الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا}. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ مَتْرُوكٌ تُرِكَ ذِكْرُهُ اسْتِغْنَاءً بِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ مِنْهُ عَنْهُ فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا بِغُلَامٍ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا وَبِذَلِكَ جَاءَ تَأْوِيلُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، قَالَ: ثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنِ مَعْقِلٍ ابْنُ أَخِي وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: سَمِعْتُ وَهْبًا قَالَ: لَمَّا أَرْسَلَ اللَّهُ جِبْرِيلَ إِلَى مَرْيَمَ تَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا فَقَالَتْ لَهُ: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} ثُمَّ نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا حَتَّى وَصَلَتِ النَّفْخَةُ إِلَى الرَّحِمِ فَاشْتَمَلَتْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ لَا يُتَّهَمُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ الْيَمَانِيِّ، قَالَ: لَمَّا قَالَ ذَلِكَ، يَعْنِي لَمَّا قَالَ جِبْرِيلُ {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}.... الْآيَةَ، اسْتَسْلَمَتْ لِأَمْرِ اللَّهِ، فَنَفَخَ فِي جَيْبِهَا ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهَا. حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: طَرَحَتْ عَلَيْهَا جِلْبَابَهَا لَمَّا قَالَ جِبْرِيلُ ذَلِكَ لَهَا، فَأَخَذَ جِبْرِيلُ بِكُمَّيْهَا، فَنَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا، وَكَانَ مَشْقُوقًا مِنْ قُدَّامِهَا، فَدَخَلَتِ النَّفْخَةُ صَدْرَهَا، فَحَمَلَتْ، فَأَتَتْهَا أُخْتُهَا امْرَأَةُ زَكَرِيَّا لَيْلَةً تَزُورُهَا؛ فَلَمَّا فَتَحَتْ لَهَا الْبَابَ الْتَزَمَتْهَا، فَقَالَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّا: يَا مَرْيَمُ أَشْعَرْتِ أَنِّي حُبْلَى، قَالَتْ مَرْيَمُ: أَشْعَرْتِ أَيْضًا أَنِّي حُبْلَى، قَالَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّا: إِنِّي وَجَدْتُ مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يَقُولُونَ: إِنَّهُ إِنَّمَا نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا وَكُمِّهَا. وَقَوْلُهُ {فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} يَقُولُ: فَاعْتَزَلَتْ بِالَّذِي حَمَلَتْهُ، وَهُوَ عِيسَى، وَتَنَحَّتْ بِهِ عَنِ النَّاسِ مَكَانًا قَصِيًّا يَقُولُ: مَكَانًا نَائِيًا قَاصِيًا عَنِ النَّاسِ، يُقَالُ: هُوَ بِمَكَانٍ قَاصٍ، وَقَصِيٍّ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ: لَتَقْعُـدِنَّ مَقْعَـدَ الْقَصِـيِّ *** مِنِّـي ذِي الْقَـاذُوَرةِ الْمَقْـلِيِّ يُقَالُ مِنْهُ: قَصَا الْمَكَانُ يَقْصُو قُصُوًّا: إِذَا تَبَاعَدَ، وَأَقْصَيْتُ الشَّيْءَ: إِذَا أَبْعَدْتُهُ وَأَخَّرْتُهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} قَالَ: مَكَانًا نَائِيًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ {مَكَانًا قَصِيًّا} قَالَ: قَاصِيًا.
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: لَمَّا بَلَّغَ أَنْ تَضَعَ مَرْيَمُ، خَرَجَتْ إِلَى جَانِبِ الْمِحْرَابِ الشَّرْقِيِّ مِنْهُ فَأَتَتْ أَقْصَاهُ. وَقَوْلُهُ {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَجَاءَ بِهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ، ثُمَّ قِيلَ: لَمَّا أُسْقِطَتِ الْبَاءُ مِنْهُ أَجَاءَهَا، كَمَا يُقَالُ: أَتَيْتُكَ بِزَيْدٍ، فَإِذَا حُذِفَتِ الْبَاءُ قِيلَ آتَيْتُكَ زَيْدًا، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} وَالْمَعْنَى: بِزُبَرِ الْحَدِيدِ، وَلَكِنَّ الْأَلِفَ مُدَّتْ لَمَّا حُذِفَتِ الْبَاءُ، وَكَمَا قَالُوا: خَرَجْتُ بِهِ وَأَخْرَجْتُهُ، وَذَهَبْتُ بِهِ وَأَذْهَبْتُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ أَفْعَلُ مِنَ الْمَجِيءِ، كَمَا يُقَالُ: جَاءَ هُوَ، وَأَجْأْتُهُ أَنَا: أَيْ جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلٌ مِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ": شَرُّ مَا أَجَاءَنِي إِلَى مُخَّةِ عُرْقُوبٍ"، وَأَشَاءَ وَيُقَالُ: شَرُّ مَا يُجِيئُكَ ويُشِيئُكَ إِلَى ذَلِكَ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: وَجَـارٍ سَـارَ مُعْتَمِـدًا إلَيْكُـمْ *** أَجَاءَتْـهُ الْمَخَافَـةُ وَالرَّجَـاءُ يُعْنَى: جَاءَ بِهِ، وَأَجَاءَهُ إِلَيْنَا وَأَشَاءَكَ: مِنْ لُغَةِ تَمِيمٍ، وَأَجَاءَكَ مِنْ لُغَةِ أَهْلِ الْعَالِيَةِ، وَإِنَّمَا تَأَوَّلَ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ بِمَعْنَى: أَلْجَأَهَا، لِأَنَّ الْمَخَاضَ لَمَّا جَاءَهَا إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ، كَانَ قَدْ أَلْجَأَهَا إِلَيْهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} قَالَ: الْمَخَاضُ أَلْجَأَهَا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: أَلْجَأَهَا الْمَخَاضُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلْجَأَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ. حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} يَقُولُ: أَلْجَأَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} قَالَ: اضْطَرَّهَا إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَيِّ الْمَكَانِ الَّذِي انْتَبَذَتْمَرْيَمُ بِعِيسَى لِوَضْعِهِ، وَأَجَاءَهَا إِلَيْهِ الْمَخَاضُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ ذَلِكَ فِي أَدْنَى أَرْضِ مِصْرَ، وَآخَرُ أَرْضِ الشَّأْمِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا هَرَبَتْ مِنْ قَوْمِهَا لَمَّا حَمَلَتْ، فَتَوَجَّهَتْ نَحْوَ مِصْرَ هَارِبَةً مِنْهُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، قَالَ: ثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ، أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ: لَمَّا اشْتَمَلَتْمَرْيَمُعَلَى الْحَمْلِ، كَانَ مَعَهَا قَرَابَةٌ لَهَا، يُقَالُ لَهُ يُوسُفُ النَّجَّارُ، وَكَانَا مُنْطَلِقَيْنِ إِلَى الْمَسْجِدِ الَّذِي عِنْدَ جَبَلِ صَهْيُونَ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَسْجِدُ يَوْمئِذٍ مِنْ أَعْظَمِ مَسَاجِدِهِمْ، فَكَانَتْمَرْيَمُوَيُوسُفُ يَخْدِمَانِ فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ، فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَكَانَ لِخِدْمَتِهِ فَضْلٌ عَظِيمٌ، فَرَغِبَا فِي ذَلِكَ، فَكَانَا يَلِيَانِ مُعَالَجَتَهُ بِأَنْفُسِهِمَا، تَحْبِيرَهُ وَكُنَاسَتَهُ وَطَهُورَهُ، وَكُلَّ عَمَلٍ يُعْمَلُ فِيهِ، وَكَانَ لَا يَعْمَلُ مَنْ أَهْلِ زَمَانِهِمَا أَحَدٌ أَشَدُّ اجْتِهَادًا وَعِبَادَةً مِنْهُمَا، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ أَنْكَرَ حَمْلَمَرْيَمَصَاحِبُهَا يُوسُفُ؛ فَلَمَّا رَأَى الَّذِي بِهَا اسْتَفْظَعَهُ، وَعَظُمَ عَلَيْهِ، وَفَظِعَ بِهِ، فَلَمْ يَدْرِ عَلَى مَاذَا يَضَعُ أَمْرَهَا، فَإِذَا أَرَادَ يُوسُفُ أَنْ يَتَّهِمَهَا، ذَكَرَ صَلَاحَهَا وَبَرَاءَتَهَا، وَأَنَّهَا لَمْ تَغِبْ عَنْهُ سَاعَةً قَطُّ؛ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهَا، رَأَى الَّذِي ظَهَرَ عَلَيْهَا؛ فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَلَّمَهَا، فَكَانَ أَوَّلُ كَلَامِهِ إِيَّاهَا أَنْ قَالَ لَهَا: إِنَّهُ قَدْ حَدَثَ فِي نَفْسِي مِنْ أَمْرِكِ أَمْرٌ قَدْ خَشِيتُهُ، وَقَدْ حَرَصْتُ عَلَى أَنْ أُمِيتَهُ وَأَكْتُمَهُ فِي نَفْسِي، فَغَلَبَنِي ذَلِكَ، فَرَأَيْتُ الْكَلَامَ فِيهِ أَشَفَى لِصَدْرِي، قَالَتْ: فَقُلْ قَوْلًا جَمِيلًا قَالَ: مَا كُنْتُ لِأَقُولَ لَكِ إِلَّا ذَلِكَ، فَحَدِّثِينِي، هَلْ يَنْبُتُ زَرْعٌ بِغَيْرِ بَذْرٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ تَنْبُتُ شَجَرَةٌ مِنْ غَيْرِ غَيْثٍ يُصِيبُهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ يَكُونُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْبَتَ الزَّرْعَ يَوْمَ خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ، وَالْبَذْرُ يَوْمئِذٍ إِنَّمَا صَارَ مِنَ الزَّرْعِ الَّذِي أَنْبَتَهُ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ؛ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ بِقُدْرَتِهِ أَنْبَتَ الشَّجَرَ بِغَيْرِ غَيْثٍ، وَأَنَّهُ جَعَلَ بِتِلْكَ الْقُدْرَةِ الْغَيْثَ حَيَاةً لِلشَّجَرِ بَعْدَ مَا خَلَقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَحْدَهُ، أَمْ تَقُولُ: لَنْ يَقْدِرَ اللَّهُ عَلَى أَنْ يُنْبِتَ الشَّجَرَ حَتَّى اسْتَعَانَ عَلَيْهِ بِالْمَاءِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِنْبَاتِهِ؟ قَالَ يُوسُفُ لَهَا: لَا أَقُولُ هَذَا، وَلَكِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِقُدْرَتِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ يَقُولُ لِذَلِكَ كُنْ فَيَكُونُ، قَالَتْمَرْيَمُ: أَوْ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَ آدَمَ وَامْرَأَتَهُ مِنْ غَيْرِ أُنْثَى وَلَا ذَكَرٍ؟ قَالَ: بَلَى، فَلَمَّا قَالَتْ لَهُ ذَلِكَ، وَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّ الَّذِي بِهَا شَيْءٌ مِنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَأَنَّهُ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَسْأَلَهَا عَنْهُ، وَذَلِكَ لَمَّا رَأَى مِنْ كِتْمَانِهَا لِذَلِكَ، ثُمَّ تَوَلَّى يُوسُفُ خِدْمَةُ الْمَسْجِدِ، وَكَفَاهَا كُلَّ عَمَلٍ كَانَتْ تَعْمَلُ فِيهِ، وَذَلِكَ لَمَّا رَأَى مِنْ رِقَّةِ جِسْمِهَا، وَاصْفِرَارِ لَوْنِهَا، وَكَلَفِ وَجْهَِهَا، وَنُتُوِّ بَطْنِهَا، وَضَعْفِ قُوَّتِهَا، وَدَأْبِ نَظَرِهَا، وَلَمْ تَكُنْمَرْيَمُقَبْلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ فَلَمَّا دَنَا نِفَاسُهَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا أَنِ اخْرُجِي مِنْ أَرْضِ قَوْمِكِ، فَإِنَّهُمْ إِنْ ظَفِرُوا بِكِ عَيَّرُوكِ، وَقَتَلُوا وَلَدَكِ، فَأَفْضَتْ ذَلِكَ إِلَى أُخْتِهَا، وَأُخْتُهَا حِينَئِذٍ حُبْلَى، وَقَدْ بُشِّرَتْ بِيَحْيَى، فَلَمَّا الْتَقَيَا وَجَدَتْ أُمُّ يَحْيَى مَا فِي بَطْنِهَا خَرَّ لِوَجْهِهِ سَاجِدًا مُعْتَرِفًا لِعِيسَى، فَاحْتَمَلَهَا يُوسُفُ إِلَى أَرْضِ مِصْرَ عَلَى حِمَارٍ لَهُ لَيْسَ بَيْنَهَا حِينَ رَكِبَتْ وَبَيْنَ الْإِكَافِ شَيْءٌ، فَانْطَلَقَ يُوسُفُ بِهَا حَتَّى إِذَا كَانَ مُتَاخِمًا لِأَرْضِ مِصْرَ فِي مُنْقَطِعِ بِلَادِ قَوْمِهَا، أَدْرَكَ مَرْيَمَ النِّفَاسُ، أَلْجَأَهَا إِلَى آرِيِّ حِمَارٍ، يَعْنَى مِذْوَدَ الْحِمَارِ، وَأَصْلِ نَخْلَةٍ، وَذَلِكَ فِي زَمَانٍ أَحْسَبُهُ بَرْدًا أَوْ حَرًّا "الشَّكُّ مَنْ أَبِي جَعْفَرٍ "، فَاشْتَدَّ عَلَىمَرْيَمَالْمَخَاضُ؛ فَلَمَّا وَجَدَتْ مِنْهُ شِدَّةً الْتَجَأَتْ إِلَى النَّخْلَةِ فَاحْتَضَنَتْهَا وَاحْتَوَشَتْهَا الْمَلَائِكَةُ، قَامُوا صُفُوفًا مُحَدِّقِينَ بِهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَوْلٌ آخَرُ غَيْرُ هَذَا، وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَمَّنْ لَا يُتَّهَمُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: لَمَّا حَضَرَ وِلَادُهَا، يَعْنِي مَرْيَمَ، وَوَجَدَتْ مَا تَجِدُ الْمَرْأَةُ مِنَ الطَّلْقِ، خَرَجَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ مُغْرِبَةً مِنْ إِيلِيَاءَ، حَتَّى تُدْرِكَهَا الْوِلَادَةُ إِلَى قَرْيَةٍ مِنْ إِيلِيَاءَ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ يُقَالُ لَهَا بَيْتُ لَحْمٍ، فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى أَصْلِ نَخْلَةٍ إِلَيْهَا مِذْوَدُ بِقُرَّةٍ تَحْتَهَا رَبِيعٌ مِنَ الْمَاءِ، فَوَضَعَتْهُ عِنْدَهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ خَرَجَتْ لَمَّا حَضَرَ وَضْعُهَا مَا فِي بَطْنِهَا إِلَى جَانِبِ الْمِحْرَابِ الشَّرْقِيِّ مِنْهُ، فَأَتَتْ أَقْصَاهُ فَأَلْجَأَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُ السُّدِّيِّ، وَقَدْ ذَكَرْتُ الرِّوَايَةَ بِهِ قَبْلُ. حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ: ثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: مَا هِيَ إِلَّا أَنْ حَمَلَتْ فَوَضَعَتْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَيْسَ إِلَّا أَنْ حَمَلَتْ فَوَلَدَتْ. وَقَوْلُهُ: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} ذُكِرَ أَنَّهَا قَالَتْ ذَلِكَ فِي حَالِ الطَّلْقِ اسْتِحْيَاءً مِنَ النَّاسِ. كَمَا حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: قَالَتْ وَهِيَ تُطْلِقُ مِنَ الْحَبَلِ اسْتِحْيَاءً مِنَ النَّاسِ {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} تَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا الْكَرْبِ الَّذِي أَنَا فِيهِ، وَالْحُزْنِ بِوِلَادَتِي الْمَوْلُودَ مِنْ غَيْرِ بَعْلٍ، وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا: شَيْئًا نُسِيَ فَتُرِكَ طَلَبُهُ كَخَرِقِ الْحَيْضِ الَّتِي إِذَا أُلْقِيَتْ وَطُرِحَتْ لَمْ تُطْلَبْ وَلَمْ تُذْكَرْ، وَكَذَلِكَ كَلُّ شَيْءٍ نَسِيَ وَتُرِكَ وَلَمْ يُطْلَبْ فَهُوَ نَسْيٌ. وَنِسْيٌ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، مِثْلُ الْوَتْرِ وَالْوِتْرِ، وَالْجَسْرِ وَالْجِسْرِ، وَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ عِنْدَنَا؛ وَبِالْكَسْرِ قَرَأَتْ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ؛ وَبِالْفَتْحِ قَرَأَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: كَـأَنَّ لَهَـا فِـي الْأَرْضِ نِسْـيًا تَقُصُّهُ *** إِذَا مَـا غَـدَتْ وَإِنْ تُحَـدِّثْكَ تَبْلَـتِ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: تَقُصُّهُ: تَطْلُبُهُ، لِأَنَّهَا كَانَتْ نَسِيَتْهُ حَتَّى ضَاعَ، ثُمَّ ذَكَرَتْهُ فَطَلَبَتْهُ، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: تَبْلَتُ: تُحْسِنُ وَتَصَدَّقُ، وَلَوْ وُجِّهَ النَّسْيُ إِلَى الْمَصْدَرِ مِنَ النِّسْيَانِ كَانَ صَوَابًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهَا تَقُولُ: نَسِيْتُهُ نِسْيَانًا وَنَسْيًا، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ مِنْ طَاعَةِ الرَّبِّ وَعَصْيِ الشَّيْطَانِ، يَعْنِي "وَعِصْيَانٍ"، وَكَمَا تَقُولُ أَتَيْتُهُ إِتْيَانًا وَأَتْيًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: أَتْـيُ الْفَوَاحِـشِ فِيهِـمُ مَعْرَوفَـةٌ *** وَيَـرَوْنَ فِعْـلَ الْمَكْرُمَـاتِ حَرَامًـا وَقَوْلُهُ (مَنْسِيًّا) مَفْعُولٌ مِنْ نَسِيَتِ الشَّيْءَ كَأَنَّهَا قَالَتْ: لَيْتَنِي كُنْتُ الشَّيْءَ الَّذِي أُلْقِيَ، فَتُرِكَ وَنُسِيَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا}لَمْ أُخْلَقْ، وَلَمْ أَكُ شَيْئًا. حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} يَقُولُ: نَسْيًا: نَسْيٌ ذِكْرِيٌّ، وَمَنْسِيًّا: تَقُولُ: نَسْيٌ أَثَرِيٌّ، فَلَا يُرَى لِي أَثَرٌ وَلَا عَيْنٌ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا}: أَيْ شَيْئًا لَا يُعْرَفُ وَلَا يُذْكَرُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} قَالَ: لَا أُعْرَفُ وَلَا يُدْرَى مَنْ أَنَا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ {نَسْيًا مَنْسِيًّا} قَالَ: هُوَ السَّقْطُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} لَمْ أَكُنْ فِي الْأَرْضِ شَيْئًا قَطُّ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}. اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} بِمَعْنَى: فَنَادَاهَا جِبْرَائِيلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهَا عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْهُمْ فِي تَأْوِيلِهِ؛ فَمِنْ مُتَأَوِّلٍ مِنْهُمْ إِذَا قَرَأَهُ {مِنْ تَحْتِهَا} كَذَلِكَ؛ وَمِنْ مُتَأَوِّلٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ عِيسَى، وَأَنَّهُ نَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا بَعْدَ مَا وَلَدَتْهُ. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} وَبِفَتْحِ التَّاءَيْنِ مِنْ تَحْتِ، بِمَعْنَى: فَنَادَاهَا الَّذِي تَحْتَهَا، عَلَى أَنَّ الَّذِي تَحْتَهَا عِيسَى، وَأَنَّهُ الَّذِي نَادَى أُمَّهُ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ: الَّذِي نَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا الْمَلَكُ، حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَ: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} يَعْنِي: جِبْرَائِيلُ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْثَرٌ، قَالَ: ثَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ، قَالَ: الَّذِي نَادَاهَا الْمَلَكُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، أَنَّهُ قَرَأَ: فَخَاطَبَهَا مِنْ تَحْتِهَا. حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ قَرَأَ: فَخَاطَبَهَا مِنْ تَحْتِهَا. حَدَّثَنَا الرِّفَاعِيُّ، قَالَ: ثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ قَرَأَهَا كَذَلِكَ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَامِرٍ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} قَالَ: جِبْرَائِيلُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا}: أَيْ مِنْ تَحْتِ النَّخْلَةِ. حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ (فَنَادَاهَا) جِبْرَائِيلُ {مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي}. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} قَالَ: الْمَلَكُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} يَعْنِي: جِبْرَائِيلُ كَانَ أَسْفَلَ مِنْهَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} قَالَ: نَادَاهَا جِبْرَائِيلُ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عِيسَى حَتَّى أَتَتْ قَوْمَهَا. ذِكْرُ مَنْ قَالَ: نَادَاهَا عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} قَالَ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَامِرٍ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} ابْنُهَا. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ ابْنُهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ لَا يُتَّهَمُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ (فَنَادَاهَا) عِيسَى {مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي}. حَدَّثَنِي أَبُو حُمَيْدٍ أَحْمَدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْحِمْصِيُّ، قَالَ: ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ عِجْلَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَوْلُهُ {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} قَالَ عِيسَى: أَمَّا تَسْمَعُ اللَّهَ يَقُولُ {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ}. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زُيَيْدٍ {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} قَالَ: عِيسَى؛ نَادَاهَا {مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا}. حُدِّثْتُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: الَّذِي خَاطَبَهَا هُوَ الَّذِي حَمَلَتْهُ فِي جَوْفِهَا وَدَخَلَ مِنْ فِيهَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأُولَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: الَّذِي نَادَاهَا ابْنُهَا عِيسَى، وَذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ كِنَايَةِ ذِكُرِهِ أَقْرَبَ مِنْهُ مَنْ ذِكْرِ جِبْرَائِيلَ، فَرَدَّهُ عَلَى الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ عَلَى الَّذِي هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ. أَلَا تَرَى فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} يَعْنِي بِهِ: فَحَمَلَتْ عِيسَى فَانْتَبَذَتْ بِهِ، ثُمَّ قِيلَ: فَنَادَاهَا نَسَقًا عَلَى ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ عِيسَى وَالْخَبَرِ عَنْهُ. وَلِعِلَّةٍ أُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُهُ {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} وَلَمْ تُشِرْ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَلَّا وَقَدْ عَلِمَتْ أَنَّهُ نَاطِقٌ فِي حَالِهِ تِلْكَ، وَلِلَّذِي كَانَتْ قَدْ عَرَفَتْ وَوَثِقَتْ بِهِ مِنْهُ بِمُخَاطَبَتِهِ إِيَّاهَا بِقَوْلِهِ لَهَا {أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} وَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَهَا أَشِيرِي لِلْقَوْمِ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا مِنْ جِبْرَائِيلَ، لَكَانَ خَلِيقًا أَنْ يَكُونَ فِي ظَاهِرِ الْخَبَرِ، مُبَيِّنًا أَنَّ عِيسَى سَيَنْطِقُ، وَيَحْتَجُّ عَنْهَا لِلْقَوْمِ، وَأَمْرٌ مِنْهُ لَهَا بِأَنْ تُشِيرَ إِلَيْهِ لِلْقَوْمِ إِذَا سَأَلُوهَا عَنْ حَالِهَا وَحَالِهِ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الصَّوَابُ مِنَ التَّأْوِيلِ الَّذِي بَيَّنَّا، فَبَيَّنَ أَنَّ كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ، أَعْنِي {مِنْ تَحْتِهَا} بِالْكَسْرِ، " وَمَنْ تَحْتَهَا " بِالْفَتْحِ صَوَابٌ. وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا قُرِئَ بِالْكَسْرِ كَانَ فِي قَوْلِهِ (فَنَادَاهَا) ذِكْرٌ مِنْ عِيسَى: وَإِذَا قُرِئَ {مِنْ تَحْتِهَا} بِالْفَتْحِ كَانَ الْفِعْلُ لِمَنْ وَهُوَ عِيسَى. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ: فَنَادَاهَا الْمَوْلُودُ مِنْ تَحْتِهَا أَنْ لَا تَحْزَنِي يَا أُمَّهْ {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا}. كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي} قَالَتْ: وَكَيْفَ لَا أَحْزَنُ وَأَنْتَ مَعِي، لَا ذَاتُ زَوْجٍ فَأَقُولُ مِنْ زَوْجٍ، وَلَا مَمْلُوكَةٌ فَأَقُولُ مِنْ سَيِّدِي، أَيُّ شَيْءٍ عُذْرِي عِنْدَ النَّاسِ {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} فَقَالَ لَهَا عِيسَى: أَنَا أَكْفِيكِ الْكَلَامَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِالسَّرِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهِ: النَّهْرُ الصَّغِيرُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} قَالَ: الْجَدْوَلُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} قَالَ: الْجَدْوَلُ. حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} وَهُوَ نَهْرُ عِيسَى. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} قَالَ: السَّرِيُّ: النَّهْرُ الَّذِي كَانَ تَحْتَ مَرْيَمَ حِينَ وَلَدَتْهُ كَانَ يَجْرِي يُسَمَّى سَرِيًّا. حَدَّثَنِي أَبُو حَصِينٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْثَرٌ، قَالَ: ثَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ، قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} قَالَ: السَّرِيُّ: نَهْرٌ يُشْرَبُ مِنْهُ. حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا ثَنَا هُشَيْمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، فِي قَوْلِهِ: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} قَالَ: هُوَ الْجَدْوَلُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ (سَرِيًّا) قَالَ: نَهْرٌ بِالسُّرْيَانِيَّةِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: نَهْرٌ إِلَى جَنْبِهَا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} قَالَ: كَانَ سَرِيًّا فَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: إِنَّ السَّرِيَّ: الْجَدْوَلُ، فَقَالَ: غَلَبَتْنَا عَلَيْكَ الْأُمَرَاءُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} قَالَ: هُوَ الْجَدْوَلُ، النَّهْرُ الصَّغِيرُ، وَهُوَ بِالنَّبَطِيَّةِ: السَّرِيُّ. حَدَّثَنِي أَبُو حُمَيْدٍ الْحِمْصِيُّ، قَالَ: ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ عِجْلَانَ قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ السَّرِيِّ، قَالَ: نَهْرٌ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٍ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: النَّهْرُ الصَّغِيرُ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُغِيرَةُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، أَنَّهُ قَالَ: هُوَ النَّهْرُ الصَّغِيرُ: يَعْنِي الْجَدْوَلَ، يَعْنِي قَوْلُهُ {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا}. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُبَيْطٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ: جَدْوَلٌ صَغِيرٌ بِالسُّرْيَانِيَّةِ. حَدَّثَنَا عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {تَحْتَكِ سَرِيًّا} الْجَدْوَلُ الصَّغِيرُ مِنَ الْأَنْهَارِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} وَالسَّرِيُّ: هُوَ الْجَدْوَلُ، تَسْمِيَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، فِي قَوْلِهِ (سَرِيًّا) قَالَ: هُوَ جَدْوَلٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ لَا يُتَّهَمُ وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} يَعْنِي رَبِيعَ الْمَاءِ. - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} وَالسَّرِيُّ: هُوَ النَّهْرُ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِهِ عِيسَى.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} وَالسَّرِيُّ: عِيسَى نَفْسُهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} يَعْنِي نَفْسَهُ، قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ أَسْرَى مِنْهُ، قَالَ: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: السَّرِيُّ: هُوَ النَّهْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ النَّهْرُ، لَوْ كَانَ النَّهْرَ لَكَانَ إِنَّمَا يَكُونُ إِلَى جَنْبِهَا، وَلَا يَكُونُ النَّهْرُ تَحْتَهَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ قِيلَ مَنْ قَالَ: عَنَى بِهِ الْجَدْوَلُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَعْلَمَهَا مَا قَدْ أَتَاهَا اللَّهُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي جَعَلَهُ عِنْدَهَا، وَقَالَ لَهَا {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي} مِنْ هَذَا الرَّطْبِ (وَاشْرَبِي) مِنْ هَذَا الْمَاءِ {وَقَرِّي عَيْنًا} بِوَلَدِكِ، وَالسَّرِيُّ مَعْرُوفٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّهُ النَّهْرُ الصَّغِيرُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: فَتَوَسَّـطَا عُـرْضَ السَّـرِيِّ وَصَدَّعَـا *** مَسْـجُورَةً مُتَجـاوِرًا قُلَامُهَـا وَيُرْوَى فِينَا مَسْجُورَةً، وَيُرْوَى أَيْضًا: فَغَادَرَا. قَوْلُهُ {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ}ذُكِرَ أَنَّ الْجِذْعَ كَانَ جِذْعًا يَابِسًا، وَأَمَرَهَا أَنْ تَهُزَّهُ، وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ الشِّتَاءِ، وَهَزُّهَا إِيَّاهُ كَانَ تَحْرِيكَهُ. كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} قَالَ: حَرِّكِيهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} قَالَ: كَانَ جِذْعًا يَابِسًا، فَقَالَ لَهَا: هَزِّيهِ {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا نَهْيِكٍ يَقُولُ: كَانَتْ نَخْلَةً يَابِسَةً. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ، قَالَ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، قَالَ: ثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ قَالَ: سَمِعْتُ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} فَكَانَ الرُّطَبُ يَتَسَاقَطُ عَلَيْهَا وَذَلِكَ فِي الشِّتَاءِ. حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} وَكَانَ جِذْعًا مِنْهَا مَقْطُوعًا فَهَزَّتْهُ، فَإِذَا هُوَ نَخْلَةٌ، وَأَجْرَى لَهَا فِي الْمِحْرَابِ نَهْراً، فَتَسَاقَطَتِ النَّخْلَةُ رُطَبًا جَنِيًّا فَقَالَ لَهَا {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا}. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: وَهَزِّي إِلَيْكِ بِالنَّخْلَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} قَالَ: النَّخْلَةُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} قَالَ: الْعَجْوَةُ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} قَالَ: فَقَالَ عَمْرٌو: مَا مِنْ شَيْءٍ خَيْرٌ لِلنُّفَسَاءِ مِنَ التَّمْرِ وَالرُّطَبِ، وَأُدْخِلَتِ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} كَمَا يُقَالُ: زَوَّجْتُكَ فُلَانَةً، وَزَوَّجْتُكَ بِفُلَانَةٍ؛ وَكَمَا قَالَ {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} بِمَعْنَى: تَنْبُتُ الدُّهْنَ. وَإِنَّمَا تَفْعَلُ الْعَرَبُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَفْعَالَ تُكَنَّى عَنْهَا بِالْبَاءِ، فَيُقَالُ إِذَا كَنَّيْتُ عَنْ ضَرَبْتُ عَمْرًا: فَعَلْتُ بِهِ، وَكَذَلِكَ كَلُّ فِعْلٍ، فَلِذَلِكَ تَدْخُلُ الْبَاءُ فِي الْأَفْعَالِ وَتَخْرُجُ، فَيَكُونُ دُخُولُهَا وَخُرُوجُهَا بِمَعْنًى، فَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَهَزِّي إِلَيْكِ جِذْعَ النَّخْلَةِ، وَقَدْ كَانَ لَوْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ كَانُوا فَسَرُّوهُ وَكَذَلِكَ: وَهَزِّي إِلَيْكِ رُطَبًا بِجِذْعِ النَّخْلَةِ، بِمَعْنَى: عَلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ، وَجْهًا صَحِيحًا، وَلَكِنْ لَسْتُ أَحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ فَسَّرَهُ كَذَلِكَ. وَمِنَ الشَّاهِدِ عَلَى دُخُولِ الْبَاءِ فِي مَوْضِعِ دُخُولِهَا وَخُرُوجِهَا مِنْهُ سَوَاءٌ قَوْلُ الشَّاعِرِ: بِـوَادٍ يَمَـانٍ يُنْبِـتُ السِّـدْرَ صَـدْرُهُ *** وَأَسْـفَلُهُ بِـالْمَرْخِ والشَّـبَهَانِ وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ (تَسَّاقَطْ) فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ (تَسَّاقَطْ) بِالتَّاءِ مَنْ تَسَاقَطَ وَتَشْدِيدِ السِّينِ، بِمَعْنَى: تَتَسَاقَطُ عَلَيْكِ النَّخْلَةُ رُطَبًا جَنِيًّا، ثُمَّ تُدْغِمُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الْأُخْرَى فَتُشَدِّدُ وَكَأَنَّ الَّذِينَ قَرَءُوا ذَلِكَ كَذَلِكَ وَجَّهُوا مَعْنَى الْكَلَامِ إِلَى: وَهَزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تَسَّاقُطِ النَّخْلَةُ عَلَيْكَ رُطَبًا: وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ (تُسَاقِطْ) بِالتَّاءِ وَتَخْفِيفِ السِّين، وَوُجِّهَ مَعْنَى الْكَلَامِ، إِلَى مِثْلِ مَا وُجِّهَ إِلَيْهِ مُشَدِّدُوهَا، غَيْرَ أَنَّهُمْ خَالَفُوهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ. وَرُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ (يُسَاقِطْ) بِالْيَاءِ. حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: ثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يَقْرَؤُهُ كَذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ وَجَّهَ مَعْنَى الْكَلَامِ إِلَى: وَهَزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ يَتَسَاقَطِ الْجِذْعُ عَلَيْكَ رُطَبًا جَنِيًّا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي نَهْيِكٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهُ (تُسْقِطْ) بِضَمِّ التَّاءِ وَإِسْقَاطِ الْأَلِفِ. حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا نَهِيكٍ يَقْرَؤُهُ كَذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ وَجَّهَ مَعْنَى الْكَلَامِ إِلَى: تُسْقِطُ النَّخْلَةُ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثَ، أَعْنِي"تَسَّاقَطْ" بِالتَّاءِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ، وَبِالتَّاءِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ، وَبِالْيَاءِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ، قِرَاءَاتٌ مُتَقَارِبَاتُ الْمَعَانِي، قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ قُرَّاءٌ أَهْلُ مَعْرِفَةٍ بِالْقُرْآنِ، فَبِأَيِّ ذَلِكَ قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ الصَّوَابَ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجِذْعَ إِذَا تَسَاقَطَ رُطَبًا، وَهُوَ ثَابِتٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ، فَقَدْ تَسَاقَطَتِ النَّخْلَةُ رُطَبًا، وَإِذَا تَسَاقَطَتِ النَّخْلَةُ رُطَبًا، فَقَدْ تَسَاقَطَتِ النَّخْلَةُ بِأَجْمَعِهَا، جِذْعُهَا وَغَيْرُ جِذْعِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ النَّخْلَةَ مَا دَامَتْ قَائِمَةً عَلَى أَصْلِهَا، فَإِنَّمَا هِيَ جِذْعٌ وَجَرِيدٌ وَسَعَفٌ، فَإِذَا قُطِعَتْ صَارَتْ جِذْعًا، فَالْجِذْعُ الَّذِي أُمِرَتْ مَرْيَمُ بِهَزِّهِ لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ نَعْلَمُهُ أَنَّهُ كَانَ جِذْعًا مَقْطُوعًا غَيْرُ السُّدِّيِّ، وَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ عَادَ بِهَزِّهَا إِيَّاهُ نَخْلَةً، فَقَدْ صَارَ مَعْنَاهُ وَمَعْنَى مَنْ قَالَ: كَانَ الْمُتَسَاقِطُ عَلَيْهَا رُطَبًا نَخْلَةً- وَاحِدًا، فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ صِحَّةُ مَا قُلْنَا. وَقَوْلُهُ: (جَنِيًّا) يَعْنِي مَجْنِيًّا؛ وَإِنَّمَا كَانَ أَصْلُهُ مَفْعُولًا فَصُرِّفَ إِلَى فَعِيلٍ؛ وَالْمَجْنِيُّ: الْمَأْخُوذُ طَرِيًّا، وَكُلُّ مَا أُخِذَ مِنْ ثَمَرَةٍ، أَوْ نُقِلَ مِنْ مَوْضِعِهِ بِطَرَاوَتِهِ فَقَدِ اجْتُنِيَ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: فُلَانٌ يَجْتَنِي الْكَمْأَةَ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ أُخْتِ جَذِيمَةَ: هَـذَا جَنَـايَ وَخِيَـارُهُ فِيـهِ *** إِذْ كُـلُّ جَـانٍ يَـدُهُ إلـى فِيـهْ
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَكُلِّي مِنَ الرُّطَبِ الَّذِي يَتَسَاقَطُ عَلَيْكِ، وَاشْرَبِي مِنْ مَاءِ السَّرِيِّ الَّذِي جَعَلَهُ رَبُّكِ تَحْتَكِ، لَا تَخْشَيْ جُوعًا وَلَا عَطَشًا {وَقَرِّي عَيْنًا} يَقُولُ: وَطِيبِي نَفْسًا وَافْرَحِي بِوِلَادَتِكِ إِيَّايَ وَلَا تَحْزَنِي وَنُصِبَتِ الْعَيْنُ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَوْصُوفَةُ بِالْقَرَارِ. وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: وَلْتَقْرَرْ عَيْنُكِ بِوَلَدِكِ، ثُمَّ حُوِّلَ الْفِعْلُ عَنِ الْعَيْنِ إِلَى الْمَرْأَةِ صَاحِبَةِ الْعَيْنِ، فَنُصِبَتِ الْعَيْنُ إِذْ كَانَ الْفِعْلُ لَهَا فِي الْأَصْلِ عَلَى التَّفْسِيرِ، نَظِيرُ مَا فَعَلَ بِقَوْلِهِ {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} وَإِنَّمَا هُوَ: فَإِنْ طَابَتْ أَنْفُسُهُنَّ لَكُمْ. وَقَوْلُهُ {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} وَمِنْهُ قَوْلُهُ "يُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا" إِنَّمَا هُوَ يَسَّاقَطُ عَلَيْكِ رُطَبُ الْجِذْعَ، فَحُوِّلَ الْفِعْلُ إِلَى الْجِذْعِ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ بِالْيَاءِ. وَفِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: (تُسَاقِطْ) بِالتَّاءِ، مَعْنَاهُ: يَسَّاقَطُ عَلَيْكِ رُطَبُ النَّخْلَةِ، ثُمَّ حَوْلَ الْفِعْلَ إِلَى النَّخْلَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ (وَقَرِّي) فَأَمَّا أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَقَرَءُوهُ (وَقَرِّي) بِفَتْحِ الْقَافِ عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: قَرَرْتُ بِالْمَكَانِ أَقَرَّ بِهِ، وَقَرِرْتُ عَيْنًا، أَقَرَّ بِهِ قُرُورًا، وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ فِيمَا ذُكِرَ لِي وَعَلَيْهَا الْقِرَاءَةُ. وَأَمَّا أَهْلُ نَجْدٍ فَإِنَّهَا تَقُولُ قَرَرْتُ بِهِ عَيْنًا أَقَرَّ بِهِ قَرَارًا وَقَرِرْتُ بِالْمَكَانِ أَقَرَّ بِهِ، فَالْقِرَاءَةُ عَلَى لُغَتِهِمْ: {وَقَرِّي عَيْنًا} بِكَسْرِ الْقَافِ، وَالْقِرَاءَةُ عِنْدَنَا عَلَى لُغَةِ قُرَيْشٍ بِفَتْحِ الْقَافِ. وَقَوْلُهُ {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} يَقُولُ: فَإِنْ رَأَيْتِ مَنْ بَنِي آدَمَ أَحَدًا يُكَلِّمُكِ أَوْ يُسَائِلُكِ عَنْ شَيْءٍ أَمْرِكِ وَأَمْرِ وَلَدِكِ وَسَبَبِ وِلَادَتِكِ {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} يَقُولُ: فَقُولِي: إِنِّي أَوْجَبْتُ عَلَى نَفْسِي لِلَّهِ صَمْتًا أَلَّا أُكَلِّمَ أَحَدًا مَنْ بُنِي آدَمَ الْيَوْمَ {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى الصَّوْمَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} صَمْتًا. حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ: ثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} قَالَ: صَمْتًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا}قَالَ: يَعْنِي بِالصَّوْمِ: الصَّمْتُ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا "وَإِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا وَصَمْتًا". حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} أَمَّا قَوْلُهُ (صَوْمًا) فَإِنَّهَا صَامَتْ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْكَلَامِ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} قَالَ: كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَنْ إِذَا اجْتَهَدَ صَامَ مِنَ الْكَلَامِ كَمَا يَصُومُ مِنَ الطَّعَامِ، إِلَّا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهَا ذَلِكَ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَصُومُ مِنَ الْكَلَامِ كَمَا أَصُومُ مِنَ الطَّعَامِ، إِلَّا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ؛ فَلَمَّا كَلَّمُوهَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ، فَقَالُوا {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} فَأَجَابَهُمْ فَقَالَ {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ} حَتَّى بَلَغَ {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ}. وَاخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أَمَرَهَا بِالصَّوْمِ عَنْ كَلَامِ الْبَشَرِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَمَرَهَا بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا حُجَّةٌ عِنْدَ النَّاسِ ظَاهِرَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهَا جَاءَتْ وَهِيَ أَيِّمٌ بِوَلَدٍ بِالْكَفِّ عَنِ الْكَلَامِ لِيَكْفِيَهَا فَأَمَرَتِ الْكَلَامَ وَلَدَهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ: ثَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ، قَالَ: ثَنَا إِسْرَائِيلُ، قَالَ: ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَجَاءَ رَجُلَانِ فَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُسَلِّمِ الْآخَرُ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ أَصْحَابُهُ: حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمُ النَّاسَ الْيَوْمَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كَلِّمِ النَّاسَ وَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ تِلْكَ امْرَأَةً عَلِمَتْ أَنَّ أَحَدًا لَا يُصَدِّقُهَا أَنَّهَا حَمَلَتْ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ، يَعْنِي بِذَلِكَ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ لَمَّا قَالَ عِيسَى لِمَرْيَمَ {لَا تَحْزَنِي} قَالَتْ: وَكَيْفَ لَا أَحْزَنُ وَأَنْتَ مَعِي، لَا ذَاتُ زَوْجٍ وَلَا مَمْلُوكَةٌ، أَيُّ شَيْءٍ عُذْرِي عِنْدَ النَّاسِ {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} فَقَالَ لَهَا عِيسَى: أَنَا أَكْفِيكِ الْكَلَامَ {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} قَالَ: هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ عِيسَى لِأُمِّهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ لَا يُتَّهَمُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} فَإِنِّي سَأَكْفِيكِ الْكَلَامَ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ آيَةًلِمَرْيَمَوَابْنِهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} قَالَ فِي بَعْضِ الْحُرُوفِ: صَمْتًا وَذَلِكَ إِنَّكَ لَا تَلْقَى امْرَأَةً جَاهِلَةً تَقُولُ: نَذَرْتُ كَمَا نَذَرَتْ مَرْيَمُ، أَلَّا تَكَلَّمَ يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ تِلْكَ آيَةً لِمَرْيَمَ وَلِابْنِهَا، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْيَنْذِرَ صَمْتَ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فَقَرَأَ {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} وَكَانَتْ تَقْرَأُ فِي الْحَرْفِ الْأَوَّلِ: صَمْتًا، وَإِنَّمَا كَانَتْ آيَةً بَعْثِهَا اللَّهُ لِمَرْيَمَ وَابْنِهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَتْ صَائِمَةً فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَالصَّائِمُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كَانَ يَصُومُ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَكَلَامِ النَّاسِ، فَأُذِنَلِمَرْيَمَفِي قَدْرِ هَذَا الْكَلَامِ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَهِيَ صَائِمَةٌ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} يُكَلِّمُكِ {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} فَكَانَ مَنْ صَامَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يُمْسِيَ، فَقِيلَ لَهَا: لَا تَزِيدِي عَلَى هَذَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ عِيسَى لِأُمِّهِ اطْمَأَنَّتْ نَفْسُهَا، وَسَلَّمَتْ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَحَمَلَتْهُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا. كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ لَا يُتَّهَمُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: أَنْسَاهَا يَعْنَى مَرْيَمَ كَرْبَ الْبَلَاءِ وَخَوْفَ النَّاسِ مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مِنَ الْبِشَارَةِ بِعِيسَى، حَتَّى إِذَا كَلَّمَهَا، يَعْنِي عِيسَى، وَجَاءَهَا مِصْدَاقُ مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَهَا احْتَمَلَتْهُ ثُمَّ أَقْبَلَتْ بِهِ إِلَى قَوْمِهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: لَمَّا وَلَدَتْهُ ذَهَبَ الشَّيْطَانُ، فَأَخْبَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ مَرْيَمَ قَدْ وَلَدَتْ، فَأَقْبَلُوا يَشْتَدُّونَ، فَدَعَوْهَا {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ}. وَقَوْلُهُ {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَمَّا رَأَوْامَرْيَمَ، وَرَأَوْا مَعَهَا الْوَلَدَ الَّذِي وَلَدَتْهُ، قَالُوا لَهَا: يَامَرْيَمُلَقَدْ جِئْتِ بِأَمْرٍ عَجِيبٍ، وَأَحْدَثْتِ حَدَثًا عَظِيمًا. وَكُلُّ عَامِلٍ عَمَلًا أَجَادَهُ وَأَحْسَنَهُ فَقَدْ فَرَاهُ، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ: قَـدْ أَطْعَمَتْنِـي دَقَـلًا حُجْرِيًّـا *** قَـدْ كُـنْتِ تَفْـرِينَ بِـهِ الْفَرِيَّـا وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (فَرِيًّا) قَالَ: عَظِيمًا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} قَالَ: عَظِيمًا. حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} قَالَ: عَظِيمًا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ لَا يُتَّهَمُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: لَمَّا رَأَوْهَا وَرَأَوْهُ مَعَهَا، قَالُوا: يَا مَرْيَمُ {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا}: أَيِ الْفَاحِشَةَ غَيْرَ الْمُقَارَبَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ قِيلَ لَهَا: يَا أُخْتَ هَارُونَ، وَمَنْ كَانَ هَارُونُ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ نَسَبُوامَرْيَمَإِلَى أَنَّهَا أُخْتُهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قِيلَ لَهَا {يَا أُخْتَ هَارُونَ} نِسْبَةً مِنْهُمْ لَهَا إِلَى الصَّلَاحِ، لِأَنَّ أَهْلَ الصَّلَاحِ فِيهِمْ كَانُوا يُسَمَّوْنَ هَارُونَ، وَلَيْسَ بِهَارُونَ أَخِي مُوسَى.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ {يَا أُخْتَ هَارُونَ} قَالَ: كَانَ رَجُلًا صَالِحًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُسَمَّى هَارُونَ، فَشَبَّهُوهَا بِهِ، فَقَالُوا: يَا شَبِيهَةَ هَارُونَ فِي الصَّلَاحِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} قَالَ: كَانَتْ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يُعْرَفُونَ بِالصَّلَاحِ، وَلَا يُعْرَفُونَ بِالْفَسَادِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْرَفُونَ بِالصَّلَاحِ وَيَتَوَالَدُونَ بِهِ، وَآخَرُونَ يُعْرَفُونَ بِالْفَسَادِ وَيَتَوَالَدُونَ بِهِ، وَكَانَ هَارُونُ مُصْلِحًا مُحَبَّبًا فِي عَشِيرَتِهِ، وَلَيْسَ بِهَارُونَ أَخِي مُوسَى، وَلَكِنَّهُ هَارُونُ آخَرُ. قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ شَيَّعَ جِنَازَتَهُ يَوْمَ مَاتَ أَرْبَعُونَ أَلْفًا، كُلُّهُمْ يُسَمَّوْنَ هَارُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي صَدَقَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: نُبِّئْتُ أَنَّ كَعْبًا قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ {يَا أُخْتَ هَارُونَ} لَيْسَ بِهَارُونَ أَخِي مُوسَى، قَالَ: فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَة: كَذِبْتَ، قَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ فَهُوَ أَعْلَمُ وَأَخْبَرُ، وَإِلَّا فَإِنِّي أَجِدُ بَيْنَهُمَا سِتُّ مِائَةِ سَنَةٍ، قَالَ: فَسَكَتَتْ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {يَا أُخْتَ هَارُونَ} قَالَ: اسْمٌ وَاطَأَ اسْمًا، كَمْ بَيْنَ هَارُونَ وَبَيْنَهُمَا مِنَ الْأُمَمِ أُمَمٌ كَثِيرَةٌ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَابْنُ الْمُثَنَّى وَسُفْيَانُ وَابْنُ وَكِيعٍ وَأَبُو السَّائِبِ، قَالُوا: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَوْدِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَذْكُرُ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، «عَنِ الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ نَجْرَانَ، فَقَالُوا لِي: أَلَسْتُمْ تَقْرَءُونَ {يَا أُخْتَ هَارُونَ}؟ قُلْتُ: بَلَى وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا كَانَ بَيْنَ عِيسَى وَمُوسَى، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: "أَلَّا أَخْبَرْتَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمَّوْنَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُم». حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا الْحَكَمُ بْنُ بَشِيرٍ، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، «عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: أَرْسَلَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ حَوَائِجِهِ إِلَى أَهْلِ نَجْرَانَ، فَقَالُوا: أَلَيْسَ نَبِيُّكَ يَزْعُمُ أَنَّ هَارُونَ أَخُو مَرْيَمَ هُوَ أَخُو مُوسَى؟ فَلَمْ أَدْرِ مَا أَرُدُّ عَلَيْهِمْ حَتَّى رَجَعْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: "إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمَّوْنَ بِأَسْمَاءِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُم». وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِهِ هَارُونَ أَخُو مُوسَى، وَنُسِبَتْمَرْيَمُإِلَى أَنَّهَا أُخْتُهُ لِأَنَّهَا مِنْ وَلَدِهِ، يُقَالُ لِلتَّمِيمِيِّ: يَا أَخَا تَمِيمٍ، وَلِلْمُضَرِيِّ: يَا أَخَا مُضَرَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {يَا أُخْتَ هَارُونَ} قَالَ: كَانَتْ مِنْ بَنِي هَارُونَ أَخِي مُوسَى، وَهُوَ كَمَا تَقُولُ: يَا أَخَا بَنِي فُلَانٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ ذَلِكَ رَجُلًا مِنْهُمْ فَاسِقًا مُعْلِنَ الْفِسْقِ، فَنَسَبُوهَا إِلَيْهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَأَنَّهَا نُسِبَتْ إِلَى رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهَا. وَقَوْلُهُ {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ}يَقُولُ: مَا كَانَ أَبُوكِ رَجُلَ سَوْءٍ يَأْتِي الْفَوَاحِشَ {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} يَقُولُ: وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ زَانِيَةً. كَمَا حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} قَالَ: زَانِيَةً. وَقَالَ {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} وَلَمْ يَقِلْ: بِغَيَّةً، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُوصَفُ بِهِ النِّسَاءُ دُونَ الرِّجَالِ، فَجَرَى مَجْرَى امْرَأَةٍ حَائِضٍ وَطَالِقٍ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُشَبِّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: مِلْحَفَةٌ جَدِيدَةٌ وَامْرَأَةٌ قَتِيلٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَمَّا قَالَ قَوْمُهَا ذَلِكَ لَهَا قَالَتْ لَهُمْ مَا أَمَرَهَا عِيسَى بِقِيلِهِ لَهُمْ، ثُمَّ أَشَارَتْ لَهُمْ إِلَى عِيسَى أَنْ كَلِّمُوهُ. كَمَا حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: لَمَّا قَالُوا لَهَا {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} قَالَتْ لَهُمْ مَا أَمَرَهَا اللَّهُ بِهِ، فَلَمَّا أَرَادُوهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْكَلَامِ أَشَارَتْ إِلَيْهِ، إِلَى عِيسَى. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} قَالَ: أَمَرَتْهُمْ بِكَلَامِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ لَا يُتَّهَمُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} يَقُولُ: أَشَارَتْ إِلَيْهِ أَنْ كَلِّمُوهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} أَنْ كَلِّمُوهُ. وَقَوْلُهُ {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، قَالَ قَوْمُهَا لَهَا: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ وُجِدَ فِي الْمَهْدِ؟ وَكَانَ فِي قَوْلِهِ {مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} مَعْنَاهَا التَّمَامُ، لَا الَّتِي تَقْتَضِي الْخَبَرَ، وَذَلِكَ شَبِيهُ الْمَعْنَى بَكَانِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ {هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ: هَلْ أَنَا إِلَّا بَشَرٌ رَسُولٌ؟ وَهَلْ وُجِدْتُ أَوْ بُعِثْتُ؛ وَكَمَا قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى: زَجَـرْتُ عَلَيْـهِ حُـرَّةً أَرْحَبِيَّـةً *** وَقَـدْ كَـانَ لَـوْنُ اللَّيْـلِ مِثْلَ الْأَرَنْدَجِ بِمَعْنَى: وَقَدْ صَارَ أَوْ وُجِدَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ عَنَى بِالْمَهْدِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: حَجْرَ أُمِّهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} وَالْمَهْدُ: الْحَجْرُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْمَهْدِ فِيمَا مَضَى بِشَوَاهِدِهِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَمَّا قَالَ قَوْمُمَرْيَمَلَهَا {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْهَا اسْتِهْزَاءٌ بِهِمْ، قَالَ عِيسَى لَهَا مُتَكَلِّمًا عَنْ أُمِّهِ: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ}. وَكَانُوا حِينَ أَشَارَتْ لَهُمْ إِلَى عِيسَى فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُمْ غَضِبُوا. كَمَا حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: لَمَّا أَشَارَتْ لَهُمْ إِلَى عِيسَى غَضِبُوا، وَقَالُوا: لِسُخْرِيَتِهَا بِنَا حِينَ تَأْمُرُنَا أَنَّ نُكَلِّمَ هَذَا الصَّبِيَّ أَشُدُّ عَلَيْنَا مِنْ زِنَاهَا {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا}. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ لَا يُتَّهَمُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} فَأَجَابَهُمْ عِيسَى عَنْهَا فَقَالَ لَهُمْ {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}... الْآيَةَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} قَالَ لَهُمْ {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا لَأَمْرٌ عَظِيمٌ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} لَمْ يَتَكَلَّمْ عِيسَى إِلَّا عِنْدَ ذَلِكَ حِينَ {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا}. وَقَوْلُهُ {آتَانِيَ الْكِتَابَ} يَقُولُ الْقَائِلُ: أَوَآتَاهُ الْكِتَابَ وَالْوَحْيَ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ؟ فَإِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا يُظَنُّ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: وَقَضَى يَوْمَ قَضَى أُمُورِ خَلْقِهِ إِلَيَّ أَنْ يُؤْتِيَنِي الْكِتَابَ. كَمَا حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ آدَمَ، قَالَ: ثَنَا الضَّحَّاكُ، يَعْنِي ابْنَ مُخَلَّدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ {آتَانِيَ الْكِتَابَ} قَالَ: قَضَى أَنْ يُؤْتِيَنِي الْكِتَابَ فِيمَا مَضَى. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ} قَالَ: الْقَضَاءُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ} قَالَ: قَضَى أَنْ يُؤْتِيَنِي الْكِتَابَ. وَقَوْلُهُ {وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} وَقَدْ بَيَّنْتُ مَعْنَى النَّبِيِّ وَاخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ، وَالصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ عِنْدَنَا بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ فِي مَعْنَى النَّبِيِّ وَحْدَهُ مَا حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: النَّبِيُّ وَحْدَهُ الَّذِي يُكَلَّمُ وَيُنَـزَّلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَلَا يُرْسَلُ. وَقَوْلُهُ {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا} اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: وَجَعَلَنِي نَفَّاعًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَمَّادٍ الطَّلْحِيُ، قَالَ: ثَنَا الْعَلَاءُ، عَنْ عَائِشَة امْرَأَةِ لَيْثٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا} قَالَ: نَفَّاعًا. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَتْ بَرَكَتُهُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ خُنَيْسٍ الْمَخْزُومِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ وُهَيْبَ بْنَ ابْنِ الْوَرْدِ مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ، قَالَ: لَقِيَ عَالِمٌ عَالِمًا لِمَا هُوَ فَوْقَهُ فِي الْعِلْمِ، قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، مَا الَّذِي أُعْلِنُ مِنْ عِلْمِي، قَالَ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِنَّهُ دِينُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ إِلَى عِبَادِهِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى قَوْلِ اللَّهِ: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنْتُ} وَقِيلَ: مَا بَرَكَتُهُ؟ قَالَ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ أَيْنَمَا كَانَ. وَقَالَ آخَرُونَ مَعْنَى ذَلِكَ: جَعَلَنِي مُعَلِّمَ الْخَيْرِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ فِيقَوْلِهِ {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ}قَالَ: مُعَلِّمًا لِلْخَيْرِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} قَالَ: مُعَلِّمًا لِلْخَيْرِ حَيْثُمَا كُنْتُ. وَقَوْلُهُ {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ}يَقُولُ: وَقَضَى أَنْ يُوصِيَنِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، يُعْنَى الْمُحَافَظَةَ عَلَى حُدُودِ الصَّلَاةِ وَإِقَامَتِهَا عَلَى مَا فَرَضَهَا عَلَيَّ. وَفِي الزَّكَاةِ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: زَكَاةُ الْأَمْوَالِ أَنْ يُؤَدِّيَهَا. وَالْآخَرُ: تَطْهِيرُ الْجَسَدِ مِنْ دَنَسِ الذُّنُوبِ؛ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: وَأَوْصَانِي بِتَرْكِ الذُّنُوبِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي. وَقَوْلُهُ {مَا دُمْتُ حَيًّا} يَقُولُ: مَا كُنْتُ حَيًّا فِي الدُّنْيَا مَوْجُودًا، وَهَذَا يُبَيِّنُ عَنْ أَنَّ مَعْنَى الزَّكَاةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: تَطْهِيرُ الْبَدَنِ مِنَ الذُّنُوبِ، لِأَنَّ الَّذِي يُوصَفُ بِهِ عِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ، فَتَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْمَالِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الزَّكَاةُ الَّتِي كَانَتْ فُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةَ بِكُلِّ مَا فَضَلَ عَنْ قُوتِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ وَجْهًا صَحِيحًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ عِيسَى لِلْقَوْمِ: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا وَبَرًّا: أَيْ جَعَلَنِي بَرًّا بِوَالِدَتِي. وَالْبَرُّ هُوَ الْبَارُّ، يُقَالُ: هُوَ بَرٌّ بِوَالِدِهِ، وَبَارٌّ بِهِ، وَبِفَتْحِ الْبَاءِ قَرَأَتْ هَذَا الْحَرْفَ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي نَهْيِكٍ مَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ، عَنْ أَبِي نَهْيِكٍ أَنَّهُ قَرَأَ {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} مِنْ قَوْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ أَبُو نَهْيِكٍ: أَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ، كَمَا أَوْصَانِي بِذَلِكَ. فَكَأَنَّ أَبَا نَهْيِكٍ وَجَّهَ تَأْوِيلِ الْكَلَامِ إِلَى قَوْلِهِ {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} هُوَ مِنْ خَبَرِ عِيسَى، عَنْ وَصِيَّةِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِهِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} مِنْ خَبَرِهِ عَنْ وَصِيَّةِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِذَلِكَ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُ الْبَرِّ بِمَعْنَى عَمَلِ الْوَصِيَّةِ فِيهِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَإِنْ كَانَتَا مَخْفُوضَتَيْنِ فِي اللَّفْظِ، فَإِنَّهُمَا بِمَعْنَى النَّصْبِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِمَا. وَقَوْلُهُ {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} يَقُولُ: وَلَمْ يَجْعَلْنِي مُسْتَكْبِرًا عَلَى اللَّهِ فِيمَا أَمَرَنِي بِهِ، وَنَهَانِي عَنْهُ، شَقِيًّا، وَلَكِنَّ ذَلَّلَنِي لِطَاعَتِهِ، وَجَعَلَنِي مُتَوَاضِعًا. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يَعْنِي عِيسَى، كَانَ يَقُولُ: سَلُونِي، فَإِنَّ قَلْبِي لَيِّنٌ، وَإِنِّي صَغِيرٌ فِي نَفْسِي مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ التَّوَاضُعِ. وَحَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} ذُكِرَ لَنَا أَنَّ امْرَأَةً رَأَتِ ابْنَ مَرْيَمَ يُحَيِي الْمَوْتَى، وَيُبَرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، فِي آيَاتٍ سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَيْهِنَّ، وَأَذِنَ لَهُ فِيهِنَّ، فَقَالَتْ: طُوبَى لِلْبَطْنِ الَّذِي حَمَلَكَ، وَالثَّدْيِ الَّذِي أُرْضِعْتَ بِهِ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ مَرْيَمَ يُجِيبُهَا: طُوبَى لِمَنْ تَلَا كِتَابَ اللَّهِ، وَاتَّبَعَ مَا فِيهِ {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَاقِدٍ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ: لَا تَجِدُ عَاقًّا إِلَّا وَجَدْتَهُ جَبَّارًا شَقِيًّا. ثُمَّ قَرَأَ {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} قَالَ: وَلَا تَجِدُ سَيِّئَ الْمِلْكَةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ مُخْتَالًا فَخُورًا، ثُمَّ قَرَأَ {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}. وَقَوْلُهُ {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا}يَقُولُ: وَالْأَمَنَةُ مِنَ اللَّهِ عَلَيَّ مِنَ الشَّيْطَانِ وَجُنْدِهِ يَوْمَ وَلَّدْتُ أَنْ يَنَالُوا مِنِّي مَا يَنَالُونَ مِمَّنْ يُولَدُ عِنْدَ الْوِلَادَةِ، مِنَ الطَّعْنِ فِيهِ، وَيَوْمَ أَمُوتُ، مِنْ هَوْلِ الْمَطْلَعِ، وَيَوْمَ أَبْعَثُ حَيًّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَنَالَنِي الْفَزَعُ الَّذِي يَنَالُ النَّاسَ بِمُعَايَنَتِهِمْ أَهْوَالَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ لَا يُتَّهَمُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} قَالَ: يُخْبِرُهُمْ فِي قِصَّةِ خَبَرِهِ عَنْ نَفْسِهِ، أَنَّهُ لَا أَبَ لَهُ وَأَنَّهُ سَيَمُوتُ ثُمَّ يُبْعَثُ حَيًّا، يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَذَا الَّذِي بَيَّنْتُ لَكُمْ صِفَتَهُ، وَأَخْبَرْتُكُمْ خَبَرَهُ، مِنْ أَمْرِ الْغُلَامِ الَّذِي حَمَلَتْهُمَرْيَمُ، هُوَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ صِفَتُهُ، وَهَذَا الْخَبَرُ خَبَرُهُ، وَهُوَ {قَوْلَ الْحَقِّ} يَعْنِي أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ الَّذِي قَصَصْتُهُ عَلَيْكُمْ قَوْلُ الْحَقِّ، وَالْكَلَامَ الَّذِي تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ قَوْلُ اللَّهِ وَخَبَرُهُ، لَا خَبَرَ غَيْرَهُ، الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْوَهْمُ وَالشَّكُّ، وَالزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ، عَلَى مَا كَانَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَقُولُوا فِي عِيسَى أَيُّهَا النَّاسُ، هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي أَخْبَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ عَنْهُ، لَا مَا قَالَتْهُ الْيَهُودُ، الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ، وَأَنَّهُ كَانَ سَاحِرًا كَذَّابًا، وَلَا مَا قَالَتْهُ النَّصَارَى، مِنْ أَنَّهُ كَانَ لِلَّهِ وَلَدًا، وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا، وَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ لَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} قَالَ: اللَّهُ الْحَقُّ. حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَسْعُودِيُّ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ فِي هَذَا الْحَرْفِ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: {الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ}، قَالَ: "كَلِمُ اللَّهِ". وَلَوْ وُجِّهَ تَأْوِيلُ ذَلِكَ إِلَى: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الْقَوْلُ الْحَقُّ، بِمَعْنَى ذَلِكَ الْقَوْلُ الْحَقُّ، ثُمَّ حُذِفَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ مِنَ الْقَوْلِ، وَأُضِيفَ إِلَى الْحَقِّ، كَمَا قِيلَ: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} وَكَمَا قِيلَ: {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} كَانَ تَأْوِيلًا صَحِيحًا. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ {قَوْلَ الْحَقِّ} بِرَفْعِ الْقَوْلِ عَلَى مَا وَصَفْتُ مِنَ الْمَعْنَى. وَجَعَلُوهُ فِي إِعْرَابِهِ تَابِعًا لِعِيسَى، كَالنَّعْتِ لَهُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي إِعْرَابِهِ عِنْدِي عَلَى مَا قَالَهُ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُ رُفِعَ عَلَى النَّعْتِ لِعِيسَى، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْقَوْلِ الْكَلِمَةَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ مِنْ تَأْوِيلِهِ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَيَصِحُّ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِعِيسَى، وَإِلَّا فَرَفْعُهُ عِنْدِي بِمُضْمَرٍ، وَهُوَ هَذَا قَوْلُ الْحَقِّ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَبَرَ قَدْ تَنَاهَى عَنْ قِصَّةِ عِيسَى وَأُمِّهِ عِنْدَ قَوْلِهِ {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} ثُمَّ ابْتَدَأَ الْخَبَرَ بِأَنَّ الْحَقَّ فِيمَا فِيهِ تَمْتَرِي الْأُمَمُ مِنْ أَمْرِ عِيسَى، هُوَ هَذَا الْقَوْلُ، الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْهُ عِبَادَهُ، دُونَ غَيْرِهِ، وَقَدْ قَرَأَ ذَلِكَ عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ بِالنَّصْبِ، وَكَأَنَّهُمَا أَرَادَا بِذَلِكَ الْمَصْدَرِ: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلًا حَقًّا، ثُمَّ أُدْخِلَتْ فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، وَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قِرَاءَتِهِ "ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَالُ الْحَق" فَإِنَّهُ بِمَعْنَى قَوْلِ الْحَقِّ، مِثْلُ الْعَابِ وَالْعَيْبِ، وَالذَّامُ وَالذَّيْمِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا: الرَّفْعُ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} فَإِنَّهُ يَعْنِي: الَّذِي فِيهِ يَخْتَصِمُونَ وَيَخْتَلِفُونَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَارَيْتُ فُلَانًا: إِذَا جَادَلْتُهُ وَخَاصَمْتُهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} امْتَرَتْ فِيهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؛ فَأَمَّا الْيَهُودُ فَزَعَمُوا أَنَّهُ سَاحِرٌ كَذَّابٌ؛ وَأَمَّا النَّصَارَى فَزَعَمُوا أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، وَثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَإِلَهٌ، وَكَذَّبُوا كُلُّهُمْ، وَلَكِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ وَرُوحُهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ {الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} قَالَ: اخْتَلَفُوا؛ فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَنَبِيُهُ، فَآمَنُوا بِهِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ هُوَ اللَّهُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ ابْنُ اللَّهِ. تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} وَالَّتِي فِي الزُّخْرُفِ، قَالَ دِقْيُوسُ وَنُسطُورٌ وَمَارِ يَعْقُوبَ، قَالَ أَحَدُهُمْ حِينَ رَفَعَ اللَّهُ عِيسَى: هُوَ اللَّهُ، وَقَالَ الْآخَرُ: ابْنُ اللَّهِ، وَقَالَ الْآخَرُ: كَلِمَةُ اللَّهِ وَعَبْدُهُ، فَقَالَ الْمُفْتَرِيَانِ: إِنَّ قُولِي هُوَ أَشْبَهُ بِقَوْلِكَ، وَقَوْلَكَ بِقَوْلِي مِنْ قَوْلِ هَذَا، فَهَلُمَّ فَلْنُقَاتِلْهُمْ، فَقَاتَلُوهُمْ وَأَوْطَئُوهُمْ إِسْرَائِيلَ، فَأَخْرَجُوا مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ، أَخْرَجَ كُلُّ قَوْمٍ عَالِمَهُمْ، فَامْتَرَوْا فِي عِيسَى حِينَ رُفِعَ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: هُوَ اللَّهُ هَبَطَ إِلَى الْأَرْضِ وَأَحْيَا مَنْ أَحْيَا، وَأَمَاتَ مَنْ أَمَاتَ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ، وَهُمُ النُسْطُورِيَّةُ، فَقَالَ الِاثْنَانِ: كَذِبْتَ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُ الِاثْنَيْنِ لِلْآخَرِ: قُلْ فِيهِ، قَالَ: هُوَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ: اللَّهُ إِلَهٌ، وَهُوَ إِلَهٌ، وَأُمُّهُ إِلَهٌ، وَهُمُ الْإِسْرَائِيلِيَّةُ مُلُوكُ النَّصَارَى؛ قَالَ الرَّابِعُ: كَذِبْتَ، هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ، وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَكَانَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَتْبَاعٌ عَلَى مَا قَالَ، فَاقْتَتَلُوا، فَظُهِرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} قَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ} اخْتَلَفُوا فِيهِ فَصَارُوا أَحْزَابًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَقَدْ كَفَرَتِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ عِيسَى ابْنُ اللَّهِ، وَأَعْظَمُوا الْفِرْيَةَ عَلَيْهِ، فَمَا يَنْبَغِي لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا، وَلَا يَصْلُحُ ذَلِكَ لَهُ وَلَا يَكُونُ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ دُونَهُ فَخَلَقَهُ، وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِ عَمْرِو بْنِ أَحْمَرَ: فِـي رَأْسِ خَلْقَـاءَ مِـنْ عَنْقَاءَ مُشْرِفَةٍ *** لَا يُبْتَغَـى دُونَهَـا سَـهْلٌ وَلَا جَـبَلُ وَأَنَّ مِنْ قَوْلِهِ {أَنْ يَتَّخِذَ} فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بَكَانِ. وَقَوْلُهُ: (سُبْحَانَهُ) يَقُولُ: تَنْـزِيهًا لِلَّهِ وَتَبْرِئَةً لَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَا أَضَافَ إِلَيْهِ الْكَافِرُونَ الْقَائِلُونَ: عِيسَى ابْنُ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: إِنَّمَا ابْتَدَأَ اللَّهُ خَلْقَ عِيسَى ابْتِدَاءً، وَأَنْشَأَهُ إِنْشَاءً مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ افْتَحَلَ أُمَّهُ، وَلَكِنَّهُ قَالَ لَهُ {كُنْ فَيَكُونُ} لِأَنَّهُ كَذَلِكَ يَبْتَدِعُ الْأَشْيَاءَ وَيَخْتَرِعُهَا، إِنَّمَا يَقُولُ، إِذَا قَضَى خَلْقَ شَيْءٍ أَوْ إِنْشَاءَهُ: كُنْ فَيَكُونُ مَوْجُودًا حَادِثًا، لَا يَعْظُمُ عَلَيْهِ خَلْقُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُقُهُ بِمُعَانَاةٍ وَكُلْفَةٍ، وَلَا يُنْشِئُهُ بِمُعَالَجَةٍ وَشِدَّةٍ. وَقَوْلُهُ {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ "وَأَنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبّكُم" وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ فَتْحِ "أَنَّ" إِذَا فُتِحَتْ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ: فُتِحَتْ رَدًّا عَلَى عِيسَى وَعَطْفًا عَلَيْهِ، بِمَعْنَى: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَتْ أَنَّ رَفْعًا، وَتَكُونُ بِتَأْوِيلِ خَفْضٍ، كَمَا قَالَ {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} قَالَ: وَلَوْ فُتِحَتْ عَلَى قَوْلِهِ (وَأَوْصَانِي) بِأَنَّ اللَّهَ، كَانَ وَجْهًا. وَكَانَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ يَقُولُ: وَذُكِرَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، وَكَانَ مِمَّنْ يَقْرَؤُهُ بِالْفَتْحِ إِنَّمَا فُتِحَتْ أَنَّ بِتَأْوِيلِ (وَقَضَى) أَنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ. وَكَانَتْ عَامَّةَ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ يَقْرَءُونَهُ {وَإِنَّ اللَّهَ} بِكَسْرِ إِنَّ بِمَعْنَى النَّسَقِ عَلَى قَوْلِهِ {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ}. وَذُكِرَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهُ " فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ" بِغَيْرِ وَاوٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي نَخْتَارُ فِي ذَلِكَ: الْكَسْرُ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَإِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَوْضِعٌ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى "إِنَّ" الَّتِي مَعَ قَوْلِهِ {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ} {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ، مِمَّنْ قَرَأَ ذَلِكَ نَصْبًا: نَصَبَ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى الْكِتَابِ، بِمَعْنَى: آتَانِيَ الْكِتَابَ، وَأَتَانِي أَنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ، كَانَ وَجْهًا حَسَنًا. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَإِنِّي وَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ جَمِيعًا لِلَّهِ عَبِيدٌ، فَإِيَّاهُ فَاعْبُدُوا دُونَ غَيْرِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ لَا يُتَّهَمُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: عُهِدَ إِلَيْهِمْ حِينَ أَخْبَرَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ وَمَوْلِدِهِ وَمَوْتِهِ وَبَعْثِهِ {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أَيْ إِنِّي وَإِيَّاكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ، فَاعْبُدُوهُ وَلَا تَعْبُدُوا غَيْرَهُ. وَقَوْلُهُ {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} يَقُولُ: هَذَا الَّذِي أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ، وَأَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِهِ هُوَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ، الَّذِي مَنْ سَلَكَهُ نَجَا، وَمَنْ رَكِبَهُ اهْتَدَى، لِأَنَّهُ دِينُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَاخْتَلَفَ الْمُخْتَلِفُونَ فِي عِيسَى، فَصَارُوا أَحْزَابًا مُتَفَرِّقِينَ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنِي الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} قَالَ: أَهْلُ الْكِتَابِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} ذُكِرَ لَنَا أَنَّ لَمَّا رُفِعَ ابْنُ مَرْيَمَ، انْتَخَبَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَرْبَعَةً مِنْ فُقَهَائِهِمْ، فَقَالُوا لِلْأَوَّلِ: مَا تَقَولُ فِي عِيسَى؟ قَالَ: هُوَ اللَّهُ هَبَطَ إِلَى الْأَرْضِ، فَخَلَقَ مَا خَلَقَ، وَأَحْيَا مَا أَحْيَا، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ، فَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ نَاسٌ مِنَ النَّاسِ، فَكَانَتِ الْيَعْقُوبِيَّةُ مِنَ النَّصَارَى؛ وَقَالَ الثَّلَاثَةُ الْآخَرُونَ: نَشْهَدُ أَنَّكَ كَاذِبٌ، فَقَالُوا لِلثَّانِي: مَا تَقَولُ فِي عِيسَى؟ قَالَ: هُوَ ابْنُ اللَّهِ، فَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ نَاسٌ مِنَ النَّاسِ، فَكَانَتِ النَّسْطُورِيَّةُ مِنَ النَّصَارَى؛ وَقَالَ الِاثْنَانِ الْآخَرَانِ: نَشْهَدُ أَنَّكَ كَاذِبٌ، فَقَالُوا لِلثَّالِثِ: مَا تَقَولُ فِي عِيسَى؟ قَالَ: هُوَ إِلَهٌ، وَأُمُّهُ إِلَهٌ، وَاللَّهُ إِلَهٌ، فَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ نَاسٌ مِنَ النَّاسِ، فَكَانَتِ الْإِسْرَائِيلِيَّةُ مِنَ النَّصَارَى، فَقَالَ الرَّابِعُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ كَاذِبٌ، وَلَكِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، هُوَ كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحُهُ؛ فَاخْتَصَمَ الْقَوْمُ، فَقَالَ الْمَرْءُ الْمُسْلِم: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ مَا تَعْلَمُونَ أَنَّ عِيسَى كَانَ يَطْعَمُ الطَّعَامَ، وَأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: لَا يُطْعَمُ الطَّعَامَ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عِيسَى كَانَ يَنَامُ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ فَخَصَمَهُمُ الْمُسْلِمُ؛ قَالَ: فَاقْتَتَلَ الْقَوْمُ. قَالَ: فَذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْيَعْقُوبِيَّةَ ظَهَرَتْ يَوْمئِذٍ وَأُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْقُرْآنَ {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} اخْتَلَفُوا فِيهِ فَصَارُوا أَحْزَابًا. وَقَوْلُهُ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يَقُولُ: فَوَادِي جَهَنَّمَ الَّذِي يُدْعَى وَيْلًا لِلَّذِينِ كَفَرُوا بِاللَّهِ، مِنَ الزَّاعِمِينَ أَنَّ عِيسَى لِلَّهِ وَلَدٌ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ مِنْ شُهُودِهِمْ يَوْمًا عَظِيمًا شَأْنُهُ، وَذَلِكَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ اللَّهُ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} شَهِدُوا هَوْلًا إِذَا عَظِيمًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْحَالِ الْكَافِرِينَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِهِ، الْجَاعِلِينَ لَهُ أَنْدَادًا، وَالزَّاعِمِينَ أَنَّ لَهُ وَلَدًا يَوْمَ وُرُودِهِمْ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ: لَئِنْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا عُمْيًا عَنْ إِبْصَارِ الْحَقِّ، وَالنَّظَرِ إِلَى حُجَجِ اللَّهِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، صُمًّا عَنْ سَمَاعِ آيِ كِتَابِهِ، وَمَا دَعَتْهُمْ إِلَيْهِ رُسُلُ اللَّهِ فِيهَا مِنَ الْإِقْرَارِ بِتَوْحِيدِهِ، وَمَا بَعَثَ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ، فَمَا أَسْمَعَهُمْ يَوْمَ قُدُومِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَأَبْصَرَهُمْ يَوْمئِذٍ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ الْإِبْصَارُ وَالسَّمَاعُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} ذَاكَ وَاللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، سَمِعُوا حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ السَّمْعُ، وَأَبْصَرُوا حِيَنَ لَا يَنْفَعُهُمُ الْبَصَرُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} قَالَ: أَسْمِعْ بِقَوْمٍ وَأَبْصِرْهُمْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} يَوْمَ الْقِيَامَةِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: (أَسْمِعْ) بِحَدِيثِهِمُ الْيَوْمَ (وَأَبْصِرْ) كَيْفَ يُصْنَعُ بِهِمْ {يَوْمَ يَأْتُونَنَا}. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِيقَوْلِهِ {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} قَالَ: هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَمَّا الدُّنْيَا فَلَا، كَانَتْ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ، وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ فِي الدُّنْيَا؛ فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَبْصَرُوا وَسَمِعُوا فَلَمْ يَنْتَفِعُوا، وَقَرَأَ {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ}. وَقَوْلُهُ {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَكِنِ الْكَافِرُونَ الَّذِينَ أَضَافُوا إِلَيْهِ مَا لَيْسَ مَنْ صِفَتِهِ، وَافْتَرَوْا عَلَيْهِ الْكَذِبَ الْيَوْمَ فِي الدُّنْيَا، فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ: يَقُولُ: فِي ذَهَابٍ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ، وَأَخْذٍ عَلَى غَيْرِ اسْتِقَامَةٍ، مُبَيِّنٌ أَنَّهُ جَائِرٌ عَنْ طَرِيقِ الرُّشْدِ وَالْهُدَى، لِمَنْ تَأَمَّلَهُ وَفَكَّرَ فِيهِ، فَهُدِيَ لِرُشْدِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنْذَرَ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ يَوْمَ حَسْرَتِهِمْ وَنَدَمِهِمْ، عَلَى مَا فَرَّطُوا فِي جَنْبِ اللَّهِ، وَأَوْرَثْتُ مَسَاكِنَهَمْ مِنَ الْجَنَّةِ أَهْلَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالطَّاعَةِ لَهُ، وَأَدْخَلُوهُمْ مَسَاكِنَ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ، وَأَيْقَنَ الْفَرِيقَانِ بِالْخُلُودِ الدَّائِمِ، وَالْحَيَاةِ الَّتِي لَا مَوْتَ بَعْدَهَا، فَيَا لَهَا حَسْرَةً وَنَدَامَةً. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنَ كُهَيلٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو الزَّعْرَاءِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي قِصَّةٍ ذِكْرِهَا، قَالَ: " مَا مِنْ نَفْسٍ إِلَّا وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَى بَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ، وَبَيْتٍ فِي النَّارِ، وَهُوَ يَوْمُ الْحَسْرَةِ، فَيَرَى أَهْلُ النَّارِ الْبَيْتَ الَّذِي كَانَ قَدْ أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُمْ لَوْ آمَنُوا، فَيُقَالُ لَهُمْ: لَوْ آمَنْتُمْ وَعَمِلْتُمْ صَالِحًا كَانَ لَكُمْ هَذَا الَّذِي تَرَوْنَهُ فِي الْجَنَّةِ، فَتَأْخُذُهُمُ الْحَسْرَةُ، وَيَرَى أَهْلُ الْجَنَّةِ الْبَيْتَ الَّذِي فِي النَّارِ، فَيُقَالُ: لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ". حَدَّثَنَا أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «"يُجَاءُ بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ، قَالَ: فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَشْرئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَشْرئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ , هَذَا الْمَوْتُ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ، قَالَ: فَيَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وَأَشَارَ بِيَدِهِ فِي الدُّنْيَا». حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ أَسْبَاطِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فِي هَذِهِ الْآيَةِ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} قَالَ: "يُنَادَى: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُونَ، فَيَنْظُرُونَ، ثُمَّ يُنَادَى: يَا أَهْلَ النَّارِ فَيَشْرَئِبُّونَ فَيَنْظُرُونَ، فَيُقَالُ: هَلْ تَعْرِفُونَ الْمَوْتَ؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لَا قَالَ: فَيُجَاءُ بِالْمَوْتِ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُقَالُ: هَذَا الْمَوْتُ، ثُمَّ يُؤْخَذُ فَيُذْبَحُ، قَالَ: ثُمَّ يُنَادِي يَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ"، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ}». حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} قَالَ: يُصَوِّرُ اللَّهُ الْمَوْتَ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيَذْبَحُ، قَالَ: فَيَيْأَسُ أَهْلُ النَّارِ مِنَ الْمَوْتِ، فَلَا يَرْجُونَهُ، فَتَأْخُذُهُمُ الْحَسْرَةُ مِنْ أَجْلِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَفِيهَا أَيْضًا الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ، وَيَأْمُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْمَوْتَ، فَلَا يَخْشَوْنَهُ، وَأَمِنُوا الْمَوْتَ، وَهُوَ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ، لِأَنَّهُمْ يَخْلُدُونَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يَحْشُرُ أَهْلُ النَّارِ حِينَ يُذْبَحُ الْمَوْتُ وَالْفَرِيقَانِ يَنْظُرُونَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ {إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} قَالَ: ذَبْحُ الْمَوْتِ {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ ثَنْي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ فِي قَصَصِهِ يَقُولُ: يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَأَنَّهُ دَابَّةٌ، فَيُذْبَحُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَرَأَ {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}. حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، عَظَّمَهُ اللَّهُ، وَحَذَّرَهُ عِبَادَهُ. وَقَوْلُهُ {إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} يَقُولُ: إِذْ فَرَغَ مِنَ الْحُكْمِ لِأَهْلِ النَّارِ بِالْخُلُودِ فِيهَا، وَلِأَهْلِ الْجَنَّةِ بِمَقَامِ الْأَبَدِ فِيهَا، بِذَبْحِ الْمَوْتِ. وَقَوْلُهُ {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} يَقُولُ: وَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ فِي غَفْلَةٍ عَمَّا اللَّهُ فَاعِلٌ بِهِمْ يَوْمَ يَأْتُونَهُ خَارِجِينَ إِلَيْهِ مِنْ قُبُورِهِمْ، مِنْ تَخْلِيدِهِ إِيَّاهُمْ فِي جَهَنَّمَ، وَتَوْرِيثِهِ مَسَاكِنَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غَيْرَهُمْ {وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ بِالْقِيَامَةِ وَالْبَعْثِ، وَمُجَازَاةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى سَيِّئِ أَعْمَالِهِمْ، بِمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ مُجَازِيهِمْ بِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يُحْزِنُكَ تَكْذِيبُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ فِيمَا أَتَيْتَهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، فَإِنَّ إِلَيْنَا مَرْجِعَهُمْ وَمَصِيرَهُمْ وَمَصِيرَ جَمِيعِ الْخَلْقِ غَيْرِهِمْ، وَنَحْنُ وَارِثُو الْأَرْضِ وَمَنْ عَلَيْهَا مِنَ النَّاسِ، بِفَنَائِهِمْ مِنْهَا، وَبَقَائِهَا لَا مَالِكَ لَهَا غَيْرنَا، ثُمَّ عَلَيْنَا جَزَاءُ كُلِّ عَامِلٍ مِنْهُمْ بِعَمَلِهِ، عِنْدَ مَرْجِعِهِ إِلَيْنَا، الْمُحْسِنِ مِنْهُمْ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءِ بِإِسَاءَتِهِ.
|