الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
نقول: إن الحق سبحانه وتعالى حينما قال: {اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} ثم قوله: {عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: رجاء أن يتوب عليهم، وهذه مقدمات توبة وليست توبة، فإن صاحبها الندم على ما مضى، والإصرار على عدم العودة في المستقبل فيُنظر هل هذا كان منه مخافة أن يُفضح أم موافقة لمنهج الله؟إن كان الأمر موافقة لمنهج الله فتكون التوبة مرجوَّة لهم.وكلمة {خَلَطُواْ} تؤدي معنى جمع شيئين كانا متفرقين، وجمع الشيئين أو الأشياء التي كانت متفرقة له صورتان؛ الصورة الأولى: أن يجمعهم على هيئة الافتراق، كأن تأتي بالأشياء التي لا تمتزج ببعضها مثل: الحمص واللب والفول، وتخلط بعضها ببعض في وعاء واحد، لكن يظل كل منها على هيئة الانفصال، فأنت لم تدخل حبة اللب في حبة الحمص، ولم يتكون منهما شيء واحد؛ لأنه لو حدث هذا لصار مزيجًا لا خلطًا، مثلما تخلط الشاي باللبن؛ لأنك بعد أن تجمعهما يصيران شيئًا واحدًا، بحيث لا تستطيع أن تفصل هذا عن ذاك.إذن: فهم حين خطلوا العمل الصالح والعمل السَّيِّئ، لم يجعلوا من العمل الصالح والعمل السَّيِّئ مزيجًا واحدًا.لكن العمل الصالح ظل صالحًا، والعمل الفاسد ظل فاسدًا.وقوله سبحانه: {عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} كلمة {عَسَى} معناها الرجاء وهو ترجيح حصول الخير. وهو لون من توقع حصول شيء محبوب. والرجاء يخالف التمني؛ لأن التمني هو أن تحب شيئًا وتتمنى أن يكون موجودًا، لكنه لا يأتي أبدًا، مثل قول الشاعر:
إنه قد تمنى أن يعود شبابه، وهذا دليل على أن فترة الشباب محبوبة، لكن ذلك لا يحدث. إذن: فإظهار الشيء المحبوب له لونان: لون يتأتى، ولون لا يتأتى، فالذي يتأتى اسمه (رجاء)، والذي لا يتأتى نسميه (التمني)، مثل قول الشاعر: فالشاعر يتمنى حدوث ذلك، ولكنه لن يحدث. أما الرجاء فهو أمل يمكن أن يحدث، والرجاء له منازل ومراحل بالنسبة للنفس الإنسانية. فأنت عندما ترجو لواحد شيئًا فتقول: عسى فلان أن يمنحك كذا، فأنت مُترَجٍّ، وهناك مترجّىً له، هو من تخاطبه، ومترجّىً منه، وهو من يعطي، فهذه ثلاثة عناصر.لكن ألك ولاية على من يمنح؟ لا، لكن إن قلت: عسى أن أمنحك أنا كذا، فأنت ترجو لواحد غيرك أن تمنحه أنت، وهذا أرجى أن يتحقق. وحين تقول: عسى أن أمنحك فقد تقولها في لحظة إرضاء للذي تتحدث معه. ثم قد يبلغك عنه شيء يغير من نفسك، أو جئت؛ لتعطيه، فلم تجد ما تعطيه له، هنا لم يتحقق الرجاء.لكن عندما تقول: عسى الله أن يمنحك، فأنت ترجو له من الله، وهو القادر على كل شيء ولا تؤثِّر فيه أغيار، أما إذا قال الله عن نفسه: عسى الله أن يفعل، فهذا أقوى وسائل الرجاء.إذن: فنحن أمام أربع وسائل للرجاء. أن تقول: عسى فلان أن يمنحك أو أن تقول: عسى أن أمنحك أنا، أو تقول: عسى الله أن يمنحك وقد يجيبني الله، أو لا يجيب دعائي، لكن حين يقول الحق: عسى أن أفعل فهذا هو اللون الرابع من ألوان الرجاء، وقالوا: الرجاء من الله إيجاب.{عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}، فهذا رجاء أن يتوب الله عليهم، أما توبة العبد فمسألة تقتضي الندم على ما فات، والرجوع إلى منهج الله، والعزم ألا يغضب الله في المستقبل. أما توبة الله فهي تضم أنواع التوبة، فتشريع الله للتوبة رحمة بمن ارتكب الذنب، ورحمة بالناس الذين وقع عليهم السلوك الذي استوجب التوبة. فإن تُبْتُ؛ فقبول التوبة رحمة ثانية، فلو لم يشرع الله التوبة لاستشرى كل من ارتكب ذنبًا واصطلى المجتمع بشروره. لكن حين يشرع الله التوبة؛ فهناك أمل أن يرجع العبد إلى الله، ويتخلص المجتمع من إمكانية عودته للذنب، وانتهى هو من أن يوقع مصائب بغيره.فإذا قَبِلَ الله التوبة، يقال: تاب الله على فلان، فلله إذن أكثر من توبة، ولذلك حين تقرأ قول الحق: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا...} [التوبة: 118].أي: شرع لهم التوبة؛ ليتوبوا، فإذا تابوا فسبحانه قابل التوب. إذن: فالتوبة ثلاث مراحل: تشريع للتوبة، ثم توبة واقعة، فقبول للتوبة. والتوبة رجوع عن شيء، وهي بالنسبة للعبد رجوع عن ذنب، وبالنسبة لله إن كان الذنب يستحق أن يعاقب الله به، فإذا تبت أنت، فالحق يعفو ويرجع عن العقوبة.ويُنهي الحق الآية: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}؛ لأن المغفرة بالنسبة للعبد صعبة، فإن سرق واحد منك شيئًا فهو يضرك، ويلحّ عليك حب الانتقام منه؛ لأن الضرر أتعبك، لكن أيُتْعبُ أحد ربه بالمعصية؟ لا؛ لأنك إن كنت قد أضررت بأحد فإنما أضررت بنفسك، ولم تضر الله سبحانه؛ لأنه سبحانه لا يلحقه ضرر بذنبك، وإنما الذنب لحقك أنت.فحين يقول سبحانه: {غَفُورٌ} فهو غفور لك، و{رَّحِيمٌ} بك. والمصائب أو الكوارث نوعان؛ نوه للإنسان فيه غريم، ونوع يصيب الإنسان ولا غريم له. فإن مرض إنسان فليس له غريم في المرض، أما إذا سرق إنسان فاللص هو غريمه، ومصيبة الإنسان التي فيها غريم تدفع النفس إلى الانفعال برد العقوبة إليه، أما حين تكون المصيبة من غير غريم هي التي تحتاج لشدة إيمان، والحق يقول: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43].هنا يؤكدها؛ لأن غريمه يلح عليه، فساعة يراه يتذكر ما فعله غريمه به، فتكون هناك إهاجة على الشر.أما قوله سبحانه: {واصبر على مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} [لقمان: 17].فلم يؤكدها، فالمصيبة هنا من سيكون غريمه فيها؟ والذين اعترفوا بذنوبهم هم قوم تخلفوا بغير عذر، ثم جاءوا وقالوا: ليس لنا عذر، ولم يختلقوا أعذارًا؛ لأننا نعلم أن هناك أناسًا لم يعتذروا، وأناسًا آخرين اعتذروا بأعذار صادقة، وآخرين اعتذروا باعتذارات كاذبة، وهم قد {اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} أي: أعلنوا أن اعتذاراتهم عن الغزوة لم تكن حقيقية وأنه لم يكن عندهم ما يبرر تخلفهم عن الغزو؛ فهؤلاء تاب الله عليهم في نفوسهم أولًا، ورسول الله لا يزال في الغزوة في تبوك التي تخلفوا عنها.ثم عاد الرسول من الغزوة، ودخل المسجد كعادته حين يرجع إلى المدينة، وأول عمل كان يعمله بعد العودة هو أن يدخل المسجد، ويصلي فيه ركعتين. فوجد أناسًا قد ربطوا أنفسهم بسواري المسجد وهي الأعمدة فسأل عن هؤلاء، فقالوا: هؤلاء قوم تخلفوا وكانت أعذارهم كاذبة كلنهم اعترفوا بذنوبهم، وقد عاهدوا الله ألا يحلوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تحلهم وترضى عنهم فقال صلى الله عليه وسلم: «وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أؤمر بإطلاقهم؛ رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين».فلما أنزل الله هذه الآية حلهم رسول الله ومنهم: أبو لبابة.ولذلك من يذهب ليزور المدينة إن شاء الله، سيجد أسطوانة اسمها أسطوانة أبي لبابة وهو أول من ربط نفسه على الساري، وقلده الآخرون. وهذا يدلك على أن المؤمن حين تختمر في نفسه قضايا الإيمان فهو لا ينتظر أن يعاقب من الله، بل يبادر هو إلى أن يعاقب نفسه.ومثال ذلك: المرأة التي زنت، والرجل الذي زنا، واعترفا لرسول الله ليرجمهما، ومعنى ذلك أنهما لم ينتظرا حتى يعذبهما الله، بل ذهب كل منهما بنفسه. ولذلك حين جاء سيدنا عمر، وكاد أن يركل جثة أحدهما قال الرسول: «دعها يا عمر فقد تابت توبة لو وزعت على أهل الأرض لوسعتهم».وكون أبي لبابة يربط نفسه بالسارية، فهذا يدل على أن المؤمن إذا اختمرت في نفسه قضية الإيمان، فإنه لا يترك نفسه إلى أن يلقاه الله بعذابه، بل يقول: لا، أنا أعذب نفسي كي أنجو من عذاب الله، فهو قد تيقن أن هناك عذابًا في الآخرة أقسى من هذا العذاب. فلما اعترفوا بذنوبهم وراجعوا أنفسهم متسائلين: ما الذي شغلنا عن الغزو، وجعلنا نعتذر بالكذب؟ وجدوا أنهم في أثناء غزوة تبوك وقد كانت في الحر، وفيه كانت تطيب جلسات العرب تحت الظلال وأن يأكلوا من التمر. فقالوا: والله، إن المال هو الذي شغلنا عن الغزو وجعلنا نرتكب هذا الذنب، ولابد أن نتصدق به؛ لذلك قلنا: إن هذه لم تكن الصدقة الواجبة، بل هي صدقة الكفارة.وهؤلاء قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: خذ هذا المال الذي شغلنا عن الجهاد، فلم يقبل حتى ينزل قول من الله، فأنزل الحق قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً...}. اهـ. .قال صاحب المنار في الآيات السابقة: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ}.هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي بَيَانِ حَالِ الْأَعْرَابِ مُنَافِقِيهِمْ وَمُؤْمِنِيهِمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا قَدْ نَزَلَتْ هِيَ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى آخِرِ السُّورَةِ بَعْدَ وُصُولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَهِيَ بَدْءُ سِيَاقٍ جَدِيدٍ فِي تَفْصِيلِ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ، بُدِئَ بِذِكْرِ الْأَعْرَابِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ لِمُنَاسَبَةِ مَا قَبْلَهُ وَفَصْلٍ عَنْهُ لِأَنَّهُ سِيَاقٌ جَدِيدٌ مَعَ مَا بَعْدَهُ.{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ} بَيَانٌ مُسْتَأْنِفٌ لِحَالِ سُكَّانِ الْبَادِيَةِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ فِي مُنَافِقِي الْحَضَرِ مِنْ سُكَّانِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْقُرَى. فَالْأَعْرَابُ اسْمُ جِنْسٍ لِبَدْوِ الْعَرَبِ، وَاحِدُهُ أَعْرَابِيٌّ، وَالْأُنْثَى أَعْرَابِيَّةٌ، وَالْجَمْعُ أَعَارِيبُ أَوِ الْعَرَبُ اسْمُ جِنْسٍ لِهَذَا الْجِيلِ الَّذِي يَنْطِقُ بِهَذِهِ اللُّغَةِ، بَدْوِهِ وَحَضَرِهِ، وَاحِدُهُ عَرَبِيٌّ. وَقَدْ وَصَفَ الْأَعْرَابَ بِأَمْرَيْنِ اقْتَضَتْهُمَا طَبِيعَةُ الْبَدَاوَةِ:(الْأَوَّلُ) أَنَّ كُفَّارَهُمْ وَمُنَافِقِيهِمْ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا مِنْ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَضَرِ. وَلاسيما الَّذِينَ يُقِيمُونَ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ نَفْسِهَا- لِأَنَّهُمْ أَغْلَظُ طِبَاعًا، وَأَقْسَى قُلُوبًا وَأَقَلُّ ذَوْقًا وَآدَابًا- كَدَأْبِ أَمْثَالِهِمْ مِنْ بَدْوِ سَائِرِ الْأُمَمِ- بِمَا يَقْضُونَ جُلَّ أَعْمَارِهِمْ فِي رَعْيِ الْأَنْعَامِ وَحِمَايَتِهَا مِنْ ضَوَارِي الْوُحُوشِ وَمِنْ تَعَدِّي أَمْثَالِهِمْ عَلَيْهَا وَعَلَى نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، فَهُمْ مَحْرُومُونَ مِنْ وَسَائِلِ الْعُلُومِ الْكَسْبِيَّةِ، وَالْآدَابِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ.(الثَّانِي) أَنَّهُمْ أَجْدَرُ: أَيْ أَحَقُّ وَأَخْلَقُ مِنْ أَهْلِ الْحَضَرِ بِأَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فِي كِتَابِهِ وَمَا آتَاهُ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي بَيَّنَ بِهَا تِلْكَ الْحُدُودَ بِسُنَنِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَفَهْمُ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ اللُّغَوِيَّةِ لَا يَكْفِي فِي عِلْمِ حُدُودِهِ الْعَمَلِيَّةِ. كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى يَتَلَقَّوْنَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم كُلَّ مَا يَنْزِلُ مِنَ الْقُرْآنِ وَقْتَ نُزُولِهِ، وَيَشْهَدُونَ سُنَّتَهُ فِي الْعَمَلِ بِهِ، وَكَانَ يُرْسِلُ الْعُمَّالَ إِلَى الْبِلَادِ الْمَفْتُوحَةِ يُقِيمُونَ فِيهَا وَيُبَلِّغُونَ الْقُرْآنَ، وَيَحْكُمُونَ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ وَبِالسُّنَّةِ الْمُبَيِّنَةِ لَهُ فَيَعْرِفُ أَهْلُهَا تِلْكَ الْحُدُودَ الَّتِي حَدَّهَا اللهُ تَعَالَى وَنَهَاهُمْ أَنْ يَعْتَدُّوهَا. وَلَمْ يَكُنْ هَذَا كُلُّهُ مَيْسُورًا لِأَهْلِ الْبَوَادِي، وَهُمْ مَأْمُورُونَ بِالْهِجْرَةِ؛ لِأَجْلِ الْعِلْمِ وَالنُّصْرَةِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ عِلْمٍ وَحَضَارَةٍ.فَالْأَعْرَابُ أَجْدَرُ بِالْجَهْلِ مِنَ الْحَضَرِ بِطَبِيعَةِ الْبَدَاوَةِ لَا بِضَعْفِ أَفْهَامِهِمْ، أَوْ بَلَادَةِ أَذْهَانِهِمْ أَوْ ضِيقِ نِطَاقِ بَيَانِهِمْ، فَقَدْ كَانُوا مَضْرِبَ الْأَمْثَالِ فِي قُوَّةِ الْجَنَانِ، وَلَوْذَعِيَّةِ الْأَذْهَانِ، وَذَرَابَةِ اللِّسَانِ وَسَعَةِ بَيْدَاءِ الْبَيَانِ، وَعَنْهُمْ أَخَذَ رُوَاةُ الْعَرَبِيَّةِ أَكْثَرَ مُفْرَدَاتِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَسَالِيبِهَا.وَالْجَدَارَةُ بِالشَّيْءِ قَدْ تَكُونُ طَبْعِيَّةً، وَقَدْ تَكُونُ بِأَسْبَابٍ كَسْبِيَّةٍ، مِنْ فَنِّيَّةٍ وَشَرْعِيَّةٍ وَأَدَبِيَّةٍ، وَقَدْ تَكُونُ بِأَسْبَابٍ سَلْبِيَّةٍ اقْتَضَتْهَا حَالَةُ الْمَعِيشَةِ وَالْبِيئَةِ، قِيلَ: إِنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْجِدَارِ وَهُوَ الْحَائِطُ الَّذِي يَكُونُ حَدًّا لِلْبُسْتَانِ أَوِ الدَّارِ، وَقِيلَ: مِنْ جُدُرِ الشَّجَرَةِ، وَيُرَادِفُ الْجَدِيرُ بِالشَّيْءِ وَالْأَجْدَرُ، الْحَقِيقَ وَالْأَحَقَّ، وَالْخَلِيقَ وَالْأَخْلَقَ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ أَفْعَلُ فِي كُلٍّ مِنْهَا لِلتَّفْضِيلِ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ غَالِبًا كَحَدِيثِ: «وَالثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» وَمَعَ تَرْكِهِ لِلْعِلْمِ بِهِ أَحْيَانًا، وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ} (9: 72).{وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وَاسِعُ الْعِلْمِ بِأُمُورِ عِبَادِهِ وَصِفَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمُ الظَّاهِرَةِ مِنْ بَدَاوَةٍ وَحَضَارَةٍ وَعِلْمٍ وَجَهْلٍ، وَالْبَاطِنَةِ مِنْ إِيمَانٍ وَكُفْرٍ، وَإِخْلَاصٍ وَنِفَاقٍ تَامِّ الْحِكْمَةِ فِيمَا يَحْكُمُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَمَا يَشْرَعُهُ لَهُمْ وَمَا يَجْزِيهِمْ بِهِ، مِنْ نَعِيمٍ مُقِيمٍ، أَوْ عَذَابٍ أَلِيمٍ.رَوَى أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ. مَا عَدَا ابْنَ مَاجَهْ. وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشَّعْبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْفَعُهُ: «مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا، وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمَنْ أَتَى السُّلْطَانَ افْتُتِنَ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ.وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ بَدَا جَفَا، وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمَنْ أَتَى السُّلْطَانَ افْتُتِنَ، وَمَا ازْدَادَ أَحَدٌ مِنْ سُلْطَانِهِ قُرْبًا إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللهِ بُعْدًا». وَسَبَبُ الْأَخِيرِ أَنَّ السَّلَاطِينَ قَلَّمَا يَرْضَوْنَ عَمَّنْ يَلْتَزَمُ الْحَقَّ وَالصِّدْقَ وَالنُّصْحَ الصَّرِيحَ، وَقَلَّمَا يَأْتِيهِمْ وَيَزْدَادُ قُرْبًا مِنْهُمْ إِلَّا الَّذِي يَمْدَحُهُمْ بِالْبَاطِلِ وَيُعِينُهُمْ عَلَى الظُّلْمِ وَلَوْ بِالتَّأَوُّلِ لَهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} (61).{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا} تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ (90) أَنَّ بَعْضَ الْأَعْرَابِ جَاءُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُعَذِّرِينَ لِيَأْذَنَ لَهُمْ فِي الْقُعُودِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَالَ الَّذِينَ كَانُوا يُنْفِقُونَ بَعْضَ أَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِ الْجِهَادِ رِيَاءً وَتَقِيَّةً فَيَعُدُّونَ مَا يُنْفِقُونَهُ مِنَ الْمَغَارِمِ وَهِيَ مَا يَلْزَمُهُ الْمَرْءُ مِمَّا يَثْقُلُ عَلَيْهِ فَيَلْتَزِمُهُ كُرْهًا أَوْ طَوْعًا لِدَفْعِ مَكْرُوهٍ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ قَوْمِهِ وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ ذَاتِيَّةٌ. وَلَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابُ الْمُنَافِقُونَ يَرْجُونَ بِهَذِهِ النَّفَقَةِ جَزَاءً فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ.
|