الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عَنِيَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، بِقَوْلِهِ لِبَنِي قُرَيْظَةَ حِينَ حَاصَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا هُوَ الذَّبْحُ، فَلَا تَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ ".
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} "، قَالَ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ زَعَمُوا أَنَّهُ أَبُو لُبَابَةَ أَشَارَتْ إِلَيْهِ بَنُو قُرَيْظَةَ يَوْمَ الْحِصَارِ، مَا الْأَمْرُ؟ وَعَلَامَ نَنْزِلُ؟ فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ الذَّبْحُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ سَأَلَ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حُكْمِهِ فِي قَتِيلٍ قَتَلَهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنْ عَامِرٍ: " {لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} "، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ، فَقَالَ الْقَاتِلُ لِحُلَفَائِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: سَلُوا لِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ بُعِثَ بِالدِّيَةِ اخْتَصَمْنَا إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يَأْمُرُنَا بِالْقَتْلِ لَمْ نَأْتِهِ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنْ عَامِرٍ، نَحْوَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صُورِيَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ ارْتَدَّ بَعْدَ إِسْلَامِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا هَنَّادٌ وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالَا: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ يُحَدِّثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: «أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُمْ: أَنَّ أَحْبَارَ يَهُودَ اجْتَمَعُوا فِي بَيْتِ الْمِدْرَاسِ حِينَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَقَدْ زَنَى رَجُلٌ مِنْهُمْ بَعْدَ إِحْصَانِهِ بِامْرَأَةٍ مِنْ يَهُودَ قَدْ أُحْصِنَتْ، فَقَالُوا، انْطَلِقُوا بِهَذَا الرَّجُلِ وَبِهَذِهِ الْمَرْأَةِ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْأَلُوهُ كَيْفَ الْحُكْمُ فِيهِمَا، وَوَلُّوهُ الْحُكْمَ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ عَمِلَ فِيهِمَا بِعَمَلِكُمْ مِنَ التَّجْبِيهِ وَهُوَ الْجَلْدُ بِحَبْلٍ مِنْ لِيفٍ مَطْلِيٍّ بِقَارٍ، ثُمَّ تُسَوَّدُ وُجُوهُهُمَا، ثُمَّ يُحْمَلَانِ عَلَى حِمَارَيْنِ، وَتُحَوَّلُ وُجُوهُهُمَا مِنْ قِبَلِ دُبُرِ الْحِمَارِ فَاتَّبِعُوهُ، فَإِنَّمَا هُوَ مَلِكٌ. وَإِنْ هُوَ حَكَمَ فِيهِمَا بِالرَّجْمِ، فَاحْذَرُوهُ عَلَى مَا فِي أَيْدِيكُمْ أَنْ يَسْلُبَكُمُوهُ. فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، هَذَا الرَّجُلُ قَدْ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ بِامْرَأَةٍ قَدْ أُحْصِنَتْ، فَاحْكُمْ فِيهِمَا، فَقَدْ وَلَّيْنَاكَ الْحُكْمَ فِيهِمَا. فَمَشَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسُلَّمَ حَتَّى أَتَى أَحْبَارَهُمْ إِلَى بَيْتِ الْمِدْرَاسِ، فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، أَخْرِجُوا إِلَيَّ أَعْلَمَكُمْ!" فَأَخْرَجُوا إِلَيْهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صُورِيَا الْأَعْوَرَ وَقَدْ رَوَى بَعْضُ بَنِي قُرَيْظَةَ، أَنَّهُمْ أَخْرَجُوا إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ مَعَ ابْنِ صُورِيَا، أَبَا يَاسِرِ بْنَ أَخْطَبَ، وَوَهْبَ بْنَ يَهُوذَا، فَقَالُوا: هَؤُلَاءِ عُلَمَاؤُنَا! فَسَأَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى حَصَّلَ أَمْرَهُمْ، إِلَى أَنْ قَالُوا لِابْنِ صُورِيَا: هَذَا أَعْلَمُ مَنْ بَقِيَ بِالتَّوْرَاةِ فَخَلَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ غُلَامًا شَابًّا مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا، فَأَلَظَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْأَلَةَ، يَقُولُ: يَا ابْنَ صُورِيَا، أَنْشُدُكَ اللَّهَ وَأُذَكِّرُكَ أَيَادِيهِ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ حَكَمَ فِيمَنْ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ بِالرَّجْمِ فِي التَّوْرَاةِ؟ فَقَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ! أَمَا وَاللَّهِ يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ أَنَّكَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَلَكِنَّهُمْ يَحْسُدُونَكَ! فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا عِنْدَ بَابِ مَسْجِدِهِ، فِي بَنِي غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ. ثُمَّ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ابْنُ صُورِيَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: " {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} ".» حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، ح، وَحَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ ح، وَحَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبِيْدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: «مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَهُودِيٍّ مُحَمَّمٍ مَجْلُودٍ، فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ عُلَمَائِهِمْ فَقَالَ: أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِيكُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: فَأَنْشُدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزِّنَى فِيكُمْ؟ قَالَ: لَا، وَلَوْلَا أَنَّكَ نَشَدْتَنِي بِهَذَا لَمْ أُحَدِّثْكَ، وَلَكِنِ الرَّجْمُ، وَلَكِنْ كَثُرَ الزِّنَا فِي أَشْرَافِنَا، فَكُنَّا إِذَا أَخَذْنَا الشَّرِيفَ تَرَكْنَاهُ، وَإِذَا أَخَذْنَا الضَّعِيفَ أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَقُلْنَا: "تَعَالَوْا نَجْتَمِعُ فَنَضَعُ شَيْئًا مَكَانَ الرَّجْمِ، فَيَكُونُ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ "، فَوَضَعْنَا التَّحْمِيمَ وَالْجَلْدَ مَكَانَ الرَّجْمِ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ أُحْيِي أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ! فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: " لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ "» الْآيَةَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعِنْدَ سَعِيدٍ رَجُلٌ يُوَقِّرُهُ، فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ مِنْ مُزَيْنَةَ كَانَ أَبُوهُ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ مُزَيْنَةَ مِمَّنْ يَتَّبِعُ الْعِلْمَ وَيَعِيهِ، حَدَّثَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، «أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَكَانُوا قَدْ تَشَاوَرُوا فِي صَاحِبٍ لَهُمْ زَنَى بَعْدَ مَا أُحْصِنَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ هَذَا النَّبِيَّ قَدْ بُعِثَ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنْ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمُ الرَّجْمُ فِي التَّوْرَاةِ فَكَتَمْتُمُوهُ، وَاصْطَلَحْتُمْ بَيْنَكُمْ عَلَى عُقُوبَةٍ دُونَهُ، فَانْطَلِقُوا نَسْأَلُ هَذَا النَّبِيَّ، فَإِنْ أَفْتَانَا بِمَا فُرِضَ عَلَيْنَا فِي التَّوْرَاةِ مِنَ الرَّجْمِ، تَرَكْنَا ذَلِكَ، فَقَدْ تَرَكْنَا ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ، فَهِيَ أَحَقُّ أَنْ تُطَاعَ وَتُصَدَّقَ! فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِنَّهُ زَنَى صَاحِبٌ لَنَا قَدْ أُحْصِنَ، فَمَا تَرَى عَلَيْهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَامَ وَقُمْنَا مَعَهُ، فَانْطَلَقَ يَؤُمُّ مِدْرَاسَ الْيَهُودِ حَتَّى أَتَاهُمْ فَوَجَدَهُمْ يَتَدَارَسُونَ التَّوْرَاةَ فِي بَيْتِ الْمِدْرَاسِ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، مَاذَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ مِنَ الْعُقُوبَةِ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ أُحْصِنَ؟ قَالُوا: إِنَّا نَجِدُهُ يُحَمَّمُ وَيُجْلَدُ! وَسَكَتَ حَبْرُهُمْ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَمْتَهُ، أَلَظَّ يَنْشُدُهُ، فَقَالَ حَبْرُهُمْ: اللَّهُمَّ إِذْ نَشَدْتَنَا فَإِنَّا نَجِدُ عَلَيْهِمُ الرَّجْمَ! فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَاذَا كَانَ أَوَّلُ مَا تَرَخَّصْتُمْ بِهِ أَمْرَ اللَّهِ"؟ قَالَ: زَنَى ابْنُ عَمِّ مَلِكٍ فَلَمْ يَرْجُمْهُ، ثُمَّ زَنَى رَجُلٌ آخَرُ فِي أُسْرَةٍ مِنَ النَّاسِ، فَأَرَادَ ذَلِكَ الْمَلِكُ رَجْمَهُ، فَقَامَ دُونَهُ قَوْمُهُ فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا تَرْجُمُهُ حَتَّى تَرْجُمَ فُلَانًا ابْنَ عَمِّ الْمَلِكِ! فَاصْطَلَحُوا بَيْنَهُمْ عُقُوبَةً دُونَ الرَّجْمِ وَتَرَكُوا الرَّجْمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنِّي أَقْضِي بِمَا فِي التَّوْرَاةِ! فَأْنَزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: " {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} " إِلَى قَوْلِهِ: " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ".» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنِيَ بِذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ فِي قَوْلِهِ: " {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} "، قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ} " قَالَ يَقُولُ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ" {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ} "، قَالَ: هُمْ أَيْضًا سَمَّاعُونَ لِلْيَهُودِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، أَنْ يُقَالَ: عُنِيَ بِقَوْلِهِ: " {لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} "، قَوْمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ مِمَّنْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ابْنُ صُورِيَا، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَبُو لُبَابَةَ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُمَا، غَيْرَ أَنَّ أَثْبَتَ شَيْءٍ رُوِيَ فِي ذَلِكَ، مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الرِّوَايَةِ قَبْلُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَ الصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: عُنِيَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَا. وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ، كَانَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي جُحُودِ نُبُوَّتِكَ، وَالتَّكْذِيبِ بِأَنَّكَ لِي نَبِيٌّ، مِنَ الَّذِينَ قَالُوا: "صَدَّقْنَا بِكَ يَا مُحَمَّدُ أَنَّكَ لِلَّهِ رَسُولٌ مَبْعُوثٌ، وَعَلِمْنَا بِذَلِكَ يَقِينًا، بِوُجُودِنَا صِفَتَكَ فِي كِتَابِنَا". وَذَلِكَ أَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ ابْنَ صُورِيَا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَا وَاللَّهِ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ أَنَّكَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَلَكِنَّهُمْ يَحْسُدُونَكَ". فَذَلِكَ كَانَ عَلَى هَذَا الْخَبَرِ مِنِ ابْنِ صُورِيَا إِيمَانًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ مُصَدِّقًا لِذَلِكَ بِقَلْبِهِ. فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُطْلِعَهُ عَلَى ضَمِيرِ ابْنِ صُورِيَا وَأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِقَلْبِهِ، يَقُولُ: وَلَمْ يُصَدِّقْ قَلْبُهُ بِأَنَّكَ لِلَّهِ رَسُولٌ مُرْسَلٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ تَسَرُّعُ مَنْ تَسَرَّعَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ تَصْدِيقَكَ، وَهُمْ مُعْتَقِدُونَ تَكْذِيبَكَ إِلَى الْكُفْرِ بِكَ، وَلَا تَسَرُّعُ الْيَهُودِ إِلَى جُحُودِ نُبُوَّتِكَ. ثُمَّ وَصَفَ جَلَّ وَعَزَّ صِفَتَهُمْ، وَنَعَتَهُمْ لَهُ بِنُعُوتِهِمُ الذَّمِيمَةِ وَأَفْعَالِهِمُ الرَّدِيئَةِ، وَأَخْبَرَهُ مُعَزِّيًا لَهُ عَلَى مَا يَنَالُهُ مِنَ الْحُزْنِ بِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِصِدْقِهِ، أَنَّهُمْ أَهْلُ اسْتِحْلَالِ الْحَرَامِ وَالْمَآكِلِ الرَّدِيئَةِ وَالْمَطَاعِمِ الدَّنِيئَةِ مِنَ الرُّشَى وَالسُّحْتِ، وَأَنَّهُمْ أَهْلُ إِفْكٍ وَكَذِبٍ عَلَى اللَّهِ، وَتَحْرِيفٍ لِكِتَابِهِ. ثُمَّ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ مُحِلٌّ بِهِمْ خِزْيَهُ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا، وَعِقَابَهُ فِي آجِلِ الْآخِرَةِ. فَقَالَ: هُمْ"سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ"، يَعْنِي هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْيَهُودِ، يَقُولُ: هُمْ يَسْمَعُونَ الْكَذِبَ، و"سَمْعُهُمُ الْكَذِبَ"، سَمْعُهُمْ قَوْلَ أَحْبَارِهِمْ: أَنَّ حُكْمَ الزَّانِي الْمُحْصَنِ فِي التَّوْرَاةِ التَّحْمِيمُ وَالْجَلْدُ"سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ"، يَقُولُ: يَسْمَعُونَ لِأَهْلِ الزَّانِي الَّذِينَ أَرَادُوا الِاحْتِكَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمُ الْقَوْمُ الْآخَرُونَ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا مُصِرِّينَ عَلَى أَنْ يَأْتُوهُ، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ:- حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ: " {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} "، مَعَ مَنْ أَتَوْكَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي "السَّمَّاعِينَ لِلْكَذِبِ السَّمَّاعِينَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ". فَقَالَ بَعْضُهُمْ: "سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ"، يَهُودَ فَدَكٍ. و"الْقَوْمُ الْآخَرُونَ" الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَهُودُ الْمَدِينَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا وَمَجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ فِي قَوْلِهِ: " {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ} "، قَالَ: يَهُودُ الْمَدِينَةِ " {لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} "، قَالَ: يَهُودُ فَدَكٍ، يَقُولُونَ لِيَهُودِ الْمَدِينَةِ: "إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ". وَقَالَ آخَرُونَ: الْمَعْنِيُّ بِذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ، كَانَ أَهْلُ الْمَرْأَةِ الَّتِي بَغَتْ، بَعَثُوا بِهِمْ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحُكْمِ فِيهَا. وَالْبَاعِثُونَ بِهِمْ هُمُ "القَوْمُ الْآخَرُونَ"، وَهُمْ أَهْلُ الْمَرْأَةِ الْفَاجِرَةِ، لَمْ يَكُونُوا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلُهُ: " {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ} "، فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ: "إِذَا زَنَى مِنْكُمْ أَحَدٌ فَارْجُمُوهُ"، فَلَمْ يَزَالُوا بِذَلِكَ حَتَّى زَنَى رَجُلٍ مِنْ خِيَارِهِمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَرْجُمُونَهُ، قَامَ الْخِيَارُ وَالْأَشْرَافُ فَمَنَعُوهُ. ثُمَّ زَنَى رَجُلٌ مِنَ الضُّعَفَاءِ، فَاجْتَمَعُوا لِيَرْجُمُوهُ، فَاجْتَمَعَتِ الضُّعَفَاءُ فَقَالُوا: لَا تَرْجُمُوهُ حَتَّى تَأْتُوا بِصَاحِبِكُمْ فَتَرْجُمُونَهُمَا جَمِيعًا! فَقَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ قَدِ اشْتَدَّ عَلَيْنَا، فَتَعَالَوْا فَلْنُصْلِحْهُ! فَتَرَكُوا الرَّجْمَ، وَجَعَلُوا مَكَانَهُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً بِحَبْلٍ مُقَيَّرٍ، وَيَحْمِلُونَهُ عَلَى حِمَارٍ وَوَجْهُهُ إِلَى ذَنْبِهِ، وَيُسَوِّدُونَ وَجْهَهُ، وَيَطُوفُونَ بِهِ. فَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ حَتَّى بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَزَنَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَشْرَافِ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهَا: "بُسْرَةُ"، فَبَعَثَ أَبُوهَا نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: سَلُوهُ عَنِ الزِّنَا وَمَا نَزَلَ إِلَيْهِ فِيهِ، فَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَفْضَحَنَا وَيُخْبِرَنَا بِمَا صَنَعْنَا، فَإِنْ أَعْطَاكُمُ الْجَلْدَ فَخُذُوهُ، وَإِنْ أَمَرَكُمْ بِالرَّجْمِ فَاحْذَرُوهُ! فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: الرَّجْمُ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " {وَمِنَ الَّذِينَ هَادَوْا سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} "، حِينَ حَرَّفُوا الرَّجْمَ فَجَعَلُوهُ جَلْدًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ "السَّمَّاعِينَ لِلْكَذِبِ"، هُمُ "السَّمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ". وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ كَانُوا مَنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ، وَالْمَسْمُوعُ لَهُمْ مِنْ يَهُودِ فَدَكٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَانُوا مِنْ غَيْرِهِمْ. غَيْرَ أَنَّهُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ، فَهُوَ مِنْ صِفَةِ قَوْمٍ مِنْ يَهُودَ، سَمِعُوا الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ فِي حُكْمِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ بَغَتْ فِيهِمْ وَهِيَ مُحْصَنَةٌ، وَأَنَّ حُكْمَهَا فِي التَّوْرَاةِ التَّحْمِيمُ وَالْجَلْدُ، وَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحُكْمِ اللَّازِمِ لَهَا، وَسَمِعُوا مَا يَقُولُ فِيهَا قَوْمُ الْمَرْأَةِ الْفَاجِرَةِ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَكِمِينَ إِلَيْهِ فِيهَا. وَإِنَّمَا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ لَهُمْ، لِيُعْلِمُوا أَهْلَ الْمَرْأَةِ الْفَاجِرَةِ مَا يَكُونُ مِنْ جَوَابِهِ لَهُمْ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ حُكْمِهِ الرَّجْمُ رَضُوا بِهِ حَكَمًا فِيهِمْ. وَإِنْ كَانَ مِنْ حُكْمِهِ الرَّجْمُ، حَذِرُوهُ وَتَرَكُوا الرِّضَى بِهِ وَبِحُكْمِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا كَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ} "، قَالَ: لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، هَؤُلَاءِ سَمَّاعُونَ لِأُولَئِكَ الْقَوْمِ الْآخَرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوهُ، يَقُولُونَ لَهُمُ الْكَذِبَ: " مُحَمَّدٌ كَاذِبٌ، وَلَيْسَ هَذَا فِي التَّوْرَاةِ، فَلَا تُؤْمِنُوا بِهِ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِيَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يُحَرِّفُ هَؤُلَاءِ السَّمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ، السَّمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمْ يَأْتُوكَ بَعْدُ مِنَ الْيَهُودِ "الكَلِمَ". وَكَانَ تَحْرِيفُهُمْ ذَلِكَ، تَغْيِيرَهُمْ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ فِي التَّوْرَاةِ فِي الْمُحْصَنَاتِ وَالْمُحْصَنِينَ مِنَ الزُّنَاةِ بِالرَّجْمِ إِلَى الْجَلْدِ وَالتَّحْمِيمِ. فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: "يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ"، يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ، وَالْمَعْنِيُّ حُكْمَ الْكَلِمِ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْخَبَرِ مِنْ"تَحْرِيفِ الْكَلِمِ" عَنْ ذِكْرِ "الحُكْمِ"، لِمَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ لِمَعْنَاهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ"، وَالْمَعْنَى: مِنْ بَعْدِ وَضْعِ اللَّهِ ذَلِكَ مَوَاضِعَهُ، فَاكْتَفَى بِالْخَبَرِ مِنْ ذِكْرِ"مَوَاضِعِهِ"، عَنْ ذِكْرِ"وَضْعِ ذَلِكَ"، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 177]، وَالْمَعْنَى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ بِرُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَقَدْ يَحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ فَتَكُونُ"بَعْدُ" وُضِعَتْ مَوْضِعَ"عَنْ"، كَمَا يُقَالُ: "جِئْتُكَ عَنْ فَرَاغِي مِنَ الشُّغْلِ"، يُرِيدُ: بَعْدَ فَرَاغِي مِنَ الشُّغْلِ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: " {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} "، يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْبَاغُونَ السَّمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ: إِنْ أَفْتَاكُمْ مُحَمَّدٌ بِالْجَلْدِ وَالتَّحْمِيمِ فِي صَاحِبِنَا"فَخُذُوهُ"، يَقُولُ: فَاقْبَلُوهُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُفْتِكُمْ بِذَلِكَ وَأَفْتَاكُمْ بِالرَّجْمِ، فَاحْذَرُوا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ يُحَدِّثُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ: أَنْ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُمْ فِي قِصَّةٍ ذَكَرَهَا" {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} "، قَالَ: [أَيِ الَّذِينَ بَعَثُوا مِنْهُمْ مَنْ بَعَثُوا وَتَخَلَّفُوا، وَأَمَرُوهُمْ بِمَا أَمَرُوهُمْ بِهِ مِنْ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، فَقَالَ: " {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} "، لِلتَّجْبِيهِ " {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} "، أَيِ الرَّجْمَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: " {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا} "، إِنْ وَافَقَكُمْ هَذَا فَخُذُوهُ. يَهُودُ تَقُولُهُ لِلْمُنَافِقِينَ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، " {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} "، إِنْ وَافَقَكُمْ هَذَا فَخُذُوهُ، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْكُمْ فَاحْذَرُوهُ. يَهُودُ تَقُولُهُ لِلْمُنَافِقِينَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} "، حِينَ حَرَّفُوا الرَّجْمَ فَجَعَلُوهُ جَلْدًا" {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} ". حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا وَمَجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ: " {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} "، يَهُودُ فَدَكٍ، يَقُولُونَ لِيَهُودِ الْمَدِينَةِ: إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا الْجَلْدَ فَخُذُوهُ، وَإِنْ لَمْ تُؤْتُوهُ فَاحْذَرُوا الرَّجْمَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} "، هُمُ الْيَهُودُ، زَنَتْ مِنْهُمُ امْرَأَةٌ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ حَكَمَ فِي التَّوْرَاةِ فِي الزِّنَا بِالرَّجْمِ، فنَفِسُوا أَنْ يَرْجُمُوهَا، وَقَالُوا: انْطَلِقُوا إِلَى مُحَمَّدٍ، فَعَسَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ رُخْصَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ عِنْدَهُ رُخْصَةٌ فَاقْبَلُوهَا! فَأَتَوْهُ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، إِنَّ امْرَأَةً مِنَّا زَنَتْ، فَمَا تَقُولُ فِيهَا؟ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ حُكْمُ اللَّهِ فِي التَّوْرَاةِ فِي الزَّانِي؟ فَقَالُوا: دَعْنَا مِنَ التَّوْرَاةِ، وَلَكِنْ مَا عِنْدَكَ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: ائْتُونِي بِأَعْلَمِكُمْ بِالتَّوْرَاةِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى ! فَقَالَ لَهُمْ: بِالَّذِي نَجَّاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَبِالَّذِي فَلَقَ لَكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَاكُمْ وَأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ، إِلَّا أَخْبَرْتُمُونِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِي التَّوْرَاةِ فِي الزَّانِي؟ ! قَالُوا: حُكْمُهُ الرَّجْمُ! فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَتْ.» حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} "، ذَكَرَ لَنَا أَنَّ هَذَا كَانَ فِي قَتِيلٍ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، قَتَلَتْهُ النَّضِيرُ. فَكَانَتِ النَّضِيرُ إِذَا قَتَلَتْ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمْ يُقِيدُوهُمْ، إِنَّمَا يُعْطُونَهُمُ الدِّيَةَ لِفَضْلِهِمْ عَلَيْهِمْ. وَكَانَتْ قُرَيْظَةُ إِذَا قَتَلَتْ مِنَ النَّضِيرِ قَتِيلًا لَمْ يَرْضَوْا إِلَّا بِالْقَوَدِ لِفَضْلِهِمْ عَلَيْهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ تَعَزُّزًا. فَقَدِمَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ عَلَى تَفِئَةِ قَتِيلِهِمْ هَذَا، فَأَرَادُوا أَنْ يَرْفَعُوا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ لَهُمْ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: إِنَّ قَتِيلَكُمْ هَذَا قَتِيلُ عَمْدٍ، مَتَى مَا تَرْفَعُونَهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْشَى عَلَيْكُمُ الْقَوَدَ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْكُمُ الدِّيَةَ فَخُذُوهُ، وَإِلَّا فَكُونُوا مِنْهُ عَلَى حَذَرٍ! حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} "، يَقُولُ: يُحَرِّفُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوكَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، لَا يَضَعُونَهُ عَلَى مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ. قَالَ: وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يَهُودُ، بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَعَبِيدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: " {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} "، يَقُولُونَ: ائْتُوا مُحَمَّدًا، فَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالتَّحْمِيمِ وَالْجَلْدِ فَخُذُوهُ، وَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالرَّجْمِ فَاحْذَرُوا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا تَسْلِيَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حُزْنِهِ عَلَى مُسَارَعَةِ الَّذِينَ قَصَّ قِصَّتَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. يَقُولُ لَهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَا يَحْزُنْكَ تَسَرُّعُهُمْ إِلَى جُحُودِ نُبُوَّتِكَ، فَإِنِّي قَدْ حَتَمْتُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَتُوبُونَ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ، وَلَا يَرْجِعُونَ عَنْ كُفْرِهِمْ، لِلسَّابِقِ مِنْ غَضَبِي عَلَيْهِمْ. وَغَيْرُ نَافِعِهِمْ حُزْنُكَ عَلَى مَا تَرَى مِنْ تَسَرُّعِهِمْ إِلَى مَا جَعَلْتُهُ سَبَبًا لِهَلَاكِهِمْ وَاسْتِحْقَاقِهِمْ وَعِيدِي. وَمَعْنَى "الفِتْنَةِ" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الضَّلَالَةُ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ، يَا مُحَمَّدُ، مَرْجِعَهُ بِضَلَالَتِهِ عَنْ سَبِيلِ الْهُدَى، فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ اسْتِنْقَاذًا مِمَّا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْحَيْرَةِ وَالضَّلَالَةِ. فَلَا تَشْعُرُ نَفْسُكَ الْحُزْنَ عَلَى مَا فَاتَكَ مِنَ اهْتِدَائِهِ لِلْحَقِّ، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ وَصَفْتُ لَكَ صِفَتَهُمْ. وَإِنَّ مُسَارَعَتَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَرَادَ فِتْنَتَهُمْ، وَطَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَلَا يَهْتَدُونَ أَبَدًا" {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} "، يَقُولُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ مِنْ دَنَسِ الْكُفْرِ وَوَسَخِ الشِّرْكِ قُلُوبَهُمْ، بِطَهَارَةِ الْإِسْلَامِ وَنَظَافَةِ الْإِيمَانِ فَيَتُوبُوا، بَلْ أَرَادَ بِهِمُ الْخِزْيَ فِي الدُّنْيَا وَذَلِكَ الذُّلَّ وَالْهَوَانَ، وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابُ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى "الخِزْيِ"، رُوِيَ الْقَوْلُ عَنْ عِكْرِمَةَ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ وَغَيْرِهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ"، قَالَ: مَدِينَةٌ فِي الرُّومِ تُفْتَحُ فَيُسْبَوْن.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ الَّذِينَ وَصَفْتُ لَكَ، يَا مُحَمَّدُ، صِفَتَهُمْ، سَمَّاعُونَ لَقِيلِ الْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ، وَمِنْ قِيلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: " مُحَمَّدٌ كَاذِبٌ، لَيْسَ بِنَبِيٍّ"، وَقِيلِ بَعْضِهِمْ: "إِنَّ حُكْمَ الزَّانِي الْمُحْصَنِ فِي التَّوْرَاةِ الْجَلْدُ وَالتَّحْمِيمُ"، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَبَاطِيلِ وَالْإِفْكِ وَيَقْبَلُونَ الرُّشَى فَيَأْكُلُونَهَا عَلَى كَذِبِهِمْ عَلَى اللَّهِ وَفِرْيَتِهِمْ عَلَيْهِ، كَمَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَقِيلٍ قَالَ، سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} "، قَالَ: تِلْكَ الْحُكَّامُ، سَمِعُوا كِذْبَةً وَأَكَلُوا رِشْوَةً. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} "، قَالَ: كَانَ هَذَا فِي حُكَّامِ الْيَهُودِ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ، كَانُوا يَسْمَعُونَ الْكَذِبَ وَيَقْبَلُونَ الرُّشَى. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: " {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} "، قَالَ: الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ، وَهُمْ يَهُودُ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي وَإِسْحَاقُ الْأَزْرَقُ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: " {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} "، قَالَ: "السُّحْتُ"، الرِّشْوَةُ. حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ وَوَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَا حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ: مَا السُّحْتُ؟ قَالَ: الرِّشْوَةُ. قَالُوا: فِي الْحُكْمِ؟ قَالَ: ذَاكَ الْكُفْرُ. حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "السُّحْتُ"، الرِّشْوَةُ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ حُرَيْثٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قُلْنَا لِعَبْدِ اللَّهِ: مَا كُنَّا نَرَى "السُّحْتَ" إِلَّا الرِّشْوَةَ فِي الْحُكْمِ! قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ذَاكَ الْكُفْرُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "السُّحْتُ"، الرُّشَى؟ قَالَ: نَعَمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ عَنِ "السُّحْتِ"، فَقَالَ: الرَّجُلُ يَطْلُبُ الْحَاجَةَ لِلرَّجُلِ فَيَقْضِيهَا، فَيُهْدِي إِلَيْهِ فَيَقْبَلُهَا. حَدَّثَنَا سَوَّارٌ قَالَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ وَسُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: "السُّحْتُ"، الرُّشَى. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: "السُّحْتُ"، قَالَ: الرِّشْوَةُ فِي الدِّينِ. حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ، قَالَ عُمْرُ: [مَا كَانَ] مِنَ "السُّحْتِ"، الرُّشَى وَمَهْرُ الزَّانِيَةِ. حَدَّثَنِي سُفْيَانُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: "السُّحْتُ"، الرِّشْوَةُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: "أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ"، قَالَ: الرُّشَى. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَهْرُ الْبَغِيِّ سُحْتٌ، وَعَسْبُ الْفَحْلِ سُحْتٌ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ سُحْتٌ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ سُحْتٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: "السُّحْتُ"، الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ عَنِ "السُّحْتِ"، قَالَ: الرُّشَى. فَقُلْتُ: فِي الْحُكْمِ؟ قَالَ: ذَاكَ الْكُفْرُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: "أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ"، يَقُولُ: لِلرُّشَى. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، وَعَلْقَمَةَ: أَنَّهُمَ سَأَلَا ابْنَ مَسْعُودٍ عَنِ الرِّشْوَةِ، فَقَالَ: هِيَ السُّحْتُ. قَالَا فِي الْحُكْمِ؟ قَالَ: ذَاكَ الْكُفْرُ! تَمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 44]. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ أَبِي بُكَيْرٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ قَالَ: شَفَعَ مَسْرُوقٌ لِرَجُلٍ فِي حَاجَةٍ، فَأَهْدَى لَهُ جَارِيَةً، فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا وَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَفْعَلُ هَذَا مَا كَلَّمْتُ فِي حَاجَتِكَ، وَلَا أُكَلِّمُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ حَاجَتِكَ، سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: "مَنْ شَفَعَ شَفَاعَةً لِيَرُدَّ بِهَا حَقًّا، أَوْ يَرْفَعَ بِهَا ظُلْمًا، فَأُهْدِيَ لَهُ فَقَبِلَ، فَهُوَ سُحْتٌ"، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا كُنَّا نَرَى ذَلِكَ إِلَّا الْأَخْذَ عَلَى الْحُكْمِ! قَالَ: الْأَخْذُ عَلَى الْحُكْمِ كُفْرٌ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} "، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَخَذُوا الرِّشْوَةَ فِي الْحُكْمِ، وَقَضَوْا بِالْكَذِبِ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبِيدَةُ، عَنْ عَمَّارٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ عَنِ "السُّحْتِ"، أَهْوَ الرُّشَى فِي الْحُكْمِ؟ فَقَالَ: لَا، مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَهُوَ فَاسِقٌ. وَلَكِنَّ "السُّحْتَ"، يَسْتَعِينُكَ الرَّجُلُ عَلَى الْمَظْلِمَةِ فَتُعِينُهُ عَلَيْهَا، فَيُهْدِي لَكَ الْهَدِيَّةَ فَتَقْبَلُهَا. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُبَيْرَةَ السَّبَّائِيِّ قَالَ: مِنَ السُّحْتِ ثَلَاثَةٌ: مَهْرُ الْبَغِيِّ، وَالرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ، وَمَا كَانَ يُعْطَى الْكُهَّانُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ مُطِيعٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنَّهُ قَالَ فِي كَسْبِ الْحِجَامِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَثَمَنِ الْكَلْبِ، والِاسْتِجْعَالِ فِي الْقَضِيَّةِ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ، وَعَسْبِ الْفَحْلِ، وَالرِّشْوَةِ فِي الْحُكْمِ، وَثَمَنِ الْخَمْرِ، وَثَمَنِ الْمَيْتَةِ: مِنَ السُّحْتِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} "، قَالَ: الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْمَوَالِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ لَحْمٍ أَنْبَتَهُ السُّحْتُ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا السُّحْتُ؟ قَالَ: الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْم». حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عُمَرَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ لِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: إِذَا انْقَلَبْتَ إِلَى أَبِيكَ فَقُلْ لَهُ: إِيَّاكَ وَالرِّشْوَةَ، فَإِنَّهَا سُحْتٌ، وَكَانَ أَبُوهُ عَلَى شُرَطِ الْمَدِينَةِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: الرِّشْوَةُ سُحْتٌ. قَالَ مَسْرُوقٌ: فَقُلْنَا لِعَبْدِ اللَّهِ: أَفِي الْحُكْمِ؟ قَالَ: لَا ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 47]. وَأَصْلُ "السُّحْتِ": كَلَبُ الْجُوعِ، يُقَالُ مِنْهُ: "فُلَانٌ مَسْحُوتُ الْمَعِدَةِ"، إِذَا كَانَ أَكُولًا لَا يُلْفَى أَبَدًا إِلَّا جَائِعًا، وَإِنَّمَا قِيلَ لِلرِّشْوَةِ: "السُّحْتُ"، تَشْبِيهًا بِذَلِكَ، كَأَنَّ بِالْمُسْتَرْشِي مِنَ الشَّرَهِ إِلَى أَخْذِ مَا يُعْطَاهُ مِنْ ذَلِكَ، مِثْلَ الَّذِي بِالْمَسْحُوتِ الْمَعِدَةِ مِنَ الشَّرَهِ إِلَى الطَّعَامِ. يُقَالُ مِنْهُ: "سَحِتَهُ وَأُسْحِتَهُ"، لُغَتَانِ مَحْكِيَّتَانِ عَنِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ بْنِ غَالِبٍ: وَعَـضُّ زَمَـانٍ يَا ابْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ *** مِـنَ الْمَـالِ إِلَّا مُسْـحَتًا أَوْ مُجَـلَّفُ يَعْنِي بِ "المُسْحَتِ"، الَّذِي قَدِ اسْتَأْصَلَهُ هَلَاكًا بِأَكْلِهِ إِيَّاهُ وَإِفْسَادِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} [سُورَةُ طه: 61]. وَتَقُولُ الْعَرَبُ لِلْحَالِقِ: "اسْحَتِ الشَّعَرَ"، أَيِ: اسْتَأْصِلْهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْوَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: " {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} "، إِنْ جَاءَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الْآخَرُونَ الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوكَ بَعْدُ وَهُمْ قَوْمُ الْمَرْأَةِ الْبَغِيَّةِ مُحْتَكِمِينَ إِلَيْكَ، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ إِنْ شِئْتَ بِالْحَقِّ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ حُكْمًا لَهُ فِيمَنْ فَعَلَ فِعْلَ الْمَرْأَةِ الْبَغِيَّةِ مِنْهُمْ، أَوْ أَعْرَضَ عَنْهُمْ فَدَعِ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ إِنْ شِئْتَ، وَالْخِيَارُ إِلَيْكَ فِي ذَلِكَ. وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: "أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ"، يَهُودُ، زَنَى رَجُلٌ مِنْهُمْ لَهُ نَسَبٌ حَقِيرٌ فَرَجَمُوهُ، ثُمَّ زَنَى مِنْهُمْ شَرِيفٌ فَحَمَّمُوهُ، ثُمَّ طَافُوا بِهِ، ثُمَّ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُوَافِقَهُمْ. قَالَ: فَأَفْتَاهُمْ فِيهِ بِالرَّجْمِ، فَأَنْكَرُوهُ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَدْعُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ، فَنَاشَدَهُمْ بِاللَّهِ: أَتَجِدُونَهُ فِي التَّوْرَاةِ؟ فَكَتَمُوهُ، إِلَّا رَجُلًا مِنْ أَصْغَرِهِمْ أَعْوَرَ، فَقَالَ: كَذَبُوكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ لَفِي التَّوْرَاةِ! حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِي"سُورَةِ الْمَائِدَةِ"، " {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} "، كَانَتْ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّهُمْ أَتَوْهُ يَعْنِي الْيَهُودَ فِي امْرَأَةٍ مِنْهُمْ زَنَتْ، يَسْأَلُونَهُ عَنْ عُقُوبَتِهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ؟ فَقَالُوا: نُؤْمَرُ بِرَجْمِ الزَّانِيَةِ! فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَتْ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: " {وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} ". حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ قَوْلُهُ: " {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} "، قَالَ: كَانُوا يَحُدُّونَ فِي الزِّنَا، إِلَى أَنْ زَنَى شَابٌّ مِنْهُمْ ذُو شَرَفٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا يَدَعُكُمْ قَوْمُهُ تَرْجُمُونَهُ، وَلَكِنِ اجْلِدُوهُ وَمَثِّلُوا بِهِ! فَجَلَدُوهُ وَحَمَلُوهُ عَلَى حِمَارِ إِكَافٍ، وَجَعَلُوا وَجْهَهُ مُسْتَقْبِلَ ذَنَبِ الْحِمَارِ إِلَى أَنْ زَنَى آخَرُ وَضِيعٌ لَيْسَ لَهُ شَرَفٌ، فَقَالُوا: ارْجُمُوهُ! ثُمَّ قَالُوا: فَكَيْفَ لَمْ تَرْجُمُوا الَّذِي قَبْلَهُ؟ وَلَكِنْ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ بِهِ فَاصْنَعُوا بِهَذَا! فَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: سَلُوهُ، لَعَلَّكُمْ تَجِدُونَ عِنْدَهُ رُخْصَةً! فَنَزَلَتْ: " {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} " إِلَى قَوْلِهِ: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ". وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَتِيلٍ قُتِلَ فِي يَهُودَ مِنْهُمْ، قَتْلَهُ بَعْضُهُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالَا: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ الْحَصِينِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَاتِ فِي "المَائِدَةِ"، قَوْلُهُ: " {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} "، إِلَى قَوْلِهِ: "المُقْسِطِينَ"، إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الدِّيَةِ فِي بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ قَتْلَى بَنِي النَّضِيرِ، وَكَانَ لَهُمْ شَرَفٌ، تُؤَدِّي الدِّيَةَ كَامِلَةً، وَإِنَّ قُرَيْظَةَ كَانُوا يُؤَدُّونَ نِصْفَ الدِّيَةِ، فَتَحَاكَمُوا فِي ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِيهِمْ، فَحَمَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَقِّ فِي ذَلِكَ، فَجَعَلَ الدِّيَةَ فِي ذَاكَ سَوَاءً وَاللَّهَ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبِيدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ، وَكَانَ النَّضِيرُ أَشْرَفَ مِنْ قُرَيْظَةَ، فَكَانَ إِذَا قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْظَةَ رَجُلًا مِنَ النَّضِيرِ، قُتِلَ بِهِ. وَإِذَا قَتَلَ رَجُلٌ مِنَ النَّضِيرِ رَجُلًا مِنْ قُرَيْظَةَ، أَدَّى مِئَةَ وَسْقِ تَمْرٍ. فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَتَلَ رَجُلٌ مِنَ النَّضِيرِ رَجُلًا مِنْ قُرَيْظَةَ فَقَالُوا: ادْفَعُوهُ إِلَيْنَا! فَقَالُوا: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فَنَزَلَتْ" {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} ". حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، «قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ فِي حُكْمِ حُيَّيِّ بْنِ أَخْطَبَ: للنَّضِيريِّ دِيَتَانِ، وَالْقُرَظِيِّ دِيَةٌ لِأَنَّهُ كَانَ مَنَ النَّضِيرِ. قَالَ: وَأَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ، قَالَ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 45]، إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالَ: فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ قُرَيْظَةُ، لَمْ يَرْضَوْا بِحُكْمِ ابْنِ أَخْطَبَ، فَقَالُوا: نَتَحَاكَمُ إِلَى مُحَمَّدٍ ! فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: " {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} "، فَخَيَّرَهُ" {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} "، الْآيَةَ كُلَّهَا. وَكَانَ الشَّرِيفُ إِذَا زَنَى بِالدَّنِيئَةِ رَجَمُوهَا هِيَ، وَحَمَّمُوا وَجْهَ الشَّرِيفِ، وَحَمَلُوهُ عَلَى الْبَعِيرِ، وَجَعَلُوا وَجْهَهُ مِنْ قِبَلِ ذَنَبِ الْبَعِيرِ. وَإِذَا زَنَى الدَّنِيءُ بِالشَّرِيفَةِ رَجَمُوهُ، وَفَعَلُوا بِهَا هِيَ ذَلِكَ. فَتَحَاكَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَجَمَهَا. قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ: مَنْ أَعْلَمُكُمْ بِالتَّوْرَاةِ؟ قَالُوا: فُلَانٌ الْأَعْوَرُ! فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَأَتَاهُ، فَقَالَ: أَنْتَ أَعْلَمُهُمْ بِالتَّوْرَاةِ؟ قَالَ: كَذَاكَ تَزْعُمُ يَهُودُ! فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ وَبِالتَّوْرَاةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى مُوسَى يَوْمَ طُورِ سَيْنَاءَ، مَا تَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ فِي الزَّانِيَيْنِ؟ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، يَرْجُمُونَ الدَّنِيئَةَ، وَيَحْمِلُونَ الشَّرِيفَ عَلَى بَعِيرٍ، وَيُحَمِّمُونَ وَجْهَهُ، وَيَجْعَلُونَ وَجْهَهُ مِنْ قِبَلِ ذَنَبِ الْبَعِيرِ، وَيَرْجُمُونَ الدَّنِيءَ إِذَا زَنَى بِالشَّرِيفَةِ، وَيَفْعَلُونَ بِهَا هِيَ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ وَبِالتَّوْرَاةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى مُوسَى يَوْمَ طُورِ سَيْنَاءَ، مَا تَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ؟ فَجَعَلَ يَرُوغُ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْشُدُهُ بِاللَّهِ وَبِالتَّوْرَاةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى مُوسَى يَوْمَ طُورِ سَيْنَاءَ، حَتَّى قَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، "الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ". فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَهُوَ ذَاكَ، اذْهَبُوا بِهِمَا فَارْجُمُوهُمَا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَكُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُمَا فَمَا زَالَ يُجْنِئُ عَلَيْهَا، وَيَقِيهَا الْحِجَارَةَ بِنَفْسِهِ حَتَّى مَات». ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، هَلْ هُوَ ثَابِتٌ الْيَوْمَ؟ وَهَلْ لِلْحُكَّامِ مِنَ الْخِيَارِ فِي الْحُكْمِ وَالنَّظَرِ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْعَهْدِ إِذَا احْتَكَمُوا إِلَيْهِمْ، مِثْلُ الَّذِي جَعَلَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَمْ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ ثَابِتٌ الْيَوْمَ، لَمْ يَنْسَخْهُ شَيْءٌ، وَلِلْحُكَّامِ مِنَ الْخِيَارِ فِي كُلِّ دَهْرٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ، مِثْلُ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ: إِنْ رُفِعَ إِلَيْكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي قَضَاءٍ، فَإِنْ شِئْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَإِنْ شِئْتَ أَعْرَضْتَ عَنْهُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ قَالَا: إِذَا أَتَاكَ الْمُشْرِكُونَ فَحَكَّمُوكَ، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ. وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بِحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَعْدُهُ إِلَى غَيْرِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، وَحَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ: " {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} "، قَالَ: إِنْ شَاءَ حَكَمَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَحْكُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: إِنْ شَاءَ حَكَمَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَحْكُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: إِذَا أَتَاكَ أَهْلُ الْكِتَابِ بَيْنَهُمْ أَمْرٌ، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ خَلِّ عَنْهُمْ وَأَهْلَ دِينِهِمْ يَحْكُمُونَ فِيهِمْ، إِلَّا فِي سَرِقَةٍ أَوْ قَتْلٍ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ لِي عَطَاءٌ، نَحْنُ مُخَيَّرُونَ، إِنْ شِئْنَا حَكَمْنَا بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ شِئْنَا أَعْرَضْنَا فَلَمْ نَحْكُمْ بَيْنَهُمْ. وَإِنْ حَكَمْنَا بَيْنَهُمْ حَكَمْنَا بِحُكْمِنَا بَيْنَنَا، أَوْ نَتْرُكُهُمْ وَحُكْمَهُمْ بَيْنَهُمْ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ: " {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} ". حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ قَالَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ، أَخْبَرَنَا مُغِيرَةُ وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ مُغِيرَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: " {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} "، قَالَا إِذَا جَاءُوا إِلَى حَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ شَاءَ حَكَمَ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ أَعْرَضَ عَنْهُمْ. وَإِنْ حَكَمَ بَيْنَهُمْ حَكَمَ بَيْنَهُمْ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} "، يَقُولُ: إِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ. فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ فِي ذَلِكَ رُخْصَةً، إِنْ شَاءَ حَكَمَ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ أَعْرَضَ عَنْهُمْ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ قَالَا: إِذَا أَتَاكَ الْمُشْرِكُونَ فَحَكَّمُوكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَعْدُهُ إِلَى غَيْرِهِ، أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَخَلِّهِمْ وَأَهْلَ دِينِهِمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ التَّخْيِيرُ مَنْسُوخٌ، وَعَلَى الْحَاكِمِ إِذَا احْتَكَمَ إِلَيْهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، وَلَيْسَ لَهُ تَرْكُ النَّظَرِ بَيْنَهُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ " {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} "، نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}. [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 49]. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ: نَسَخَتْهَا {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ: نَسَخَتْهَا: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ: لَمْ يُنْسَخْ مِنَ "الْمَائِدَة" إِلَّا هَاتَانِ الْآيَتَانِ: " {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} "، نَسَخَتْهَا: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 49]، وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 2]، نَسَخَتْهَا: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 5]. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: نَسَخَتْهَا: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ). حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ قَالَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} "، يَعْنِي الْيَهُودَ، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، وَرَخَّصَ لَهُ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ إِنْ شَاءَ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَهَا: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 48]. فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ مَا رَخَّصَ لَهُ، إِنْ شَاءَ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى عُدَيِّ بْنِ عُدَيٍّ: "إِذَا جَاءَكَ أَهْلُ الْكِتَابِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ". حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 48]. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَوْلُهُ: " {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} "، قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنْ يُرَدُّوا فِي حُقُوقِهِمْ وَمَوَارِيثِهِمْ إِلَى أَهْلِ دِينِهِمْ، إِلَّا أَنْ يَأْتُوا رَاغِبِينَ فِي حَدٍّ، يُحْكَمُ بَيْنَهُمْ فِيهِ بِكِتَابِ اللَّهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: " {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} "، كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ شَاءَ حَكَمَ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ أَعْرَضَ عَنْهُمْ، ثُمَّ نَسَخَهَا فَقَالَ: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}، وَكَانَ مَجْبُورًا عَلَى أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، حَدَّثَنَا عِبَادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: آيَتَانِ نُسِخَتَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، يَعْنِي "المَائِدَةَ"، آيَةُ الْقَلَائِدِ، وَقَوْلُهُ: " {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} "، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَيَّرًا، إِنْ شَاءَ حَكَمَ، وَإِنْ شَاءَ أَعْرَضَ عَنْهُمْ، فَرَدَّهُمْ إِلَى احْتِكَامِهِمْ، أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِمَا فِي كِتَابِنَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ ثَابِتٌ لَمْ يُنْسَخْ، وَأَنَّلِلْحُكَّامِ مِنَ الْخِيَارِ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ أَهْلِ الْعَهْدِ إِذَا ارْتَفَعُوا إِلَيْهِمْ فَاحْتَكَمُوا، وَتَرْكِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ وَالنَّظَرِ، مِثْلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَاهُمَا بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ الْقَائِلِينَ إِنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْسُوخٌ، زَعَمُوا أَنَّهُ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 49] وَقَدْ دَلَّلْنَا فِي كِتَابِنَا: "كِتَابِ الْبَيَانِ عَنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ": أَنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ نَسْخًا، إِلَّا مَا كَانَ نَفْيًا لِحُكْمِ غَيْرِهِ بِكُلِّ مَعَانِيهِ، حَتَّى لَا يَجُوزُ اجْتِمَاعُ الْحُكْمِ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا عَلَى صِحَّتِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَ غَيْرَ مُسْتَحِيلٍ فِي الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: " {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} "، وَمَعْنَاهُ: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِذَا حَكَمْتَ بَيْنَهُمْ، بِاخْتِيَارِكَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ، إِذَا اخْتَرْتَ ذَلِكَ، وَلَمْ تَخْتَرِ الْإِعْرَاضَ عَنْهُمْ، إِذْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ إِعْلَامُ الْمَقُولِ لَهُ ذَلِكَ مِنْ قَائِلِهِ: إِنَّ لَهُ الْخِيَارَ فِي الْحُكْمِ وَتَرْكِ الْحُكْمِ كَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنْ لَا دَلَالَةَ فِي قَوْلِهِ: " {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} "، أَنَّهُ نَاسِخٌ قَوْلَهُ: " {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} "، لِمَا وَصَفْنَا مِنَ احْتِمَالِ ذَلِكَ مَا بَيَّنَّا، بَلْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى مِثْلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: " {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} ". وَإِذْ لَمْ يَكُنْ فِي ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِ إِحْدَى الْآيَتَيْنِ الْأُخْرَى، وَلَا نَفْيِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ حُكْمَ الْآخَرِ وَلَمْ يَكُنْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرٌ يَصِحُّ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا نَاسِخٌ صَاحِبَهُ وَلَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعٌ صَحَّ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ يُؤَيِّدُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، وَيُوَافِقُ حُكْمُهُ حُكْمَهُ، وَلَا نَسْخَ فِي أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} "، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَإِنْ تَعْرِضْ يَا مُحَمَّدُ، عَنِ الْمُحْتَكِمِينَ إِلَيْكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَتَدَعُ النَّظَرَ بَيْنَهُمْ فِيمَا احْتَكَمُوا فِيهِ إِلَيْكَ، فَلَا تَحْكُمُ فِيهِ بَيْنَهُمْ "فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا"، يَقُولُ: فَلَنْ يَقْدِرُوا لَكَ عَلَى ضُرٍّ فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا، فَدَعِ النَّظَرَ بَيْنَهُمْ إِذَا اخْتَرْتَ تَرْكَ النَّظَرِ بَيْنَهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} "، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَإِنِ اخْتَرْتَ الْحُكْمَ والنَظَرَ، يَا مُحَمَّدُ، بَيْنَ أَهْلِ الْعَهْدِ إِذَا أَتَوْكَ" {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} "، وَهُوَ الْعَدْلُ، وَذَلِكَ هُوَ الْحُكْمُ بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ حُكْمًا فِي مِثْلِهِ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ مِنْ أُمَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ، أَخْبَرَنَا مُغِيرَةُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ: " {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} "، قَالَا: إِنْ حَكَمَ بَيْنَهُمْ، حَكَمَ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ. حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: " {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} "، قَالَ: أُمِرَ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ بِالرَّجْمِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنِ الْعَوَّامِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ فِي قَوْلِهِ: " {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} "، قَالَ: بِالرَّجْمِ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: "بِالْقِسْطِ" بِالْعَدْلِ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ فِي قَوْلِهِ: " {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} "، قَالَ: أُمِرَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِالرَّجْمِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} "، فَمَعْنَاهُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَادِلِينَ فِي حُكْمِهِمْ بَيْنَ النَّاسِ، الْقَاضِينَ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ وَأَمَرَهُ أَنْبِيَاءَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. يُقَالُ مِنْهُ: "أَقْسَطَ الْحَاكِمُ فِي حُكْمِهِ"، إِذَا عَدَلَ وَقَضَى بِالْحَقِّ، "يُقْسِطُ إِقْسَاطًا" وَأَمَّا"قَسَطَ"، فَمَعْنَاهُ: الْجَوْرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [سُورَةُ الْجِنِّ: 15]، يَعْنِي بِذَلِكَ: الْجَائِرِينَ عَنِ الْحَقِّ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكَيْفَ يُحَكِّمُكَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ، يَا مُحَمَّدُ، بَيْنَهُمْ، فَيَرْضَوْنَ بِكَ حَكَمًا بَيْنَهُمْ"وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ" الَّتِي أَنْزَلْتُهَا عَلَى مُوسَى، الَّتِي يُقِرُّونَ بِهَا أَنَّهَا حَقٌّ، وَأَنَّهَا كِتَابِي الَّذِي أَنْزَلْتُهُ إِلَى نَبِيِّي، وَأَنَّ مَا فِيهِ مِنْ حُكْمٍ فَمِنْ حُكْمِي، يَعْلَمُونَ ذَلِكَ لَا يَتَنَاكَرُونَهُ، وَلَا يَتَدَافَعُونَهُ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ حُكْمِي فِيهَا عَلَى الزَّانِي الْمُحْصَنِ الرَّجْمُ، وَهُمْ مَعَ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ"يَتَوَلَّوْنَ"، يَقُولُ: يَتْرُكُونَ الْحُكْمَ بِهِ، بَعْدَ الْعِلْمِ بِحُكْمِي فِيهِ، جَرَاءَةً عَلَيَّ وَعِصْيَانًا لِي. وَهَذَا، وَإِنْ كَانَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ خِطَابًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ تَقْرِيعٌ مِنْهُ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ. يَقُولُ لَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كَيْفَ تُقِرُّونَ، أَيُّهَا الْيَهُودُ، بِحُكْمِ نَبِيِّي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ جُحُودِكُمْ نُبُوَّتَهُ وَتَكْذِيبِكُمْ إِيَّاهُ، وَأَنْتُمْ تَتْرُكُونَ حُكْمِي الَّذِي تُقِرُّونَ بِهِ أَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْكُمْ وَاجِبٌ، جَاءَكُمْ بِهِ مُوسَى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ يَقُولُ: فَإِذْ كُنْتُمْ تَتْرُكُونَ حُكْمِي الَّذِي جَاءَكُمْ بِهِ مُوسَى الَّذِي تُقِرُّونَ بِنُبُوَّتِهِ فِي كِتَابِي، فَأَنْتُمْ بِتَرْكِ حُكْمِي الَّذِي يُخْبِرُكُمْ بِهِ نَبِيِّي مُحَمَّدٌ أَنَّهُ حُكْمِي- أَحْرَى، مَعَ جُحُودِكُمْ نُبُوَّتَهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبَرًا عَنْ حَالِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَهُ، وَحَالِ نُظَرَائِهِمْ مِنَ الْجَائِرِينَ عَنْ حُكْمِهِ، الزَّائِلِينَ عَنْ مَحَجَّةِ الْحَقِّ"وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ"، يَقُولُ: لَيْسَ مَنْ فَعَلَ هَذَا الْفِعْلَ- أَيْ: مَنْ تَوَلَّى عَنْ حُكْمِ اللَّهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ فِي خَلْقِهِ بِالَّذِي صَدَّقَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَقَرَّ بِتَوْحِيدِهِ وَنُبُوَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَأَصْلُ " التَّوَلِّي عَنِ الشَّيْءِ "، الِانْصِرَافُ عَنْهُ، كَمَا:- حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ: " {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} "، قَالَ: "تَوَلِّيهمْ"، مَا تَرَكُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} "، يَعْنِي: حُدُودُ اللَّهِ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ بِحُكْمِهِ فِي التَّوْرَاةِ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} "، أَيْ: بَيَانُ اللَّهِ مَا تَشَاجَرُوا فِيهِ مِنْ شَأْنِ قَتِيلِهِمْ "ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِك"، الْآيَةَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ، قَالَ يَعْنِي الرَّبُّ تَعَالَى ذِكْرُهُ يُعَيِّرُهُمْ ـ: " {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} "، يَقُولُ: الرَّجْمُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا بَيَانُ مَا سَأَلَكَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ عَنْهُ مِنْ حُكْمِ الزَّانِيَيْنِ الْمُحْصَنَيْنِ "وَنُورٌ"، يَقُولُ: فِيهَا جَلَاءُ مَا أُظْلِمَ عَلَيْهِمْ، وَضِيَاءُ مَا الْتَبَسَ مِنَ الْحُكْمِ "يَحْكُمُ" بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا"، يَقُولُ: يَحْكُمُ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ فِي ذَلِكَ، أَيْ: فِيمَا احْتَكَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الزَّانِيَيْنِ "النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا"، وَهُمُ الَّذِينَ أَذْعَنُوا لِحُكْمِ اللَّهِ وَأَقَرُّوا بِهِ. وَإِنَّمَا عَنَى اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي حُكْمِهِ عَلَى الزَّانِيَيْنِ الْمُحْصَنَيْنِ مِنَ الْيَهُودِ بِالرَّجْمِ، وَفِي تَسْوِيَتِهِ بَيْنَ دَمِ قَتْلَى النَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ، وَمَنْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَحْكُمُ بِمَا فِيهَا مِنْ حُكْمِ اللَّهِ، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} "، يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: «نَحْنُ نَحْكُمُ عَلَى الْيَهُودِ وَعَلَى مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَان». حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ، حَدَّثَنَا رَجُلٌ مِنْ مُزَيْنَةَ وَنَحْنُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «زَنَى رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ وَامْرَأَةٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اذْهَبُوا بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ، فَإِنَّهُ نَبِيٌّ بُعِثَ بِتَخْفِيفٍ، فَإِنْ أَفْتَانَا بِفُتْيَا دُونَ الرَّجْمِ قَبِلْنَاهَا وَاحْتَجَجْنَا بِهَا عِنْدَ اللَّهِ وَقُلْنَا: "فُتْيَا نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِكَ"!! قَالَ: فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ فِي أَصْحَابِهِ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْهُمْ زَنَيَا؟ فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ كَلِمَةً، حَتَّى أَتَى بَيْتَ مِدْرَاسِهِمْ، فَقَامَ عَلَى الْبَابِ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ؟ قَالُوا: يُحَمَّمُ وَيُجَبَّهُ وَيُجْلَدُ " وَالتَّجْبِيهُ "، أَنْ يُحْمَلَ الزَّانِيَانِ عَلَى حِمَارٍ، تُقَابَلُ أَقْفِيَتُهُمَا، وَيُطَافُ بِهِمَا وَسَكَتَ شَابٌّ [مِنْهُمْ]، فَلَمَّا رَآهُ سَكَتَ، أَلَظَّ بِهِ النِّشْدَةَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِذْ نَشَدْتَنَا، فَإِنَّا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ الرَّجْمَ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَا أَوَّلُ مَا ارْتَخَصْتُمْ أَمْرَ اللَّهِ؟ قَالَ: زَنَى رَجُلٌ ذُو قُرَابَةٍ مِنْ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِنَا، فَأَخَّرَ عَنْهُ الرَّجْمَ. ثُمَّ زَنَى رَجُلٌ فِي أُسْوَةٍ مِنَ النَّاسِ، فَأَرَادَ رَجْمَهُ، فَحَالَ قَوْمُهُ دُونَهُ وَقَالُوا: لَا تَرْجُمْ صَاحِبَنَا حَتَّى تَجِيءَ بِصَاحِبِكَ فَتَرْجَمَهُ! فَاصْطَلَحُوا عَلَى هَذِهِ الْعُقُوبَةِ بَيْنَهُمْ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ! فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَبَلَغَنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ: "إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا"، فَكَانَ النَّبِيُّ مِنْهُم». حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَوْلُهُ: " {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} "، النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، يَحْكُمُونَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْحَقِّ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: " {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} "، يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"لِلَّذِينَ هَادُوا"، يَعْنِي الْيَهُودَ، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ وَلَا تَخْشَهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَيَحْكُمُ بِالتَّوْرَاةِ وَأَحْكَامِهَا الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ-عَلَى مَا أَمَرَ بِالْحُكْمِ بِهِ فِيهَا- مَعَ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا "الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ". و"الرَّبَّانِيُّونَ" جَمْعُ " رَبَّانِيٍّ "، وَهُمُ الْعُلَمَاءُ الْحُكَمَاءُ الْبُصَرَاءُ بِسِيَاسَةِ النَّاسِ، وَتَدْبِيرِ أُمُورِهِمْ، وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِمْ و"الْأَحْبَارُ"، هُمُ الْعُلَمَاءُ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى "الرَّبَّانِيِّينَ" فِيمَا مَضَى بِشَوَاهِدِهِ، وَأَقْوَالَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِيهِ. وَأَمَّا "الأَحْبَارُالْمَقْصُودُ بِهِمْ "، فَإِنَّهُمْ جَمْعُ " حَبْرٍ "، وَهُوَ الْعَالِمُ الْمُحْكِمُ لِلشَّيْءِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِكَعْبٍ: " كَعْبُ الْأَحْبَارِ ". وَكَانَ الْفَرَّاءُ يَقُولُ: أَكْثَرُ مَا سَمِعْتُ الْعَرَبَ تَقُولُ فِي وَاحِدِ "الأَحْبَارِ"، "حِبْر" بِكَسْرِ " الْحَاءِ ". وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ يَقُولُ: عَنِيَ بـ "الرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَحْبَارِ" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: ابْنَا صُورِيَا اللَّذَانِ أَقَرَّا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى الزَّانِيَيْنِ الْمُحْصَنَيْنِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: كَانَ رَجُلَانِ مِنَ الْيَهُودِ أَخَوَانِ، يُقَالُ لَهُمَا ابْنَا صُورِيَا، وَقَدِ اتَّبَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُسْلِمَا، وَأَعْطَيَاهُ عَهْدًا أَنْ لَا يَسْأَلَهُمَا عَنْ شَيْءٍ فِي التَّوْرَاةِ إِلَّا أَخْبَرَاهُ بِهِ. وَكَانَ أَحَدُهُمَا رِبِّيًّا، وَالْآخِرُ حَبْرًا. وَإِنَّمَا اتَّبَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَلَّمَانِ مِنْهُ. فَدَعَاهُمَا، فَسَأَلَهُمَا، فَأَخْبَرَاهُ الْأَمْرَ كَيْفَ كَانَ حِينَ زَنَى الشَّرِيفُ وَزَنَى الْمِسْكِينُ، وَكَيْفَ غَيَّرُوهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: " {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} "، يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ"، هُمَا ابْنَا صُورِيَا، لِلَّذِينَ هَادُوا. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنِي صُورِيَا فَقَالَ: " {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} ". قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ أَنَّ التَّوْرَاةَ يَحْكُمُ بِهَا مُسْلِمُو الْأَنْبِيَاءِ لِلْيَهُودِ، وَالرَّبَّانِيُّونَ مِنْ خَلْقِهِ وَالْأَحْبَارُ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَنِيَ بِذَلِكَ ابْنَا صُورِيَا وَغَيْرَهُمَا، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِي ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ مُسْلِمُو الْأَنْبِيَاءِ وَكُلُّ رَبَّانِيٍّ وَحَبْرٍ. وَلَا دَلَالَةَ فِي ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ عَلَى أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ خَاصٌّ مِنَ الرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَحْبَارِ، وَلَا قَامَتْ بِذَلِكَ حُجَّةٌ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا. فَكُلُّ رَبَّانِيٍّ وَحَبْرٍ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ بِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ. وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ " الْأَحْبَارِ "، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سَلَمَةَ، عَنِ الضَّحَّاكِ: "الرَّبَّانِيُّونَ" وَ" الْأَحْبَارُ "، قُرَّاؤُهُمْ وَفُقَهَاؤُهُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَسَنِ: " الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ "، الْفُقَهَاءُ وَالْعُلَمَاءُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: "الرَّبَّانِيُّونَ"، الْعُلَمَاءُ الْفُقَهَاءُ، وَهُمْ فَوْقَ "الأَحْبَارِ". حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: "الرَّبَّانِيُّونَ"، فُقَهَاءُ الْيَهُودِ "وَالْأَحْبَارُ"، عُلَمَاؤُهُمْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا سُنَيْدُ بْنُ دَاوُدَ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: " {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} "، كُلُّهُمْ يَحْكُمُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْحَقِّ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ "الرَّبَّانِيُّونَ"، الْوُلَاةُ، "وَالْأَحْبَارُ"، الْعُلَمَاءُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ"، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: يَحْكُمُ النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ يَعْنِي الْعُلَمَاءَ بِمَا اسْتُودِعُوا عِلْمَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ التَّوْرَاةُ. و"الْبَاءُ" فِي قَوْلِهِ: "بِمَا اسْتُحْفِظُوا"، مِنْ صِلَةِ " الْأَحْبَارِ ". وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ"، فَإِنَّهُ يَعْنِي: أَنَّ الرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَحْبَارَ بِمَا اسْتُوْدِعُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، يَحْكُمُونَ بِالتَّوْرَاةِ مَعَ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا، وَكَانُوا عَلَى حُكْمِ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا شُهَدَاءَ أَنَّهُمْ قَضَوْا عَلَيْهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُوسَى وَقَضَائِهِ عَلَيْهِمْ، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ"، يَعْنِي الرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَحْبَارَ، هُمُ الشُّهَدَاءُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ، أَنَّهُ حَقٌّ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَهُوَ نَبِيُّ اللَّهِ مُحَمَّدٌ، أَتَتْهُ الْيَهُودُ. فَقَضَى بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِعُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَأَحْبَارِهِمْ: لَا تَخْشَوُا النَّاسَ فِي تَنْفِيذِ حُكْمِي الَّذِي حَكَمْتُ بِهِ عَلَى عِبَادِي، وَإِمْضَائِهِ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا أَمَرْتُ، فَإِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ لَكُمْ عَلَى ضُرٍّ وَلَا نَفْعٍ إِلَّا بِإِذْنِي، وَلَا تَكْتُمُوا الرَّجْمَ الَّذِي جَعَلَتْهُ حُكْمًا فِي التَّوْرَاةِ عَلَى الزَّانِيَيْنِ الْمُحْصَنَيْنِ، وَلَكِنِ اخْشَوْنِي دُونَ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِي، فَإِنَّ النَّفْعَ وَالضُّرَّ بِيَدِي، وَخَافُوا عِقَابِي فِي كِتْمَانِكُمْ مَا استُحفِظْتُمْ مِنْ كِتَابِي. كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} "، يَقُولُ: لَا تَخْشَوُا النَّاسَ فَتَكْتُمُوا مَا أَنْزَلْتُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} "يَقُولُ: وَلَا تَأْخُذُوا بِتَرْكِ الْحُكْمِ بِآيَاتِ كِتَابِيَ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ عَلَى مُوسَى أَيُّهَا الْأَحْبَارُ عِوَضًا خَسِيسًا وَذَلِكَ هُو" الثَّمَنُ الْقَلِيلُ ". وَإِنَّمَا أَرَادَ تَعَالَى ذِكْرُهُ، نَهْيَهُمْ عَنْ أَكْلِ السُّحْتِ عَلَى تَحْرِيفِهِمْ كِتَابَ اللَّهِ، وَتَغْيِيرِهِمْ حُكْمَهُ عَمَّا حَكَمَ بِهِ فِي الزَّانِيَيْنِ الْمُحْصَنَيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي بَدَّلُوهَا طَلَبًا مِنْهُمْ لِلرُّشَى، كَمَا:- حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} "، قَالَ: لَا تَأْكُلُوا السُّحْتَ عَلَى كِتَابِي، وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى، قَالَ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: "وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا" قَالَ: لَا تَأْخُذُوا بِهِ رِشْوَةً. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} "، وَلَا تَأْخُذُوا طَمَعًا قَلِيلًا عَلَى أَنْ تَكْتُمُوا مَا أَنْزَلْتُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنْ كَتَمَ حُكْمَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ وَجَعَلَهُ حُكْمًا بَيْنَ عِبَادِهِ، فَأَخْفَاهُ وَحَكَمَ بِغَيْرِهِ، كَحُكْمِ الْيَهُودِ فِي الزَّانِيَيْنِ الْمُحْصَنَيْنِ بِالتَّجْبِيهِ وَالتَّحْمِيمِ، وَكِتْمَانِهِمُ الرَّجْمَ، وَكَقَضَائِهِمْ فِي بَعْضِ قَتْلَاهُمْ بِدِيَةٍ كَامِلَةٍ وَفِي بَعْضٍ بِنِصْفِ الدِّيَةِ، وَفِي الْأَشْرَافِ بِالْقِصَاصِ، وَفِي الْأَدْنِيَاءِ بِالدِّيَةِ، وَقَدْ سَوَّى اللَّهُ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ"فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ"، يَقُولُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَحْكُمُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَلَكِنْ بَدَّلُوا وَغَيَّرُوا حُكْمَهُ، وَكَتَمُوا الْحَقَّ الَّذِي أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ"هُمُ الْكَافِرُونَ"، يَقُولُ: هُمُ الَّذِينَ سَتَرُوا الْحَقَّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِمْ كَشْفُهُ وَتَبْيِينُهُ، وَغَطَّوْهُ عَنِ النَّاسِ، وَأَظْهَرُوا لَهُمْ غَيْرَهُ، وَقَضَوْا بِهِ، لِسُحْتٍ أَخَذُوهُ مِنْهُمْ عَلَيْهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ "الْكُفْر" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ، مِنْ أَنَّهُ عَنَى بِهِ الْيَهُودَ الَّذِينَ حَرَّفُوا كِتَابَ اللَّهِ وَبَدَّلُوا حُكْمَهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} "، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 47]، فِي الْكَافِرِينَ كُلُّهَا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حَيَّانَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: الثَّلَاثُ الْآيَاتِ الَّتِي فِي "المَائِدَةِ"، " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} " {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، لَيْسَ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنْهَا شَيْءٌ، هِيَ فِي الْكُفَّارِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، عَنِ الضَّحَّاكِ: " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} "، و"الظَّالِمُونَ" و"الْفَاسِقُونَ"، قَالَ: نَزَلَتْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُدَيْرٍ قَالَ، أَتَى أَبَا مِجْلَزٍ نَاسٌ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ سَدُوسٍ، فَقَالُوا: يَا أَبَا مِجْلَزٍ، أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ: " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} "، أَحَقٌّ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالُوا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، أَحَقٌّ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالُوا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، أَحَقٌّ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ فَقَالُوا: يَا أَبَا مِجْلَزٍ، فَيَحْكُمُ هَؤُلَاءِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ؟ قَالَ: هُوَ دِينُهُمُ الَّذِي يَدِينُونَ بِهِ، وَبِهِ يَقُولُونَ، وَإِلَيْهِ يَدْعُونَ، فَإِنْ هُمْ تَرَكُوا شَيْئًا مِنْهُ عَرَفُوا أَنَّهُمْ قَدْ أَصَابُوا ذَنْبًا! فَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ، وَلَكِنَّكَ تُفَرِّقُ! قَالَ: أَنْتُمْ أَوْلَى بِهَذَا مِنِّي! لَا أَرَى، وَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ تَرَوْنَ هَذَا وَلَا تُحْرَجُونَ، وَلَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَهْلِ الشِّرْكِ أَوْ نَحْوًا مِنْ هَذَا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ قَالَ: قَعَدَ إِلَى أَبِي مِجْلَزٍ نَفَرٌ مِنَ الإبَاضِيَّةِ، قَالَ فَقَالُوا لَهُ: يَقُولُ اللَّهُ: " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} "، "فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ"، "فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"! قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: إِنَّهُمْ يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ يَعْنِي الْأُمَرَاءَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ذَنْبٌ! قَالَ: وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْيَهُودِ ! وَالنَّصَارَى قَالُوا: أَمَا وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مِثْلَ مَا نَعْلَمُ، وَلَكِنَّكَ تَخْشَاهُمْ! قَالَ: أَنْتُمْ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنَّا! أَمَّا نَحْنُ فَلَا نَعْرِفُ مَا تَعْرِفُونَ! [قَالُوا]: وَلَكِنَّكُمْ تَعْرِفُونَهُ، وَلَكِنْ يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُمْضُوا أَمْرَكُمْ مِنْ خَشْيَتِهِمْ! حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ فِي قَوْلِهِ: " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} "، قَالَ: نِعْمَ الْإِخْوَةُ لَكُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، إِنْ كَانَتْ لَكُمْ كُلُّ حُلْوَةٍ، وَلَهُمْ كُلُّ مُرَّةٍ!! وَلَتَسْلُكُنَّ طَرِيقَهُمْ قِدَى الشِّرَاكِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، عَنِ الضَّحَّاكِ: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ"، وَ "الظَّالِمُونَ" وَ "الفَاسِقُونَ"، قَالَ: نَزَلَتْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ. حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ: قِيلَ لِحُذَيْفَةَ: " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} "، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ بَشَّارٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ حُذَيْفَةَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ: " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} "، "فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ""فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"، قَالَ فَقِيلَ: ذَلِكَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نِعْمَ الْإِخْوَةُ لَكُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، إِنْ كَانَتْ لَهُمْ كُلُّ مُرَّةٍ، وَلَكُمْ كُلُّ حُلْوَةٍ! كَلَّا وَاللَّهِ، لَتَسْلُكُنَّ طَرِيقَهُمْ قِدَى الشِّرَاكِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْآيَاتُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} "، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ أُنْزِلَتْ فِي قَتِيلِ الْيَهُودِ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَوْلُهُ: " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} "، و"الظَّالِمُونَ"، و"الْفَاسِقُونَ"، لِأَهْلِ الْكِتَابِ كُلُّهُمْ، لِمَا تَرَكُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: «مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَهُودِيٍّ مُحَمَّمٍ مَجْلُودٍ، فَدَعَاهُمْ فَقَالَ: هَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ مَنْ زَنَى؟ قَالُوا: نَعَمْ! فَدَعَا رَجُلًا مِنْ عُلَمَائِهِمْ فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، هَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ؟ قَالَ: لَا، وَلَوْلَا أَنَّكَ أَنْشَدْتَنِي بِهَذَا لَمْ أُخْبِرْكَ، نَجِدُ حَدَّهُ فِي كِتَابِنَا الرَّجْمَ، وَلَكِنَّهُ كَثُرَ فِي أَشْرَافِنَا، فَكُنَّا إِذَا أَخَذْنَا الشَّرِيفَ تَرَكْنَاهُ، وَإِذَا أَخَذْنَا الْوَضِيعَ أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَقُلْنَا: تَعَالَوْا فَلْنَجْتَمِعْ جَمِيعًا عَلَى التَّحْمِيمِ وَالْجَلْدِ مَكَانَ الرَّجْمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَى أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ! فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: " {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} " إِلَى قَوْلِهِ: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ"، يَعْنِي الْيَهُودَ: "فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ"، يَعْنِي الْيَهُودَ: "فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"، لِلْكُفَّارِ كُلُّهَا». حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} "، قَالَ: مَنْ حَكَمَ بِكِتَابِهِ الَّذِي كَتَبَ بِيَدِهِ، وَتَرَكَ كِتَابَ اللَّهِ، وَزَعَمَ أَنَّ كِتَابَهُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَقَدْ كَفَرَ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَحْوَ حَدِيثِ الْقَاسِمِ، عَنِ الْحَسَنِ، غَيْرَ أَنَّ هَنَّادًا قَالَ فِي حَدِيثِهِ: فَقُلْنَا: تَعَالَوْا فَلْنَجْتَمِعْ فِي شَيْءٍ نُقِيمُهُ عَلَى الشَّرِيفِ وَالضَّعِيفِ، فَاجْتَمَعْنَا عَلَى التَّحْمِيمِ وَالْجَلْدِ مَكَانَ الرَّجْمِ- وَسَائِرُ الْحَدِيثِ نَحْوُ حَدِيثِ الْقَاسِمِ. حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَبِيدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتَبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، فَذَكَرَ رَجُلٌ عِنْدَهُ: " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} "، " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} "، " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} "، فَقَالَ عَبِيدُ اللَّهِ: أَمَا وَاللَّهِ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَتَأَوَّلُونَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ عَلَى مَا لَمْ يُنَزَّلْنَ عَلَيْهِ، وَمَا أُنْزِلْنَ إِلَّا فِي حَيَّيْنِ مِنْ يَهُودَ. ثُمَّ قَالَ: هُمْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ، وَذَلِكَ أَنَّ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ كَانَتْ قَدْ غَزَتِ الْأُخْرَى وَقَهَرَتْهَا قَبْلَ قُدُومِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، حَتَّى ارْتَضَوْا وَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ قَتِيلٍ قَتَلَتْهُ الْعَزِيزَةُ مِنَ الذَّلِيلَةِ، فَدِيَتُهُ خَمْسُونَ وَسْقًا، وَكُلُّ قَتِيلٍ قَتَلَتْهُ الذَّلِيلَةُ مِنَ الْعَزِيزَةِ، فَدِيَتُهُ مِئَةُ وَسْقٍ. فَأَعْطَوْهُمْ فَرَقًا وَضَيْمًا. فَقَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَذَلَّتِ الطَّائِفَتَانِ بِمَقْدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِمَا. فَبَيْنَا هُمَا عَلَى ذَلِكَ، أَصَابَتِ الذَّلِيلَةُ مِنَ الْعَزِيزَةِ قَتِيلًا فَقَالَتِ الْعَزِيزَةُ: أَعْطُونَا مِائَةَ وَسْقٍ! فَقَالَتِ الذَّلِيلَةُ: وَهَلْ كَانَ هَذَا قَطُّ فِي حَيَّيْنِ دِينُهُمَا وَاحِدٌ، وَبَلَدُهُمَا وَاحِدٌ، دِيَةُ بَعْضِهِمْ ضِعْفُ دِيَةِ بَعْضٍ! إِنَّمَا أَعْطَيْنَاكُمْ هَذَا فَرَقًا مِنْكُمْ وَضَيْمًا، فَاجْعَلُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَتَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ الْعَزِيزَةَ تَذَاكَرَتْ بَيْنَهَا، فَخَشِيَتْ أَنْ لَا يُعْطِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْحَابِهَا ضَعْفَ مَا تُعْطِي أَصْحَابَهَا مِنْهَا، فَدَسُّوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِخْوَانَهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالُوا لَهُمْ: اخْبُرُوا لَنَا رَأْيَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ أَعْطَانَا مَا نُرِيدُ حَكَّمْنَاهُ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِنَا حَذِرْنَاهُ وَلَمْ نُحَكِّمْهُ! فَذَهَبَ الْمُنَافِقُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَرَادُوا مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ كُلِّهِ قَالَ عَبِيدُ اللَّهِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِيهِمْ: " {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} "، هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ كُلَّهُنَّ، حَتَّى بَلَغَ: " {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} " إِلَى "الفَاسِقُونَ" قَرَأَ عَبِيدُ اللَّهِ ذَلِكَ آيَةً آيَةً، وَفَسَّرَهَا عَلَى مَا أُنْزِلَ، حَتَّى فَرَغَ [مِنْ] تَفْسِيرِ ذَلِكَ لَهُمْ فِي الْآيَاتِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ يَهُودَ، وَفِيهِمْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بـِ "الكَافِرِينَ"، أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَبِ "الظَّالِمِينَ" الْيَهُودَ، وَبِ "الفَاسِقِينَ" النَّصَارَى.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنْ عَامِرٍ قَالَ: نَزَلَتِ "الْكَافِرُونَ" فِي الْمُسْلِمِينَ، وَ "الظَّالِمُونَ" فِي الْيَهُودِ، و"الْفَاسِقُونَ" فِي النَّصَارَى. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: "الكَافِرُونَ"، فِي الْمُسْلِمِينَ، و"الظَّالِمُونَ" فِي الْيَهُودِ، و"الْفَاسِقُونَ"، فِي النَّصَارَى. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ وَأَبُو السَّائِبِ وَوَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالُوا، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: آيَةٌ فِينَا، وَآيَتَانِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" فِينَا، وَفِيهِمْ: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ"، وَ "الفَاسِقُونَ" فِي أَهْلِ الْكِتَابِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَامِرٍ، مِثْلَ حَدِيثِ زَكَرِيَّا عَنْهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ قَالَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ ابْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} "، قَالَ: هَذَا فِي الْمُسْلِمِينَ " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} "، قَالَ: النَّصَارَى. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ، أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ، فِي هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ الَّتِي فِي "المَائِدَةِ": " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} "، قَالَ: فِينَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ" {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} "، قَالَ: فِي الْيَهُودِ" {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} "، قَالَ: فِي النَّصَارَى. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} "، قَالَ: نَزَلَتِ الْأُولَى فِي الْمُسْلِمِينَ، وَالثَّانِيَةُ فِي الْيَهُودِ، وَالثَّالِثَةُ فِي النَّصَارَى. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنِ الشَّعْبِيِّ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَعْلَى، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنْ عَامِرٍ، بِنَحْوِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِذَلِكَ: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ، وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَوْلُهُ: " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} "، " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} "، " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} "، قَالَ: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ، وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَطَاءٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ قَالَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَكِّيِّ، عَنْ طَاوُسٍ: " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} "، قَالَ: لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} "، قَالَ: هِيَ بِهِ كُفْرٌ، وَلَيْسَ كُفْرًا بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. حَدَّثَنِي الْحَسَنُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ: " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} "، فَمَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدْ كَفَرَ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ بِهِ كُفْرٌ، وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَبِكَذَا وَكَذَا. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} "، قَالَ هِيَ بِهِ كُفْرٌ قَالَ: ابْنُ طَاوُسٍ: وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ طَاوُسٍ: "فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ"، قَالَ: كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ قَالَ وَقَالَ عَطَاءٌ: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ، وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَى مُرَادٌ بِهَا جَمِيعُ النَّاسِ، مُسْلِمُوهُمْ وَكُفَّارُهُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَرَضِيَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} "، قَالَ: نَزَلَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَرِضَى لَكُمْ بِهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} "، قَالَ: نَزَلَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ رِضَى بِهَا لِهَؤُلَاءِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} "، قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَهِيَ عَلَيْنَا وَاجِبَةٌ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ وَمَسْرُوقٍ: أَنَّهُمَ سَأَلَا ابْنَ مَسْعُودٍ عَنِ الرِّشْوَةِ، فَقَالَ: مِنَ السُّحْتِ. قَالَ فَقَالَا أَفِي الْحُكْمِ؟ قَالَ: ذَاكَ الْكُفْرُ! ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ". حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} "، يَقُولُ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلْتُ، فَتَرَكَهُ عَمْدًا وَجَارَ وَهُوَ يَعْلَمُ، فَهُوَ مِنَ الْكَافِرِينَ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ جَاحِدًا بِهِ. فَأَمَّا "الظُّلْم" و" الْفِسْقُ "، فَهُوَ لِلْمُقِرِّ بِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} "، قَالَ: مَنْ جَحَدَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَقَدْ كَفَرَ. وَمَنْ أَقَرَّ بِهِ وَلَمْ يَحْكُمْ، فَهُوَ ظَالِمٌ فَاسِقٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي كُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْآيَاتِ فَفِيهِمْ نَزَلَتْ، وَهُمُ الْمَعْنِيُّونَ بِهَا. وَهَذِهِ الْآيَاتُ سِيَاقُ الْخَبَرِ عَنْهُمْ، فَكَوْنُهَا خَبَرًا عَنْهُمْ أَوْلَى. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ عَمَّ بِالْخَبَرِ بِذَلِكَ عَنْ جَمِيعِ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، فَكَيْفَ جَعَلْتَهُ خَاصًّا؟ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَمَّ بِالْخَبَرِ بِذَلِكَ عَنْ قَوْمٍ كَانُوا بِحُكْمِ اللَّهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ فِي كِتَابِهِ جَاحِدِينَ، فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ بِتَرْكِهِمُ الْحُكْمَ، عَلَى سَبِيلِ مَا تَرَكُوهُ، كَافِرُونَ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِيكُلِّ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ جَاحِدًا بِهِ، هُوَ بِاللَّهِ كَافِرٌ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، لِأَنَّهُ بِجُحُودِهِ حُكْمَ اللَّهِ بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ، نَظِيرُ جُحُودِهِ نُبُوَّةَ نَبِيِّهِ بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهُ نَبِيٌّ.
|