أصلا. وكذلك سائر العبادات إذا تعين وقتها. {فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين} سأل الرجعة إلى الدنيا ليعمل صالحا. و قلت: قال ابن العربي: أخذ ابن عباس بعموم الآية في إنفاق الواجب خاصة دون النفل؛ فأما تفسيره بالزكاة فصحيح كله عموما وتقديرا بالمائتين. وأما القول في الحج ففيه إشكال؛ لأنا إن قلنا: إن الحج على التراخي ففي المعصية في الموت قبل الحج خلاف بين العلماء؛ فلا تخرج الآية عليه. وإن قلنا: إن الحج على الفور فالآية في العموم صحيح؛ لأن من وجب عليه الحج فلم يؤده لقي من الله ما يود أنه رجع ليأتي بما ترك من العبادات. وأما تقدير الأمر بالزاد والراحلة ففي ذلك خلاف مشهور بين العلماء. وليس لكلام ابن عباس فيه مدخل؛ لأجل أن الرجعة والوعيد لا يدخل في المسائل المجتهد فيها ولا المختلف عليها، وإنما يدخل في المتفق عليه. والصحيح تناوله للواجب من الإنفاق كيف تصرف بالإجماع أو بنص القرآن؛ لأجل أن ما عدا ذلك لا يتطرق إليه تحقيق الوعيد. قوله تعالى{لولا} أي هلا؛ فيكون استفهاما. وقيل{لا} صلة؛ فيكون الكلام بمعنى التمني. {فأصدق} نصب على جواب التمني بالفاء. {وأكون} عطف على {فأصدق} وهي قراءة ابن عمرو وابن محيصن ومجاهد. وقرأ الباقون {وأكن} بالجزم عطفا على موضع الفاء؛ لأن قوله{فأصدق} لو لم تكن الفاء لكان مجزوما؛ أي أصدق. ومثله قلت: إلا الشهيد فإنه يتمنى الرجوع حتى يقتل، لما يرى من الكرامة. {والله خبير بما تعملون} من خير وشر. وقراءة العامة بالتاء على الخطاب. وقرأ أبو بكر عن عاصم والسلمي بالياء؛ على الخبر عمن مات وقال هذه المقالة.
|