الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.فوائد لغوية وإعرابية: قال السمين:قوله تعالى: {فَلِمَ}: هذه الفاءُ جوابُ شرط مقدر وهو ظاهرُ كلام الزمخشري فإنه قال: «فإن صَحَّ أنكم أبناء الله وأحباؤه فلِمَ تُذْنبون وتُعَذَّبون؟» ويجوز أن تكون كالفاء قبلها في كونها عاطفة على جملة مقدرة أي: كَذَبْتُمْ فلِمَ يعذبكم؟ والباء في {بذنوبكم} سببية. و{مِمَّن خلق} صفةٌ ل {بشر} فهو في محل رفع متعلق بمحذوف. اهـ..تفسير الآية رقم (19): قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)}.مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:ولما دحضت حجتهم، ووضحت أكذوبتهم، اقتضى ذلك الالتفات إلى وعظهم على وجه الامتنان عليهم وإبطال ما عساهم يظنونه حجة، فقال تعالى: {يا أهل الكتاب} أي من الفريقين؛ ولما كان ما حصل لهم من الضلال بتضييع ما عندهم من البينات وتغييرها ما لا يتوقع معه الإرسال، قال معبرًا بحرف التوقع: {قد جاءكم رسولنا} أي الذي عظمته من عظمتنا، فإعظامه وإجلاله واجب لذلك، ثم بين حاله مقدمًا له على متعلق جاء بيانًا لأنه أهم ما إلى الرسل إليهم إرشادًا إلى قبول كل ما جاء به بقوله: {يبين لكم} أي يوقع لكم البيان في كل ما ينفعكم بيانًا شافيًا لما تقدم وغيره.ولما كان مجيئه ملتبسًا ببيانه وظرفًا له غير منفك عنه، وكان بيانًا مستعليًا على وقت مجيئه وما مضى قبله وما يأتي بعده ببقاء كتابه، محفوظًا لعموم دعوته وختامه وتفرده، فلا نبي بعده، قال معلقًا بجاء: {على فترة} أي طويلة بالنسبة إلى ما كان يكون بين النبيِّين من بني إسرائيل، مبتدئة تلك الفترة {من الرسل} أي انقطاع من مجيئهم، شُبِّه فقدهم وبُعْد العهد بهم ونسيان أخبارهم، وبلاء رسومهم وآثارهم، وانطماس معالمهم وأنوارهم بشيء كان يفنى ففتر، لم يبق من وصفه المقصود منه إلا أثر خاف ورسم دارس، يقال: فتر الشيء- إذا سكنت حدته وصار أقل مما كان عليه وذلك لأنه كان بين عيسى وبين النبي صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة فسد فيها أمر الناس، ولعله عبر بالمضارع في يبين إشارة إلى أن دينه وبيانه لا ينقطع أصلًا بحفظ كتابه، فكلما درست سنة منح الله بعالم يرد الناس إليها بالكتاب المعجز القائم أبدًا، فلذلك لا يحتاج الأمر إلى نبي مجدد إلا عند الفتنة التي لا يطيقها العلماء، وهي فتنة الدجال ويأجوج ومأجوج، ثم علل ذلك بقوله: {أن} أي كراهة أن {تقولوا} أي إذا حشرتم وسئلتم عن أعمالكم {ما جاءنا} ولتأكيد النفي قيل: {من بشير} أي يبشرنا لنرغب فنعمل بما يسعدنا فنفوز {ولا نذير} أي يحذرنا لنرهب فنترك ما يشقينا فنسلم، لأن الإنسان موزَّع النقصان بين الرغبة والرهبة، وقد كان اختلط في تلك الفترة الحق بالباطل فالتبس الأمر وجهل الحال، لكنه لم يجهل جهلًا يحصل به عذر في الشرك، وسأبينه في أول «ص».ولما كان المعنى: فلا تقولوا ذلك، سبب عنه قوله: {فقد جاءكم} أي من هو متصف بالوصفين معًا فهو {بشير ونذير} أي كامل في كل من الوصفين وإن تباينا؛ ولما كان ربما كان توهم أحد من ترك الإرسال زمن الفترة، ومن ترك التعذيب بغير حجة الإرسال، وبالعدول عن بني إسرائيل إلى بني إسماعيل شيئًا في القدرة، قال كاشفًا لتلك الغمة: {والله} أي جاءكم والحال أن الملك الذي له الكمال كله {على كل شيء} أي من أن يرسل في كل وقت وأن يترك ذلك، وأن يهدي بالبيان وأن يضل، ومن أن يعذب ولا يقبل عذرًا وأن يغفر كل شيء وغير ذلك {قدير} وفي الختم بوصف القدرة واتباعه تذكيرهم ما صاروا إليه من العز بالنبوة والملك بعدما كانوا فيه من الذل بالعبودية والجهل إشارة إلى أن إنكارهم لأن يكون من ولد إسماعيل عليه السلام نبي يلزم منه إنكارهم للقدرة. اهـ..من أقوال المفسرين: .قال الفخر: في قوله: {يُبَيّنُ لَكُمْ} وجهان:الأول: أن يقدر المبين، وعلى هذا التقدير ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون ذلك المبين هو الدين والشرائع، وإنما حسن حذفه لأن كل أحد يعلم أن الرسول إنما أرسل لبيان الشرائع، وثانيها: أن يكون التقدير يبين لكم ما كنتم تخفون، وإنما حسن حذفه لتقدم ذكره.الوجه الثاني: أن لا يقدر المبين ويكون المعنى يبين لكم البيان، وحذف المفعول أكمل لأن على هذا التقدير يصير أعم فائدة. اهـ..قال السمرقندي: قوله تعالى: {يا أَهْلِ الكتاب} يعني يا أهل التوراة والإنجيل، وإنما أضافهم إلى الكتاب والله أعلم على وجه التعيير، يعني أنتم أهل الكتاب فلم لا تعملون بكتابكم؟ كقوله: يا عاقل لم لا تفعل كذا وكذا، وإنما تذكر العقل على معنى التعيير أي إنك لا تعمل عمل العقلاء.ثم قال: {قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا} يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم {يُبَيّنُ لَكُمْ} الدين والأحكام والشرائع {على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل} يعني بعد انقطاع من الرسل والوحي.وقال مقاتل: في الآية تقديم وتأخير، معناه قد جاءكم رسولنا على فترة من الرسل يبين لكم، وإنما سمي فترة لأن الدين يفتر ويندرس عند انقطاع الرسل، يعني بين عيسى ومحمد عليهما السلام وقال قتادة: كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام خمسمائة وستون سنة.وقال الكلبي: خمسمائة وأربعون سنة.وقال الضحاك ومقاتل: كان بينهما ستمائة سنة.وقال وهب: كان بينهما ستمائة وعشرون سنة. اهـ..قال الألوسي: {يَا أَهْلَ الكتاب} تكرير للخطاب بطريق الإلتفات ولطف في الدعوة، وقيل: الخطاب هنا لليهود خاصة {قَدْ جَاءَكُم رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ} على التدريج حسبما تقتضيه المصلحة الشرائع والأحكام النافعة معادًا ومعاشًا المقرونة بالوعد والوعيد، وحذف هذا المفعول اعتمادًا على الظهور إذ من المعلوم أن ما يبينه الرسول هو الشرائع والأحكام، ويجوز أن ينزل الفعل منزلة اللازم أي يفعل البيان ويبذله لكم في كل ما تحتاجون فيه من أمور الدين، وأما إبقاؤه متعديًا مع تقدير المفعول {كثيرًا مما كنتم تخفون من الكتاب} كما قيل، فقد قيل فيه: مع كونه تكريرًا من غير فائدة يرده قوله سبحانه: {عَلَى فَتْرَة مِّنَ الرسل} فإن فتور الإرسال وانقطاع الوحي إنما يحوج إلى بيان الشرائع والأحكام لا إلى بيان ما كتموه. اهـ..قال ابن عاشور: كَرّر الله موعظتهم ودعوتَهم بعد أن بيّن لهم فسادَ عقائدهم وغرورَ أنفسهم بيانًا لا يدع للمنصف متمسَّكًا بتلك الضلالات، كما وعظهم ودعَاهُم آنفًا بمثل هذا عقّب بيان نقضهم المواثيق.فموقع هذه الآية تكرير لموقع قوله: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيرًا ممّا كنتم تخفون من الكتاب} [المائدة: 15] الآيات، إلاّ أنّه ذكر الرسولَ صلى الله عليه وسلم هنا بوصف مجيئه على فترة من الرسل ليذكِّرهم بأنّ كتبهم مصرّحة بمجيء رسول عقب رسلهم، وليريهم أنّ مجيئه لم يكن بِدعًا من الرسل إذ كانوا يَجيئون على فِتَر بينهم.وذُكِر الرسول هنالك بوصف تبيينه ما يخفونه من الكتاب لأنّ ما ذُكر قبلَ الموعظة هنا قد دلّ على مساواة الرسل في البشرية ومساواة الأمم في الحاجة إلى الرسالة، وما ذكر قبلَ الموعظة هنالك إنّما كان إنباء بأسرار كتبهم وما يخفون عِلمه عن النّاس لما فيه من مساويهم وسوء سمعتهم.وحذف مفعول {يبيّن} لظهور أنّ المراد بيان الشريعة.فالكلام خطاب لأهل الكتاب يتنزّل منزلة تأكيد لِجملة {يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيرًا ممّا كنتم تخفون} [المائدة: 15]، فلذلك فصلت. اهـ..قال الفخر: قوله: {على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل} قال ابن عباس: يريد على انقطاع من الأنبياء، يقال: فتر الشيء يفتر فتورًا إذا سكنت حدته وصار أقل مما كان عليه، وسميت المدة التي بين الأنبياء فترة لفتور الدواعي في العمل بتلك الشرائع.واعلم أن قوله: {على فَتْرَةٍ} متعلق بقوله: {جَاءكُمْ} أي جاءكم على حين فتور من إرسال الرسل.قيل: كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام ستمائة سنة أو أقل أو أكثر.وعن الكلبي كان بين موسى وعيسى عليهما السلام ألف وسبعمائة سنة، وألفا نبي، وبين عيسى ومحمد عليهما السلام أربعة من الأنبياء: ثلاثة من بني إسرائيل، وواحد من العرب وهو خالد بن سنان العبسي. اهـ..قال الألوسي: {على فترة} متعلق بجاءكم على الظرفية كما في قوله تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} [البقرة: 102] أي جاءكم على حين فتور من الإرسال وانقطاع الوحي ومزيد الاحتياج إلى البيان.وجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من ضمير {يبين} أو من ضمير {لكم} أي يبين لكم حال كونه على فترة، أو حال كونكم على فترة.و{من الرسل} صفة {فترة} و{من} ابتدائية، أي فترة كائنة من الرسل مبتدأة من جهتهم، والفترة فعلة من فتر عن عمله يفتر فتورًا إذا سكن، والأصل فيها الإنقطاع عما كان عليه من الجد في العمل، وهي عند جميع المفسرين انقطاع ما بين الرسولين.واختلفوا في مدتها بين نبينا صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام، فقال قتادة: كان بينهما عليهما الصلاة والسلام خمسمائة سنة وستون سنة، وقال الكلبي: خمسمائة وأربعون سنة، وقال ابن جريج: خمسمائة سنة، وقال الضحاك: أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة، وأخرج ابن عساكر عن سلمان رضي الله تعالى عنه أنها ستمائة سنة، وقيل: كان بين نبينا صلى الله عليه وسلم وأخيه عيسى عليه السلام ثلاثة أنبياء هم المشار إليهم بقوله تعالى: {أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث} [ياس: 14]، وقيل: بينهما عليهما الصلاة والسلام أربعة: الثلاثة المشار إليهم، وواحد من العرب من بني عبس وهو خالد بن سنان عليه السلام الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: «ذلك نبي ضيعه قومه» ولا يخفى أن الثلاثة الذين أشارت إليهم الآية رسل عيسى عليه السلام ونسبة إرسالهم إليه تعالى بناءًا على أنه كان بأمره عز وجل، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك؛ وأما خالد بن سنان العبسي فقد تردد فيه الراغب في «محاضراته»، وبعضهم لم يثبته، وبعضهم قال: إنه كان قبل عيسى عليهما الصلاة والسلام لأنه ورد في حديث «لا نبي بيني وبين عيسى» صلى الله تعالى عليهما وسلم، لكن في التواريخ إثباته، وله قصة في «كتب الآثار» مفصلة، وذكر أن بنته أتت النبي صلى الله عليه وسلم وآمنت به، ونقش الشيخ الأكبر قدس سره له فصًا في كتابه «فصوص الحكم»، وصحح الشهاب أنه عليه السلام من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأنه قبل عيسى عليهما الصلاة والسلام، وعلى هذا فالمراد ببنته الجائية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن صح الخبر بنته بالواسطة لا البنت الصلبية إذ بقاؤهما إلى ذلك الوقت مع عدم ذكر أحد أنها من المعمرين بعيد جدًا، وكان بين موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ألف وسبعمائة سنة في المشهور، لكن لم يفتر فيها الوحي، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى بعث فيها ألف نبي من بني إسرائيل سوى من بعث من غيرهم.{أَن تَقُولُواْ} تعليل لمجىء الرسول بالبيان أي كراهة أن تقولوا كما قدره البصريون أو لئلا تقولوا كما يقدر الكوفيون معتذرين من تفريطكم في أحكام الدين يوم القيامة {مَا جَاءَنَا من بَشير وَلاَ نذير} وقد انطمست آثار الشريعة السابقة وانقطعت أخبارها، وزيادة {من} في الفاعل للمبالغة في نفي المجىء، وتنكير بشير ونذير على ما قال شيخ الإسلام: للتقليل؛ وتعقيب {قد جاءكم} الخ بهذا يقتضي أن المقدر، أو المنوي فيما سبق هو الشرائع والأحكام لا كيفما كانت بل مشفوعة بذكر الوعد والوعيد. اهـ.
|