الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الماوردي: قوله عز وجل: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنَ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ...} الآية.فيه أربعة تأويلات:أحدها: {مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} أي أشككهم في آخرتهم، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أرغبهم في دنياهم، {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}: أي من قبل حسناتهم، {وَعَن شَمَائِلِهِم} من قبل سيئاتهم، قاله ابن عباس.والثاني: {مِنّ بَيْنِ أيْدِيهِمْ}: من قبل، دنياهم، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}: من قبل آخرتهم، {وَعَنْ أَيْمَأنِهِمْ}: الحق أشككهم فيه، {وَعَن شَمَائِلِهِم}: الباطل أرغبهم فيه، قاله السدي وإبراهيم.والثالث: {مِنّ بَيْنِ أَيْدِيهِم} {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} من حيث ينظرون، {وَمِنْ خَلْفِهِم} {وَعَنْ شَمَائِلِهِم}: من حيث لا يبصرون، قاله مجاهد.والرابع: أراد من كل الجهات التي يمكن الاحتيال عليهم منها، ولم يذكر من فوقهم لأن رحمة الله تصده، ولا من تحت أرجلهم لما فيه التنفير، قاله بعض المتأخرين.ويحتمل تأويلًا خامسًا: {مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِم}: فيما بقي من أعمارهم فلا يقدمون على طاعة، {وَمِنْ خَلْفِهِم}: فيما مضى من أعمارهم فلا يتوبون عن معصية، {وَعَنْ أَيْمَانِهِم}: من قبل غناهم فلا ينفقونه في مشكور، {وَعَن شَمَائِلِهِمِ}: من قبل فقرهم فلا يمتنعون فيه عن محظور.ويحتمل سادسًا: {مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِم}: بسط أملهم، {وَمِنْ خَلْفِهِم} تحكيم جهلهم، {وعن أيمانهم}: فيما ييسر لهم، {وَعَن شَمَائِلِهِم}: فيما تعسر عليهم، ثم قال: {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} يحتمل وجهين:أحدهما: شاكرين لنعمك.والثاني: مقيمين على طاعتك.فإن قيل: فكيف علم إبليس ذلك؟ فعنه جوابان:أحدهما: أنه ظن ذلك فصدق ظنه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِم إِبْلِيس ظَنَّهُ} [سبأ: 20] وسبب ظنه أنَّه لما أغوى آدم واستزله قال: ذرية هذا أضعف منه، قاله الحسن.والثاني: أنه يجوز أن يكون علم ذلك من جهة الملائكة بخبر من الله. اهـ..قال ابن عطية: {ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}هذا توكيد من إبليس في أنه يجد في إغواء بني أدم، وهذا لم يكن حتى علم إبليس أن الله يجعل في الأرض خليفة وعلم أنه آدم وإلا فلا طريق له إلى علم أنسال آدم من ألفاظ هذه الآيات.قال القاضي ابو محمد: ومقصد هذه الآية أن إبليس أخبر عن نفسه أنه يأتي إضلال بني آدم من كل جهة وعلى كل طريق يفسد عليه ما أمكنه من معتقده وينسيه صالح أعمال الآخرة ويغريه بقبيح أعمال الدنيا، فعبر ذلك بألفاظ تقتضي الإحاطة بهم، وفي اللفظ تجوز، وهذا قول جماعة من المفسرين، وقال ابن عباس فيما روى عنه: أراد بقوله: {من بين أيديهم} الآخرة {ومن خلفهم} الدنيا {وعن أيمانهم} الحق، {وعن شمائلهم} الباطل، وقال ابن عباس أيضًا فيما روي عنه: {من بين أيديهم} هي الدنيا {ومن خلفهم} هي الآخرة {وعن أيمانهم} الحسنات {وعن شمائلهم} السيئات. وقال مجاهد: من بين أيديهم وعن أيمانهم: معناه حيث يبصرون ومن خلفهم وعن شمائلهم حيث لا يبصرون.وقوله: {ولا تجد أكثرهم شاكرين} خبر أن سعايته تفعل ذلك ظنًا منه وتوهمًا في خلقة آدم حين رأى خلقته من أشياء مختلفة فعلم أنه ستكون لهم شيم تقتضي طاعته كالغل والحسد والشهوات ونحو ذلك، قال ابن عباس وقتادة: إلا أن إبليس لم يقبل أنه يأتي بني آدم من فوقهم ولا جعل الله له سبيلًا إلى أن يحول بينهم وبين رحمة الله وعفوه ومنّه، وما ظنه إبليس صدقه الله عز وجل. ومنه قوله: {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقًا من المؤمنين} [سبأ: 20] فجعل أكثر العالم كفرة، ويبينه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: «يقول الله تعالى يوم القيامة: يا آدم أخرج بعث النار، فيقول: يا رب وما بعث النار؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين وواحد إلى الجنة» ونحوه مما يخص أمة محمد عليه السلام: «ما أنتم في الأمم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود».قال القاضي أبو محمد: وقوله كالشعرة يحتمل أن يريد شعرة واحدة وهو بعيد لأن تناسب الحديث الأول يرده، ويحتمل أن يريد الشعرة التي هي للجنس، والقصد أن يشبههم بثور أسود قد أنبتت في خلال سواده شعرة بيضاء، ويحتمل أن يريد اللمعة من الشعر الأبيض، وهذا فيه بعد، و{شاكرين} معناه مؤمنين لأن ابن آدم لا يشكر نعمة الله إلا بأن يؤمن، قاله ابن عباس وغيره. اهـ..قال ابن الجوزي: قوله تعالى: {ثم لآتينَّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم} فيه سبعة أقوال:أحدها: {من بين أيديهم} أشككهم في آخرتهم، {ومن خلفهم} أرغبهم في دنياهم، {وعن أيمانهم} أي: من قِبل حسناتهم، {وعن شمائلهم} من قِبل سيئاتهم، قاله ابن عباس.والثاني: مثلُه، إلا أنهم جعلوا {من بين أيديهم} الدنيا، {ومن خلفهم} الآخرة، قاله النخعي، والحكم بن عتيبة.والثالث: مثل الثاني، إلا أنهم جعلوا {وعن أيمانهم} من قبل الحق أصدَّهم عنه، {وعن شمائلهم} من قبل الباطل أردُّهم إليه، قاله مجاهد، والسدي.والرابع: {من بين أيديهم} من سبيل الحق، {ومن خلفهم} من سبيل الباطل {وعن أيمانهم} من قبل آخرتهم، {وعن شمائلهم} من أمر الدنيا، قاله أبو صالح.والخامس: {من بين أيديهم} {وعن أيمانهم} من حيث يبصرون.{ومن خلفهم} {وعن شمائلهم} من حيث لا يبصرون، نقل عن مجاهد أيضًا.والسادس: أن المعنى لأتصرفن لهم في الإِضلال من جميع جهاتهم، قاله الزجاج، وأبو سليمان الدمشقي.فعلى هذا، يكون ذكر هذه الجهات، للمبالغة في التأكيد.والسابع: {من بين أيديهم} فيما بقي من أعمارهم، فلا يقدمون فيه على طاعة، {ومن خلفهم} فيما مضى من أعمارهم، فلا يتوبون فيه من معصية، {وعن أيمانهم} من قبل الغنى، فلا ينفقونه في مشكور، {وعن شمائلهم} من قبل الفقر، فلا يمتنعون فيه من محظور، قاله الماوردي.قوله تعالى: {ولا تجد أكثرهم شاكرين} فيه قولان:أحدهما: موحِّدين، قاله ابن عباس.والثاني: شاكرين لنعمتك، قاله مقاتل.فإن قيل: من أين علم إبليس ذلك؟ فقد أسلفنا الجواب عنه في سورة النساء. اهـ..قال الخازن: {ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم}قال ابن عباس: من بين أيديهم يعني من قبل الآخرة فأشككهم فيهم، ومن خلفهم يعني من قبل الدنيا فأرغبهم فيها، وعن أيمانهم يشبه عليهم أمر دينهم، وعن شمائلهم أشهي لهم المعاصي.وإنما جعل الآخرة من بين أيديهم في هذا القول لأنهم منقلبون إليها وصائرون إليها فعلى هذا الاعتبار فالدنيا خلفهم لأنها وراء ظهورهم.وقال ابن عباس في رواية عنه: من بين أيديهم يعني من قبل دنياهم يعني أزينها في قلوبهم، ومن خلفهم من قبل الآخرة، فأقول لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار، وعن أيمانهم من قبل حسناتهم، وعن شمائلهم من قبل سيئاتهم وإنما جعل الدنيا من بين أيديهم في هذا القول لأن الإنسان يعسى فيها ويشاهدها فهي حاضرة بين يديه والآخرة غائبة عنه فهي خلفه.وقال الحكم بن عتبة: من بين أيديهم يعني من قبل الدنيا فأزينها لهم ومن خلفهم من قبل الآخرة فأثبطهم عنها وعن أيمانهم يعني من قبل الحق فأصدهم عنه وعن شمائلهم من قبل الباطل فأزينه لهم وقال قتادة: أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار ومن خلفهم من أمر الدنيا فزينها لهم ودعاهم إليها وعن إيمانهم من قبل حسناتهم فبطأهم عنها وعن شمائلهم زين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها.أتاك يا ابن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك فلم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله تعالى.وقال مجاهد يأيتهم من بين أيديهم وعن أيمانهم حيث يبصرون، ومن خلفهم وعن شمائلهم حيث لا يبصرون.ومعنى هذا من حيث يخطئون ويعلمون أنهم يخطئون ومن حيث لا يبصرون أنهم يخطئون ولا يعلمون أنهم يخطئون، وقيل: من بين أيديهم يعني فيما بقي من أعمالهم فلا يقدمون فيه طاعة ومن خلفهم يعني ما مضى من أعمارهم فلا يتوبون عما أسلفوا فيه من معصية عن أيمانهم يعني من قبل الغنى فلا ينفقون ولا يشركون ومن خلفهم يعني من قبل الفقر فلا يمتنعون فيه من محظور نالوه.وقال شقيق البلخي: ما من صباح إلا ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع من بين يديّ ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي أما بين يدي فيقول: لا تخف إن الله غفور رحيم فأقرأ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى، وأما من خلفي فيخوفني من وقوع أولادي في الفقر فأقرأ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، وأما من قبل يميني فيأتيني من الثناء فأقرأ والعاقبة للمتقين، وأما من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ وحيل بينهم وبين ما يشتهون.وقيل إن ذكر هذه الجهات الرضع إنما أريد بها التأكيد والمبالغة في إلقاء الوسوسة في قلب ابن آدم وأنه لا يقصر في ذلك، ومعنى الآية على هذا القول: ثم لآتينهم من جميع الوجوه الممكنة لجميع الاعتبارات وقوله: {ولا تجد أكثرهم شاكرين} يعني ولا تجد يا رب أكثرهم بني آدم شاكرين على نعمك التي أنعمت بها عليهم.وقال ابن عباس: معناه ولا تجد أكثرهم موحدين.فإن قلت: كيف علم الخبيث إبليس حتى قال ولا تجد أكثرهم شاكرين؟قلت: قاله ظنًا فأصاب منه قوله تعالى، ولقد صدق عليهم إبليس ظنه وقيل إنه كان عازمًا على المبالغة في تزيين الشهوات وتحسين القبائح وعلم ميل بني آدم إلى ذلك فقال هذه المقالة وقيل إنه رآه مكتوبًا في اللوح المحفوظ فقال هذه المقالة على سبيل اليقين والقطع والله أعلم بمراده. اهـ..قال أبو حيان: {ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين}.الظاهر أنّ إتيانه من هذه الجهات الأربع كناية عن وسوسته وإغوائه له والجدّ في إضلاله من كل وجه يمكن ولما كانت هذه الجهات يأتي منها العدوّ غالبًا ذكرها لا أنه يأتي من الجهات الأربع حقيقة، وقال ابن عباس: {من بين أيديهم الآخرة} أشككهم فيها وأنه لا بعث {ومن خلفهم} الدّنيا أرغبهم فيها وزيّنها لهم وعنه أيضًا وعن النخعي والحكم بن عتبة عكس هذا، وعنه {وعن أيمانهم} الحقّ وعن {شمائلهم} الباطل وعنه أيضًا: و{عن أيمانهم} الحسنات وعن {شمائلهم} السيئات، وقال مجاهد: الأوّلان حيث ينصرون والآخران حيث لا ينصرون، وقال أبو صالح الأوّلان الحقّ والباطل والآخران الآخرة والدنيا، وقيل: الأولان بفسحة الأمل وبنسيان الأجل والآخران فيما تيسر وفيما تعسر، وقيل الأولان فيما بقي من أعمارهم فلا يطيعون وفيما مضى منها فلا يندمون على معصية والآخران فيما ملكته أيمانهم فلا ينفقونه في معروف ومن قبل فقرهم فلا يمتنعون عن محظور.وقال أبو عبد الله الرازي حاكيًا عن من سماه هو حكماء الإسلام من بين أيديهم القوة الخياليّة وهي تجمع مثل المحسوسات وصورها وهي موضوعة في البطن المقدّم من الدماغ ومن خلفهم القوة الوهميّة وهي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات وهي موضوعة في البطن المؤخر من الدماغ وعن أيمانهم قوة الشهوة وهي موضوعة في البطن الأيمن من القلب وعن شمائلهم قوة الغضب وهي موضوعة في البطن الأيسر من القلب فهذه القوى الأربعة هي التي يتولد عنها أحوال توجب زوال السعادة الروحانية والشياطين الخارجة ما لم تشعر بشيء من هذه القوى الأربع لم تقدر على إلقاء الوسوسة فهذا هو السبب في تعيين هذه الجهات الأربع وهو وجه تحقيق انتهى، وهو بعيد من مناحي كلام العرب والمتشرّعين قال: وعلى هذا لم يحتج إلى ذكر العلوّ والسّفل لأن هاتين الجهتين ليستا بمقرّ شيء من القوى المفسدة لمصالح السعادة الروحانية انتهى.
|