الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الشنقيطي: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)}.ومن ذلك اختلافهم في عيسى، فقد قدمنا في سورة مريم ادعاءهم على أمه الفاحشة، مع أن طائفة منهم آمنت به، كما يشير قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ كونوا أَنصَارَ الله كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أنصاري إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنصَارُ الله فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ} [الصف: 14] والطائفة التي آمنت قالت الحق في عيسى، والتي كفرت افترت عليه، وعلى أمه. كما تقدم إيضاحه في سورة مريم.وقد قص الله عليهم في سورة النساء وغيرهما حقيقة عيسى ابن مريم، وهي: أنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، ولما بين لهم حقيقة أمره مفصلة في سورة مريم قال: {ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ} [مريم: 34] وذلك يبين بعض ما دل عليه قوله تعالى هنا: {إِنَّ هذا القرآن يَقُصُّ على بني إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الذي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}.{وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77)}.قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة الكهف، في الكلام على قوله تعالى: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب} [الكهف: 1] الآية.{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)}.اعلم التحقيق الذي دلت عليه القرائن القرآنية واستقراء القرآن، أن معنى قوله هنا: إنك لا تسمع الموتى لا يصح فيه من أقوال العلماء، إلا تفسيران:الأول: أن المعنى: إنك لا تسمع الموتى: أي لا تسمع الكفار، الذين أمات الله قلوبهم، وكتب عليهم الشقاء في سابق علمه إسماع هدى وانتفاع، لأن الله كتب عليهم الشقاء، فختم على قلوبهم، وعلى سمعهم، وجعل على قلوبهم الأكنة، وفي آذانهم الوقر، وعلى أبصارهم الغشاوة، فلا يسمعون الحق سماع اهتداء وانتفاع: ومن القرائن القرآنية الدالة على ما ذكرنا أنه جل وعلا قال بعده: {وَمَآ أَنتَ بِهَادِي العمي عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ} [النمل: 81].فاتضح بهذه القرينة أن المعنى: إنك لا تسمع الموتى: اي الكفار هم أشقياء في علم الله إسماع هدى وقبول للحق ما تسمع ذلك الإسماع، إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون، فمقابلته جل وعلا بالإسماع المنفي في الآية عن الموتى بالإسماع المثبت فيها، لمن يؤمن بآياته، فهو مسلم دليل واضح على أن المراد بالموت في الآية: موت الكفر والشقاء لا موت مفارقة الروح للبدن، ولو كان المراد بالموت في قوله: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} مفارقة الروح للبدن لما قابل قوله: {إنك لا تسمع الموتى} بقوله: {إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا} بل لقابله بما يناسبه كأن يقال: إن تسمع إلا من لم يمت: أي يفارق روحه بدنه كما هو واضح.وإذا علمت أن هذه القرينة القرآنية دلت على أن المراد بالموتى هنا الأشقياء الذين لا يسمعون الحق سماع هدى وقبول.فاعلم أن استقراء القرآن العظيم يدل على هذا المعنى كقوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ والموتى يَبْعَثُهُمُ الله ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 36]، وقد أجمع من يعتد به من أهل العلم أن المراد بالموتى في قوله: {والموتى يبعثهم الله} الكفار، يدل له مقابلة الموتى في قوله: {والموتى يبعثهم الله} ب {الذين يسمعون} في قوله: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ} ويوضح ذلك قوله تعالى قبله: {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأرض أَوْ سُلَّمًا فِي السماء فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} [الأنعام: 35] أي فافعل، ثم قال: {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأرض أَوْ سُلَّمًا فِي السماء فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ} [الأنعام: 35- 36] الآية، وهذا واضح فيما ذكرنا، ولو كان يراد بالموتى من فارق أرواحهم أبدانهم لقابل الموتى بما يناسبهم كأن يقال: إنما يستجيب الأحياء: أي الذين لم تفارق أرواحهم أبدانهم. وكقوله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي الناس كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122].فقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {أومن كان ميتًا}: أي كافرًا، فأحييناه: أي بالإيمان والهدى. وهذا لا نزاع فيه، وفيه إطلاق الموت، وإرادة الكفر بلا خلاف. وكقوله: {لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ القول عَلَى الكافرين} [يس: 70] وكقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأحياء وَلاَ الأموات} [فاطر: 22] أي لا يستوي المؤمنون والكافرون.ومن أوضح الأدلة على هذا المعنى أن قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} الآية. وما في معناها من الآيات كلها، تسلية له صلى الله عليه وسلم، لأنه يحزنه عدم إيمانهم كما بينه تعالى في آيات كقوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ} [الأنعام: 33] الآية. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر: 97] الآية. وقوله: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [الحجر: 88] الآية. وقوله تعالى: {فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين} [المائدة: 68]، وكقوله تعالى: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8] الآية. قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفًا} [الكهف: 6] وقوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه. ولما كان يحزنه كفرهم، وعدم إيمانهم أنزل الله آيات كثيرة تسلية له صلى الله عليه وسلم بين له فيها: أنه لا قدرة له صلى الله عليه وسلم على هدى من أضله الله، فإن الهدى والإضلال بيده جل وعلا وحده وأوضح له أنه نذير، قد أتى بما عليه فأنذرهم على أكمل الوجوه وأبلغها وأن هداهم وإضلالهم بيد من خلقهم.ومن الآيات النازلة تسلية له صلى الله عليه وسلم قوله هنا: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} اي لا تسمع من أضله الله إسماع هدى وقبول، إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا يعني ما تسمع إسماع هدى وقبول، إلا من هديناهم للإيمان بآياتنا فهم مسلمون.والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة كقوله تعالى: {إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} [النحل: 37] الآية، وقوله تعالى: {وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئًا أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41] وقوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [القصص: 56] الآية. وقوله تعالى: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ} [يونس: 99- 100] إلى غير ذلك من الآيات، ولو كان معنى الآية، وما شابهها: إنك لا تسمع الموتى: أي الذين فارقت أرواحهم أبدانهم لما كان في ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم، كما ترى.واعلم أن آية النمل هذه جاءت آيتان أخريان بمعناها:الآولى منهما: قوله تعالى في سورة الروم: {فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ وَمَآ أَنتَ بِهَادِ العمي عَن ضَلاَلَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُّسْلِمُونَ}.[الروم: 52- 53] ولفظ آية الروم هذه كلفظ آية النمل التي نحن بصددها، فيكفي في بيانه آية الروم ما ذكرنا في آية النمل.والثانية منهما قوله تعالى في سورة فاطر: {إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القبور} [فاطر: 22] وآية فاطر هذه كآية النمل والروم المتقدمتين، لأن المراد بقوله: فيها من في القبور الموتى، فلا فرق بين قوله: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} [النمل: 80] وبين قوله: {وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القبور} لأن المراد بالموتى ومن في القبور واحد كقوله تعالى: {وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِي القبور} [الحج: 7] أي يبعث جميع الموتى ومن قبر منهم ومن لم يقبر، وقد دلت قرائن قرآنية أيضًا على أن معنى أية: فاطر هذه كمعنى آية الروم، منها قوله تعالى قبلها: {إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب وَأَقَامُواْ الصلاة} [فاطر: 18] الآية، لأن معناها: لا ينفع إنذارك إلا من هداه الله ووفقه فصار ممن يخشى ربه بالغيب، ويقيم الصلاة وما أنت بمسمع من في القبور: أي الموتى أي الكفار الذين سبق لهم الشقاء كما تقدم. ومنها قوله تعالى أيضًا: {وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير} [فاطر: 19] أي المؤمن والكافر. وقوله تعالى قبلها: {وَمَا يَسْتَوِي الأحياء وَلاَ الأموات} [فاطر: 22] اي المؤمنون والكفار. ومنها قوله تعالى بعده: {إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ} [فاطر: 23] أي ليس الإضلال والهدى بيدك ما أنت إلا نذير: أي وقد بلغت.التفسير الثاني: هو أن المراد بالموتى الذين ماتوا بالفعل، ولكن المراد بالمساع المنفي في قوله: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} خصوص السماع المعتاد الذي ينتفع صاحبه به، وأن هذا مثل ضرب للكفار، والكفار يسمعون الصوت، لكن لا يسمعون سماع قبول بفقه واتباع كما قال تعالى: {وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة: 171]، فهكذا الموتى الذين ضرب بهم المثل لا يجب أن ينفى عنهم جميع أنواع السماع كما لم ينف ذلك عن الكفار، بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به، وأما سماع آخر فلا، وهذا التفسير الثاني جزم به واقتصر عليه العلامة أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله في هذا المبحث.وهذا التفسير الأخير دلت عليه آيات من كتاب الله جاء فيها التصريح بالبكم والصمم والعمى مسندًا إلى قوم يتكلمون ويسمعون ويبصرون، والمراد بصممهم صممهم عن سماع ما ينفعهم، دون غيره، فهم يسمعون غيره، وكذلك في البصر والكلام، وذلك كقوله تعالى في المنافقين: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] فقد قال فيهم صم بكم مع شدة فصاحتهم، وحلاوة ألسنتهم كما صرح به في قوله تعالى فيهم: {يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون: 4] أي لفصاحتهم وقوله تعالى: {فَإِذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب: 19] فهؤلاء الذين إن يقولوا تسمع لقولهم وإذا ذهب الخوف سلقوا المسلمين بألسنة حداد هم الذين قال الله فيهم.{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18] ما ذلك، إن صممهم وبكمهم وعماهم بالنسبة إلى شيء خاص، وهو ما ينتفع به من الحق، فهذا وحده هو الذي صموا عنه: فلم يسمعوه، وبكموا عنه فلم ينطقوا به، وعملوا عنه فلم يروه مع أنهم يسمعون غيره ويبصرونه، وينطقون به كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَآ أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ} [الأحقاف: 26] الآية، وهذا واضح كما ترى.وقد أوضحنا هذا غاية الإيضاح مع شواهده العربية في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، في سورة البقرة في الكلام على وجه الجمع بين قوله في المنافقين: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18] مع قوله فيهم: {وَلَوْ شَاءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [البقرة: 20] وقوله فيهم: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب: 19] وقوله فيهم أيضًا: {وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون: 4]، وقد أوضحنا هناك أن العرب تطلق الصمم وعدم السماع على السماع، الذي لا فائدة فيه، وذكرنا بعض الشواهد العربية على ذلك.مسألة تتعلق بهذه الآية الكريمة:اعلم أن الذي يقتضي الدليل رجحانه هو أن الموتى في قبورهم يسمعون كلام من كلمهم، وأن قول عائشة رضي الله عنها ومن تبعها: إنهم لا يسمعون استدلالًا بقوله تعالى وما جاء بمعناها من الآيات غلط منها رضي الله عنها، وممن تبعها.وإيضاح كون الدليل يقتضي رجحان ذلك مبني على مقدمتين.الأولى منهما: أن سماع الموتى ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث متعددة، ثبوتًا لا مطعن فيه. ولم يذكر صلى الله عليه وسلم أن ذلك خاص بإنسان ولا بوقت.والمقدمة الثانية: هي أن النصوص الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم في سماع الموتى لم يثبت في الكتاب ولا في السنة شيء يخالفها، وتأويل عائشة رضي الله عنها بعض الآيات، على معنى يخالف الأحاديث المذكورة، لا يجب الرجوع إليه. لأن غيره في معنى الآيات أولى بالصواب منه، فلا ترد النصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بتأويل بعض الصحابة بعض الآيات، وسنوضح هنا إن شاء الله صحة المقدمتين المذكورتين، وإذا ثبت بذلك أن سماع الموتى ثابت عنه صلى الله عليه وسلم من غير معارض صريح. علم بذلك رجحان ما ذكرنا، أن الدليل يقتضي رجحانه.أما المقدمة الأولى وهي ثبوت سماع الموتى عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال البخاري في صحيحه: حدثني عبد الله بن محمد، سمع روح بن عبادة، حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: ذكر لنا أن أنس بن مالك عن أبي طلحة: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلًا من صناديد قريش، فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى واتبعه أصحابه، وقالوا ما نرى يَنْطَلِقُ إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفة الرَّكِيِّ، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: «يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان: أَيَسُرُّكُمْ أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟» قال فقال عمر: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تكلم من أجساد لا أرواح لها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» قال قتادة أحياهم الله له، حتى أسمعهم قوله توبيخًا وتصغيرًا ونقمة وحسرة، وندمًا، فهذا الحديث الصحيح أقسم فيه النبي صلى الله عليه وسلم: أن الأحياء الحاضرين ليسوا بأسمع لما يقول صلى الله عليه وسلم من أولئك الموتى بعد ثلاث. وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى، ولم يذكر صلى الله عليه وسلم في ذلك تخصيصًا، وكلام قتادة الذي ذكره عنه البخاري اجتهاده منه فيما يظهر.
|