الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فصل:قال: الدرجة الثانية: أن تقرب من يقصيك وتكرم من يؤذيك وتعتذر إلى من يجني عليك سماحة لا كظما ومودة لا مصابرة هذه الدرجة أعلى مما قبلها وأصعب فإن الأولى: تتضمن ترك المقابلة والتغافل وهذه تتضمن الإحسان إلى من أساء إليك ومعاملته بضد ما عاملك به فيكون الإحسان والإساءة بينك وبينه خطتين فخطتك: الإحسان وخطته: الإساءة وفي مثلها قال القائل:
ومن أراد فهم هذه الدرجة كما ينبغي فلينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس يجدها هذه بعينها ولم يكن كمال هذه الدرجة لأحد سواه ثم للورثة منها بحسب سهامهم من التركة وما رأيت أحدا قط أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه وما رأيته يدعو على أحد منهم قط وكان يدعو لهم وجئت يوما مبشرا له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له فنهرني وتنكر لي واسترجع ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم وقال: إني لكم مكانه ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه ونحو هذا من الكلام فسروا به ودعوا له وعظموا هذه الحال منه فرحمه الله ورضى عنه وهذا مفهوم وأما الاعتذار إلى من يجني عليك فإنه غير مفهوم في بادي الرأي إذ لم يصدر منك جناية توجب اعتذارا وغايتك: أنك لا تؤاخذه فهل تعتذر إليه من ترك المؤاخذة ومعنى هذا: أنك تنزل نفسك منزلة الجاني لا المجني عليه والجاني خليق بالعذر والذي يشهدك هذا المشهد: أنك تعلم أنه إنما سلط عليك بذنب كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] فإذا علمت أنك بدأت بالجناية فانتقم الله منك على يده: كنت في الحقيقة أولى بالاعتذار والذي يهون عليك هذا كله: مشاهدة تلك المشاهد العشرة المتقدمة فعليك بها فإن فيها كنوز المعرفة والبر وقوله: سماحة لا كظما ومودة لا مصابرة يعني: اجعل هذه المعاملة منك صادرة عن سماحة وطيبة نفس وانشراح صدر لا عن كظم وضيق ومصابرة فإن ذلك دليل على أن هذا ليس في خلقك وإنما هو تكلف يوشك أن يزول ويظهر حكم الخلق صريحا فتفتضح وليس المقصود إلا إصلاح الباطن والسر والقلب وهذا الذي قاله الشيخ لا يمكن إلا بعد العبور على جسر المصابرة والكظم فإذا تمكن منه أفضى به إلى هذه المنزلة بعون الله والله أعلم.فصل:قال: الدرجة الثالثة: أن لا تتعلق في السير بدليل ولا تشوب إجابتك بعوض ولا تقف في شهودك على رسم هذه ثلاثة أمور اشتملت عليها هذه الدرجة أما عدم تعلقه في السير بدليل: فقد بين مراده به في آخر الباب إذ يقول:وفي علم الخصوص: من طلب نور الحقيقة على قدم الاستدلال لم يحل له دعوى الفتوة أبدا وهذا موضع عظيم يحتاج إلى تبيين وتقدير والمراد: أن السائر إلى الله يسير على قدم اليقين وطريق البصيرة والمشاهدة فوقوفه مع الدليل: دليل على أنه لم يشم رائحة اليقين والمراد بهذا: أن المعرفة عندهم ضرورية لا استدلالية وهذا هو الصواب ولهذا لم تدع الرسل قط الأمم إلى الإقرار بالصانع سبحانه وتعالى وإنما دعوهم إلى عبادته وتوحيده وخاطبوهم خطاب من لا شبهة عنده قط في الإقرار بالله تعالى ولا هو محتاج إلى الاستدلال عليه ولهذا: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10] وكيف يصح الاستدلال على مدلول هو أظهر من دليله حتى قال بعضهم: كيف أطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء فتقيد السائر بالدليل وتوقفه عليه دليل على عدم يقينه بل إنما يتقيد بالدليل الموصل له إلى المطلوب بعد معرفته به فإنه يحتاج بعد معرفته إلى دليل يوصله إليه ويدله على طريق الوصول إليه وهذا الدليل: هو الرسول فهو موقوف عليه يتقيد به لا يخطو خطوة إلا وراءه وأيضا فالقوم يشيرون إلى الكشف ومشاهدة الحقيقة وهذا لا يمكن طلبه بالدليل أصلا ولا يقال: ما الدليل على حصول هذا وإنما يحصل بالسلوك في منازل السير وقطعها منزلة منزلة حتى يصل إلى المطلوب فوصوله إليه بالسير لا بالاستدلال بخلاف وصول المستدل فإنه إنما يصل إلى العلم ومطلوب القوم وراءه والعلم منزلة من منازلهم كما سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى ولهذا يسمون أصحاب الاستدلال: أصحاب القال وأصحاب الكشف: أصحاب الحال والقوم عاملون على الكشف الذي يحصل بنور العيان لا على العلم الذي ينال بالاستدلال والبرهان وهذا موضع غلط واشتباه فإن الدليل في هذا المقام شرط وكذلك العلم وهو باب لابد من دخوله إلى المطلوب ولا يوصل إلى المطلوب إلا من بابه كما قال تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] ثم إنه يخاف على من لا يقف مع الدليل ما هو أعظم الأمور وأشدها خطرا وهو الانقطاع عن الطلب بالكلية والوصول إلى مجرد الخيال والمحال فمن خرج عن الدليل: ضل سواء السبيل فإن قيل: تعلقه في المسير بالدليل: يفرق عليه عزمه وقلبه فإن الدليل يفرق والمدلول يجمع فالسالك يقصد الجمعية على المدلول فماله ولتفرقة الدليل قيل: هذه هي البلية التي لأجلها أعرض من أعرض من السالكين عن العلم ونهى عنه وجعلت علة في الطريق ووقع هذا في زمن الشيوخ القدماء العارفين فأنكروه غاية الإنكار وتبرأوا منه ومن قائله وأوصوا بالعلم وأخبروا أن طريقهم مقيدة بالعلم لا يفلح فيها من لم يتقيد بالعلم والجنيد كان من أشد الناس مبالغة في الوصية بالعلم وحثا لأصحابه عليه والتفرق في الدليل خير من الجمعية على الوهم والخيال فإنه لا يعرف كون الجمعية حقا إلا بالدليل والعلم فالدليل والعلم ضروريان للصادق لا يستغنى عنهما نعم يقينه ونور بصيرته وكشفه: يغنيه عن كثير من الأدلة التي يتكلفها المتكلفون وأرباب القال فإنه مشغول عنها بما هو أهم منها وهو الغاية المطلوبة مثاله: أن المتكلم يفني زمانه في تقرير حدوث العالم وإثبات وجود الصانع وذلك أمر مفروغ منه عند السالك الصادق صاحب اليقين فالذي يطلبه هذا الاستدلال الذي هو عرضة الشبه والأسئلة والإيرادات التي لا نهاية لها هو كشف ويقين للسالك فتقيده في سلوكه بحال هذا المتكلم انقطاع وخروج عن الفتوة وهذا حق لا ينازع فيه عارف فترى المتكلم يبحث في الزمان والمكان والجواهر والأعراض والأكوان وهمته مقصورة عليها لا يعدوها ليصل منها إلى المكون وعبوديته والسالك قد جاوزها إلى جمع القلب على المكون وعبوديته بمقتضى أسمائه وصفاته لا يلتفت إلى غيره ولا يشتغل قلبه بسواه. فالمتكلم متفرق مشتغل في معرفة حقيقة الزمان والمكان والعارف قد شح بالزمان أن يذهب ضائعا في غير السير إلى رب الزمان والمكان وبالجملة: فصاحب هذه الدرجة لا يتعلق في سيره بدليل ولا يمكنه السير إلا خلف الدليل وكلاهما يجتمع في حقه فهو لا يفتقر إلى دليل على وجود المطلوب ولا يستغني طرفة عين عن دليل يوصله إلى المطلوب فسير الصادق على البصيرة واليقين والكشف لا على النظر والاستدلال وأما قوله: ولا تشوب إجابتك بعوض أي تكون إجابتك لداعي الحق خالصة إجابة محبة ورغبة وطلب للمحبوب ذاته غير مشوبة بطلب غيره من الحظوظ والأعواض فإنه متى حصل لك حصل لك كل عوض وكل حظ به وكل قسم كما في الأثر الإلهي: ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء فمن أعرض عن طلب ما سوى الله ولم يشب طلبه له بعوض بل كان حبا له وإرادة خالصة لوجهه فهو في الحقيقة الذي يفوز بالأعواض والأقسام والحظوظ كلها فإنه لما لم يجعلها غاية طلبه توفرت عليه في حصولها وهو محمود مشكور مقرب ولو كانت هي مطلوبة لنقصت عليه بحسب اشتغاله بطلبها وإرادتها عن طلب الرب تعالى لذاته وإرادته فهذا قلبه ممتليء بها والحاصل له منها: نزر يسير والعارف ليس قلبه متعلقا بها وقد حصلت له كلها فالزهد فيها لا يفيتكها بل هو عين حصولها والزهد في الله هو الذي يفيتكه ويفيتك الحظوظ وإذا كان لك أربعة عبيد أحدهم:يريدك ولا يريد منك بل إرادته مقصورة عليك وعلى مرضاتك والثاني: يريد منك ولا يريدك بل إرادته مقصورة على حظوظه منك والثالث: يريدك ويريد منك والرابع: لا يريدك ولا يريد منك بل هو متعلق القلب ببعض عبيدك فله يريد ومنه يريد فإن آثر العبيد عندك وأحبهم إليك وأقربهم منك منزلة والمخصوص من إكرامك وعطائك بما لا يناله العبيد الثلاثة: هو الأول هكذا نحن عندالله سواء وأما قوله: ولا تقف في شهودك على رسم فيعني: أن لا يكون منك نظر إلى السوي عند الشهود كما تقدم مرارا وهذا عند القوم غير مكتسب فإن الشهود إذا صح محا الرسوم ضرورة في نظر الشاهد فلا حاجة إلى أن يشرط عليه عدم الوقوف عليها والشهود الصحيح ماح لها بالذات لكن أوله قد لا يستغني عن الكسب ونهايته لا تقف على كسب قال: واعلم أن من أحوج عدوه إلى شفاعة ولم يخجل من المعذرة إليه: لم يشم رائحة الفتوة يعني أن العدو متى علم أنك متألم من جهة ما نالك من الأذى منه احتاج إلى أن يعتذر إليك ويشفع إليك شافعا يزيل ما في قلبك منه فالفتوة كل الفتوة: أن لا تحوجه إلى الشفاعة بأن لا يظهر له منك عتب ولا تغير عما كان له منك قبل معاداته ولا تطوي عنه بشرك ولا برك وإذا لم تخجل أنت من قيامه بين يديك مقام المعتذر لم يكن لك في الفتوة نصيب ولا تستعظم هذا الخلق فإن للفتيان ما هو أكبر منه ولا تستصعبه فإنه موجود في كثير من الشطار والعشراء الذين ليس لهم في حال المعرفة ولا في لسانها نصيب فأنت أيها العارف أولى به.قال: وفي علم الخصوص: من طلب نور الحقيقة على قدم الاستدلال: لم يحل له دعوى الفتوة أبدا كأنه يقول: إذا لم تحوج عدوك إلى العذر والشفاعة ولم تكلفه طلب الاستدلال على صحة عذره فكيف تحوج وليك وحبيبك إلى أن يقيم لك الدليل على التوحيد والمعرفة ولا تشير إليه حتى يقيم لك دليلا على وجوده ووحدانيته وقدرته ومشيئته فأين هذا من درجة الفتوة وهل هذا إلا خلاف الفتوة من كل وجه ولو أن رجلا دعاك إلى داره فقلت للرسول: لا آتي معك حتى تقيم لي الدليل على وجود من أرسلك وأنه مطاع وأنه أهل أن يغشى بابه لسكنت في دعوى الفتوة زنيما فكيف بمن وجوده ووحدانيته وقدرته وربوبيته وإلهيته: أظهر من كل دليل تطلبه فما من دليل يستدل به إلا ووحدانية الله وكماله أظهر منه فإقرار الفطر بالرب سبحانه خالق العالم: لم يوقفها عليه موقف ولم تحتج فيه إلى نظر واستدلال: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10] فأبعد الناس من درجة الفتوة: طالب الدليل على ذلك. اهـ. .تفسير الآيات (16- 17): قوله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)}..مناسبة الآيتين لما قبلهما: قال البقاعي:ولما استدلوا على معتقدهم، وعلموا سفه من خالفهم، وهم قوم لا يدان لهم بمقاومتهم، لكثرتهم وقلتهم، تسبب عن ذلك هجرتهم ليسلم لهم دينهم، فقال تعالى شارحًا لما بقي من أمرهم، عاطفًا على ما تقديره: وقالوا أو من شاء الله منهم حين خلصوا من قومهم نجيًا: لا ترجعوا إلى قومكم أبدًا ما داموا على ما هم عليه، هذا إن كان المراد قيامهم بين يدي دقيانوس، وإن كان المراد من القيام الانبعاث بالعزم الصادق لم يحتج إلى هذا التقدير: {وإذ} أي حين {اعتزلتموهم} أي قومكم {وما} أي واعتزلتم ما {يعبدون إلا الله} أي الذي له صفات الكمال، وهذا دليل على أنهم كانوا يشركون، ويجوز أن يكونوا سموا الانقياد كرهًا لمشيئته والخضوع بزعمهم لاقضيته عبادة {فأوا} أي بسبب هذا الاعتزال، وهذا دليل العامل في {إذ} {إلى الكهف} أي الغار الذي في الجبل {ينشر} أي يحيي ويبعث {لكم ربكم} الذي لم يزل يحسن إليكم {من رحمته} ما يكفيكم به من المهم من أمركم {ويهيئ لكم من أمركم} الذي من شأنه أن يهمكم {مرفقًا} ترتفقون به، وهو بكسر الميم وفتح الفاء في قراءة الجماعة، وبفتحها وكسر الفاء للنافع وابن عامر، وهذا الجزم من آثار الربط على قلوبهم بما علموا من قدرته على كل شيء، وحمايته من لاذ به ولجأ إليه وعبده وتوكل عليه، ففعلوا ذلك ففعل الله ما رجوه فيه، فجعل لهم أحسن مرفق بأن أنامهم ثم أقامهم بعد مضي قرون ومرور دهور، وهدى بهم ذلك الجيل الذي أقامهم فيه {وترى} لو رأيت كهفهم {الشمس إذا طلعت}.ولما كان حالهم خفيًا، وكذا حال انتقال الشمس عند من لم يراقبه، أدغم تاء التفاعل نافع وابن كثير وأبو عمرو، وأسقطها عاصم وحمزة والكسائي، فقال تعالى: {تزاور} أي تتمايل وتتحرف، ولعل قراءة ابن عامر ويعقوب تزور بوزن تحمر ناظرة إلى الحال عند نهاية الميل {عن كهفهم} بتقلص شعاعها بارتفاعها إلى أن تزول {ذات اليمين} إذا كنت مستقبلًا القبلة وأنت متوجه إليه أو مستقبلًا الشمس فيصيبهم من حرها ما يمنع عنهم التعفن ويمنع سقف الكهف شدة الحرارة المفسدة في بقية النهار {وإذا غربت} أي أخذت في الميل إلى الغروب {تقرضهم} أي تعدل في مسيرها عنهم {ذات الشمال} كذلك، لئلا يضرهم شدة الحرارة، ويصيبهم من منافعها مثل ما كان عند الطلوع، فلا يزال كهفهم رطبًا، ويأتيه من الهواء الطيب والنسيم الملائم ما يصونهم عن التعفن والفساد، فتحرر بذلك أن باب الغار مقابل لبنات نعش، وأن الجبل الذي هم فيه شمالي مكة المشرفة، ويجوز أن يكون المراد يمين من يخرج من الكهف وشماله، فلا يلزم ذلك، وقال الأصبهاني: قيل: إن باب ذلك كان مفتوحًا إلى جانب الشمال إذا طلعت الشمس عن يمين الكهف، وإذا غربت كانت على شماله.ومادة قرض وليس لها إلا هذا التركيب- تدور على القطع، ويلزمه الميل عن الشيء والعدول والازورار عنه، قرضت الشيء،- بالفتح- أقرضه- بالكسر: قطعته بالمقراض أو بغيره- لأنك إذا وصلت إليه فقد حاذيته فإذا قطعته تجاوزته فانحرفت عنه، والقرض: قول الشعر خاصة- لأنه لا شيء من الكلام يشبهه فهو مقطوع منه مائل عنه بما خص به من الميزان، وهل مررت بمكان كذا؟ فتقول: قرضته ذات اليمين ليلًا، أي كان عن يميني، والقرض: ما تعطيه من المال لتقضاه- لأنك قطعته من مالك، والقرض- بالكسر: لغة فيه عن الكسائي، والقرض: ما سلفت من إحسان أو إساءة- على التشبيه، والتقريض: المدح والذم- لأنه يميز الكلام فيه تمييزًا ظاهرًا، وهما يتقارضان كذا- كأن كلًا منهما مقرض لصاحبه وموف له على ما أقرضه، والمقارضة: المضاربة- لأن صاحب المال قطع من ماله، والعامل قطع من عمله حصة لهذا المال، قرض فلان الرباط- إذا مات، لأنه إذا انقطعت حياته انقطع كل رباط له في الدنيا، وجاء فلان وقد قرض رباطه- إذا جاء مجهودًا قد أشرف على الموت- كأنه أطلق عليه ذلك للمقاربة، والمقارضة: المشاتمة- لقطعها العرض وما بين المتشاتمين، والاقتراض: الاغتياب- من ذلك ومن القرض أيضًا، لأن من اغتاب اغتيب، وقرض- بالكسر- إذا زال من شيء إلى شيء- لأنه بوصل الثاني قطع الأول، وقرض- إذا مات، والمقارض: الزرع القليل- إما للإزالة على الضد من الكثير، أو تشبيه بمواضع الاستقاء في البئر القليلة الماء، فإن المقارض أيضًا المواضع التي يحتاج المستقي إلى أن يقرض منها الماء، أي يميح، أي يدخل الدلو في البئر فيملأها لقلة الماء- لأنها مواضع قطع الماء برفعه عن البئر والمقارض أيضًا: الجرار الكبار- كأنها لكبرها وقطعها كثيرًا من الماء هي التي قطعت دون الصغار، وما عليه قراض، أي ما يقرض عنه العيون فيستره لتعدل عنه العيون- لعدم نفوذها إلى جلده، والقرض في السير هو أن تعدل عن الشيء في مسيرك، فإذا عدلت عنه فقد قرضته، والمصدر القرض وأصله من القطع، وابن مقرض- كمنبر: ويبة تقتل الحمام- كأنها سميت لقطعها حياة الحمام، وقرض البعير جرته: مضغها فهي قريض- لتقطيعها بالمضغ ولقطعها من بطنه بردها إلى حنكه للمضغ.ولما بين تعالى أنه حفظهم من حر الشمس، بين أنه أنعشهم بروح الهواء، وألطفهم بسعة الموضع في فضاء الغار فقال: {وهم في فجوة منه} أي في وسط الكهف ومتسعه.ولما شرح هذا الأمر الغريب، والنبأ العجيب، وصل به نتيجته فقال تعالى: {ذلك} أي المذكور العظيم من هدايتهم، وما دبروا لأنفسهم، وما دبر لهم من هذا الغار المستقبل للنسيم الطيب المصون عن كل مؤذ، وما حقق به رجاءهم مما لا يقدر عليه سواه {من ءايات الله} أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء علمًا وقدرة، وإن كان إذا قيس إلى هذا القرآن القيم وغيره مما خصت به هذه الأمة كان يسيرًا.ولما كان انفرادهم بالهدى عن أهل ذلك القرن كلهم عجبًا، وصل به ما إذا تؤمل زال عجبه فقال تعالى: {من يهد} ولو أيسر هداية- بما دل عليه حذف الياء في الرسم {الله} أي الذي له الأمر كله بخلق الهداية في قلبه للنظر في آياته التي لا تعد والانتفاع بها {فهو} خاصة {المهتد} في أي زمان كان، فلن تجد له مضلًا مغويًا {ومن يضلل} إضلالًا ظاهريًا بما دل عليه الإظهار بإعمائه عن طريق الهدى، فهو لا غيره الضال {فلن تجد له} أصلًا من دونه، لأجل أن الله الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه أضله {وليًا مرشدًا} فتجده يرى الآيات بعينه، ويسمعها بأذنه، ويحسها بجميع حواسه، ولا يعلم أنها آيات فضلًا عن أن يتدبرها وينتفع بها، فالآية من الاحتباك: ذكر الاهتداء أولًا دليلًا على حذف الضلال ثاينًا، والمرشد ثانيًا دليلًا على حذف المضل أولًا. اهـ.
|