الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
.تفسير الآيات (19- 21): {وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)}قوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي ملكا وخلقا فكيف يجوز أن يشرك به ما هو عبده وخلقه. {وَمَنْ عِنْدَهُ} يعني الملائكة الذين ذكرتم أنهم بنات الله. {لا يَسْتَكْبِرُونَ} أي لا يأنفون {عَنْ عِبادَتِهِ} والتذلل له. {وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} أي يعيون، قاله قتادة. مأخوذ من الحسير وهو البعير المنقطع بالإعياء والتعب، يقال: حسر البعير يحسر حسورا أعيا وكل، واستحسر وتحسر مثله، وحسرته أنا حسرا يتعدى ولا يتعدى، وأحسرته أيضا فهو حسير.وقال ابن زيد: لا يملون. ابن عباس: لا يستنكفون.وقال أبو زيد: لا يكلون.وقيل: لا يفشلون، ذكره ابن الاعرابي، والمعنى واحد. {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} 20 أي يصلون ويذكرون الله وينزهونه دائما. {لا يَفْتُرُونَ} 20 أي لا يضعفون ولا يسأمون، يلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النفس. قال عبد الله بن الحرث سألت كعبا فقلت: أما لهم شغل عن التسبيح؟ أما يشغلهم عنه شي؟ فقال: من هذا؟ فقلت: من بني عبد المطلب، فضمني إليه وقال: يا ابن أخي هل يشغلك شيء عن النفس؟! إن التسبيح لهم بمنزلة النفس. وقد استدل بهذه الآية من قال: إن الملائكة أفضل من بني آدم. وقد تقدم والحمد لله. قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ} قال المفضل: مقصود هذا الاستفهام الجحد، أي لم يتخذوا آلهة تقدر على الأحياء.وقيل: {أَمِ} بمعنى {هل} أي هل أتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض يحيون الموتى. ولا تكون {أَمِ} هنا بمعنى بل، لان ذلك يوجب لهم إنشاء الموتى إلا أن تقدر {أم} مع الاستفهام فتكون {أم} المنقطعة فيصح المعنى، قاله المبرد.وقيل: {أَمِ} عطف على المعنى أي أفخلقنا السماء والأرض لعبا، أو هذا الذي أضافوه إلينا من عندنا فيكون لهم موضع شبهة؟ أو هل ما اتخذوه من الآلهة في الأرض يحيى الموتى فيكون موضع شبهة؟.وقيل: {لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ 10} [الأنبياء: 10] ثم عطف عليه بالمعاتبة، وعلى هذين التأويلين تكون {أم} متصلة. وقرأ الجمهور: {يُنْشِرُونَ} بضم الياء وكسر الشين من أنشر الله الميت فنشر أي أحياه فحيي. وقرأ الحسن: بفتح الياء، أي يحيون ولا يموتون..تفسير الآيات (22- 24): {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)}قوله تعالى: {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا} أي لو كان في السموات والأرضين آلهة غير الله معبودون لفسدتا. قال الكسائي وسيبويه: {إلا} بمعنى غير فلما جعلت إلا في موضع غير أعرب الاسم الذي بعدها بإعراب غير، كما قال:وحكى سيبويه: لو كان معنا رجل إلا زيد لهلكنا.وقال الفراء: {إِلَّا} هنا في موضع سوى، والمعنى: لو كان فيهما آلهة سوى الله لفسد أهلها.وقال غيره: أي لو كان فيهما إلهان لفسد التدبير، لان أحدهما إن أراد شيئا والآخر ضده كان أحدهما عاجزا: وقيل: معنى {لَفَسَدَتا} أي خربتا وهلك من فيهما بوقوع التنازع بالاختلاف الواقع بين الشركاء. {فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} نزه نفسه وأمر العباد أن ينزهوه عن أن يكون له شريك أو ولد. قوله تعالى: {لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} قاصمة للقدرية وغيرهم. قال ابن جريج المعنى. لا يسأله الخلق عن قضائه في خلقه وهو يسأل الخلق عن عملهم، لأنهم عبيد. بين بهذا أن من يسأل غدا عن أعماله كالمسيح والملائكة لا يصلح للإلهية.وقيل: لا يؤاخذ على أفعاله وهم يؤاخذون. وروي عن علي رضي عنه أن رجلا قال له يا أمير المؤمنين: أيحب ربنا أن يعصى؟ قال: أفيعصي ربنا قهرا؟ قال: أرأيت إن منعني. الهدى ومنحني الردى أأحسن إلي أم أساء؟ قال: إن منعك حقك فقد أساء، وإن منعك فضله فهو يؤتيه من يشاء. ثم تلا الآية: {لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ}. وعن ابن عباس قال: لما بعث الله عز وجل موسى وكلمه، وأنزل عليه التوراة، قال: اللهم إنك رب عظيم، لو شئت أن تطاع لاطعت، ولو شئت ألا تعصى ما عصيت، وأنت تحب أن تطاع وأنت في ذلك تعصى فكيف هذا يا رب؟ فأوحى الله إليه: إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون. قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} أعاد التعجب في اتخاذ الآلهة من دون الله مبالغة في التوبيخ، أي صفتهم كما تقدم في الإنشاء والأحياء، فتكون {أَمِ} بمعنى هل على ما تقدم، فليأتوا بالبرهان على ذلك.وقيل: الأول احتجاج من حيث المعقول، لأنه قال: {هُمْ يُنْشِرُونَ} ويحيون الموتى، هيهات! والثاني احتجاج بالمنقول، أي هاتوا برهانكم من هذه الجهة، ففي أي كتاب نزل هذا؟ في القرآن، أم في الكتب المنزلة على سائر الأنبياء؟ {هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ} بإخلاص التوحيد في القرآن {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} في التوراة والإنجيل، وما أنزل الله من الكتب، فانظروا هل في كتاب من هذه الكتب أن الله أمر باتخاذ آلهة سواه؟ فالشرائع لم تختلف فيما يتعلق بالتوحيد، وإنما اختلفت في الأوامر والنواهي.وقال قتادة: الإشارة إلى القرآن، المعنى: {هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ} بما يلزمهم من الحلال والحرام {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} من الأمم ممن نجا بالايمان وهلك بالشرك.وقيل: {ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ} بما لهم من الثواب على الايمان والعقاب على الكفر. {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} من الأمم السالفة فيما يفعل بهم في الدنيا، وما يفعل بهم في الآخرة.وقيل: معنى الكلام الوعيد والتهديد، أي افعلوا ما شئتم فعن قريب ينكشف الغطاء. وحكى أبو حاتم: أن يحيى بن يعمر وطلحة بن مصرف قرأ {هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} بالتنوين وكسر الميم، وزعم أنه لا وجه لهذا.وقال أبو إسحاق الزجاج في هذه القراءة: المعنى، هذا ذكر مما أنزل إلي ومما هو معي وذكر من قبلي.وقيل: ذكر كائن من قبلي، أي جئت بما جاءت به الأنبياء من قبلي. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ} وقرأ ابن محيص والحسن: {الحق} بالرفع بمعنى هو الحق وهذا هو الحق وعلى هذا يوقف على {لا يَعْلَمُونَ} ولا يوقف عليه على قراءة النصب. {فَهُمْ مُعْرِضُونَ} أي عن الحق وهو القرآن، فلا يتأملون حجة التوحيد. .تفسير الآية رقم (25): {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)}قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ} وقرأ حفص وحمزة والكسائي: {نُوحِي إِلَيْهِ} بالنون، لقوله: {أَرْسَلْنا}. {أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} أي قلنا للجميع لا إله إلا الله، فأدل العقل شاهدة أنه لا شريك له، والنقل عن جميع الأنبياء موجود، والدليل إما معقول وإما منقول.وقال قتادة: لم يرسل نبي إلا بالتوحيد، والشرائع مختلفة في التوراة والإنجيل والقرآن، وكل ذلك على الإخلاص والتوحيد..تفسير الآيات (26- 29): {وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)}قوله تعالى: {وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ} نزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله، وكانوا يعبدونهم طمعا في شفاعتهم لهم.وروى معمر عن قتادة قال قالت اليهود- قال معمر في روايته- أو طوائف من الناس: خاتن إلى الجن والملائكة من الجن، فقال الله عز وجل: {سُبْحانَهُ} تنزيها له. {بَلْ عِبادٌ} أي بل هم عباد {مُكْرَمُونَ} أي ليس كما زعم هؤلاء الكفار. ويجوز النصب عند الزجاج على معنى بل اتخذ عبادا مكرمين. وأجازه الفراء على أن يرده على ولد، أي بل لم نتخذهم ولدا، بل اتخذناهم عبادا مكرمين. والولد ها هنا للجمع، وقد يكون الواحد والجمع ولدا. ويجوز أن يكون لفظ الولد للجنس، كما يقال لفلان مال. {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} أي لا يقولون حتى يقول، ولا يتكلمون إلا بما يأمرهم. {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} أي بطاعته وأوامره. {يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أي يعلم ما عملوا وما هم عاملون، قال ابن عباس. وعنه أيضا: {ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} الآخرة {وَما خَلْفَهُمْ} الدنيا، ذكر الأول الثعلبي، والثاني القشيري. {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى} قال ابن عباس: هم أهل شهادة أن لا إله إلا الله.وقال مجاهد: هم كل من رضي الله عنه، والملائكة يشفعون غدا في الآخرة كما في صحيح مسلم وغيره، وفي الدنيا أيضا، فإنهم يستغفرون للمؤمنين ولمن في الأرض، كما نص عليه التنزيل على ما يأتي. {وَهُمْ} يعني الملائكة {مِنْ خَشْيَتِهِ} يعني من خوفه {مُشْفِقُونَ} أي خائفون لا يأمنون مكره.قوله تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ} قال قتادة والضحاك وغيرهما: عني بهذه الآية إبليس حيث أدعى الشركة، ودعا إلى عبادة نفسه وكان من الملائكة، ولم يقل أحد من الملائكة إني إله غيره.وقيل: الإشارة إلى جميع الملائكة، أي فذلك القائل {نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ}. وهذا دليل على أنهم وإن أكرموا بالعصمة فهم متعبدون، وليسوا مضطرين إلى العبادة كما ظنه بعض الجهال. وقد استدل ابن عباس بهذه الآية على أن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل أهل السماء. وقد تقدم في البقرة. {كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} أي كما جزينا هذا بالنار فكذلك نجزي الظالمين الواضعين الألوهية والعبادة في غير موضعهما..تفسير الآيات (30- 33): {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)}قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} 30 قراءة العامة {أَوَلَمْ 260} بالواو. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل بن عباد {ألم تر} بغير واو وكذلك هو في مصحف مكة. {أَوَلَمْ يَرَ 30} بمعنى يعلم. {الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً 30} قال الأخفش: {كانَتا} لأنهما صنفان، كما تقول العرب: هما لقاحان أسودان، وكما قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر: 41] قال أبو إسحاق: {كانَتا} لأنه يعبر عن السموات بلفظ الواحد بسماء، ولان السموات كانت سماء واحدة، وكذلك الأرضون. وقال: {رَتْقاً 30}ولم يقل رتقين، لأنه مصدر، والمعنى: كانتا ذواتي رتق. وقرأ الحسن: {رتقا} بفتح التاء. قال عيسى بن عمر: هو صواب وهي لغة. والرتق السد ضد الفتق، وقد رتقت الفتق أرتقه فارتتق أي التأم، ومنه الرتقاء للمنضمة الفرج. قال ابن عباس والحسن وعطاء والضحاك وقتادة: يعني أنها كانت شيئا واحدا ملتزقتين ففصل الله بينهما بالهواء. وكذلك قال كعب: خلق الله السموات والأرض بعضها على بعض ثم خلق ريحا بوسطها ففتحها بها، وجعل السموات سبعا والأرضين سبعا. وقول ثان قاله مجاهد والسدي وأبو صالح: كانت السموات مؤتلفة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سموات، وكذلك الأرضين كانت مرتتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبعا. وحكاه القتبي في عيون الاخبار له، عن إسماعيل بن أبي خالد في قول الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما 30} قال: كانت السماء مخلوقة وحدها والأرض مخلوقة وحدها، ففتق من هذه سبع سموات، ومن هذه سبع أرضين، خلق الأرض العليا فجعل سكانها الجن والانس، وشق فيها الأنهار وأنبت فيها الأثمار، وجعل فيها البحار وسماها رعاء، عرضها مسيرة خمسمائة عام، ثم خلق الثانية مثلها في العرض والغلظ وجعل فيها أقواما، أفواههم كأفواه الكلاب وأيديهم أيدي الناس، وآذانهم آذان البقر وشعورهم شعور الغنم، فإذا كان عند اقتراب الساعة ألقتهم الأرض إلى يأجوج ومأجوج، واسم تلك الأرض الدكماء، ثم خلق الأرض الثالثة غلظها مسيرة خمسمائة عام، ومنها هواء إلى الأرض.الرابعة خلق فيها ظلمة وعقارب لأهل النار مثل البغال السود، ولها أذناب مثل أذناب الخيل الطوال، يأكل بعضها بعضا فتسلط على بني آدم. ثم خلق الله الخامسة مثلها في الغلظ والطول والعرض فيها سلاسل وأغلال وقيود لأهل النار. ثم خلق الله الأرض السادسة واسمها ماد، فيها حجارة سود بهم، ومنها خلقت تربة آدم عليه السلام، تبعث تلك الحجارة يوم القيامة وكل حجر منها كالطود العظيم، وهي من كبريت تعلق في أعناق الكفار فتشتعل حتى تحرق وجوههم وأيديهم، فذلك قوله عز وجل: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ} [البقرة: 24] ثم خلق الله الأرض السابعة واسمها عربية وفيها جهنم، فيها بابان اسم الواحد سجين واسم الآخر الفلق، فأما سجين فهو مفتوح وإليه ينتهي كتاب الكفار، وعليه يعرض أصحاب المائدة وقوم فرعون، وأما الفلق فهو مغلق لا يفتح إلى يوم القيامة. وقد مضى في البقرة أنها سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة عام، وسيأتي له في آخر {الطلاق} زيادة بيان إن شاء الله تعالى. وقول ثالث قاله عكرمة وعطية وابن زيد وابن عباس أيضا فيما ذكر المهدوي: إن السموات كانت رتقا لا تمطر، والأرض كانت رتقا لا تنبت، ففتق السماء بالمطر، والأرض بالنبات، نظيره قوله عز وجل: {وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ. وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ} [الطارق: 11- 12]. واختار هذا القول الطبري،، لان بعده: {وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ 30}. قلت: وبه يقع الاعتبار مشاهدة ومعاينة، ولذلك أخبر بذلك في غير ما آية، ليدل على كمال قدرته، وعلى البعث والجزاء.وقيل:وفي قوله تعالى: {وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} 30 ثلاث تأويلات: أحدها: أنه خلق كل شيء من الماء، قاله قتادة.الثاني- حفظ حياة كل شيء بالماء.الثالث- وجعلنا من ماء الصلب كل شيء حي، قاله قطرب. {وَجَعَلْنا} بمعنى خلقنا.وروى أبو حاتم البستي في المسند الصحيح له من حديث أبي هريرة قال: قلت يا رسول الله! إذا رأيتك طابت نفسي، وقرت عيني، أنبئني عن كل شي، قال: «كل شيء خلق من الماء» الحديث، قال أبو حاتم قول أبي هريرة: أنبئني عن كل شي. أراد به عن كل شيء خلق من الماء والدليل على صحة هذا جواب المصطفى إياه حيث قال: «كل شيء خلق من الماء» وإن لم يكن مخلوقا. وهذا احتجاج آخر سوى ما تقدم من كون السموات والأرض رتقا.وقيل: الكل قد يذكر بمعنى البعض كقوله: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23]وقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25] والصحيح العموم، لقوله عليه السلام: {كل شيء خلق من الماء} والله أعلم. {أَفَلا يُؤْمِنُونَ} 30 أي أفلا يصدقون بما يشاهدون، وأن ذلك لم يكن بنفسه، بل لمكوّن كوّنه، ومدبر أوجده، ولا يجوز أن يكون ذلك المكون محدثا. قوله تعالى: {وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ} أي جبالا ثوابت. {أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} أي لئلا تميد بهم، ولا تتحرك ليتم القرار عليها، قاله الكوفيون.وقال البصريون: المعنى كراهية أن تميد. والميد التحرك والدوران. يقال: ماد رأسه، أي دار. ومضى في النحل مستوفي. {وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً} يعني في الرواسي، عن ابن عباس. والفجاج المسالك. والفج الطريق الواسع بين الجبلين.وقيل: وجعلنا في الأرض فجاجا أي مسالك، وهو اختيار الطبري، لقوله: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي يهتدون إلى السير في الأرض. {سُبُلًا} تفسير الفجاج، لان الفج قد يكون طريقا نافذا مسلوكا وقد لا يكون.وقيل: ليهتدوا بالاعتبار بها إلى دينهم. قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} أي محفوظا من أن يقع ويسقط على الأرض، دليله قوله تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج: 65].وقيل: محفوظا بالنجوم من الشياطين، قاله الفراء. دليله قوله تعالى: {وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ} [الحجر: 17].وقيل: محفوظا من الهدم والنقض، وعن أن يبلغه أحد بحيلة.وقيل: محفوظا فلا يحتاج إلى عماد.وقال مجاهد: مرفوعا.وقيل: محفوظا من الشرك والمعاصي. {وَهُمْ} يعني الكفار {عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ} قال مجاهد: يعني الشمس والقمر. وأضاف الآيات إلى السماء لأنها مجعولة فيها، وقد أضاف الآيات إلى نفسه في مواضع، لأنه الفاعل لها. بين أن المشركين غفلوا عن النظر في السموات وآياتها، من ليلها ونهارها، وشمسها وقمرها، وأفلاكها ورياحها وسحابها، وما فيها من قدرة الله تعالى، إذ لو نظروا واعتبروا لعلموا أن لها صانعا قادرا واحدا فيستحيل أن يكون له شريك.قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} ذكرهم نعمة أخرى: جعل لهم الليل ليسكنوا فيه، والنهار ليتصرفوا فيه لمعايشهم. {الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} أي وجعل الشمس آية النهار، والقمر آية الليل، لتعلم الشهور والسنون والحساب، كما تقدم في سبحان بيانه. {كُلٌّ} يعني من الشمس والقمر والنجوم والكواكب والليل والنهار {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أي يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء. قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: {وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً} ويقال للفرس الذي يمد يده في الجري سابح. وفية من النحو أنه لم يقل: يسبحن ولا تسبح، فمذهب سيبويه: أنه لما أخبر عنهن بفعل من يعقل وجعلهن في الطاعة بمنزلة من يعقل، أخبر عنهن بالواو والنون ونحوه قال الفراء. وقد تقدم هذا المعنى في يوسف.وقال الكسائي: إنما قال: {يَسْبَحُونَ} لأنه رأس آية، كما قال الله تعالى: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} [القمر: 44] ولم يقل منتصرون.وقيل: الجري للفلك فنسب إليها. والأصح أن السيارة تجري في الفلك، وهي سبعة أفلاك دون السموات المطبقة، التي هي مجال الملائكة وأسباب الملكوت، فالقمر في الفلك الأدنى، ثم عطارد، ثم الزهرة، ثم الشمس، ثم المريخ، ثم المشتري ثم زحل، والثامن فلك البروج، والتاسع الفلك الأعظم. والفلك واحد أفلاك النجوم. قال أبو عمرو: ويجوز أن يجمع على فعل مثل أسد وأسد وخشب وخشب. واصل الكلمة من الدوران، ومنه فلكة المغزل، لاستدارتها. ومنه قيل: فلك ثدي المرأة تفليكا، وتفلك استدار.وفي حديث ابن مسعود: تركت فرسي كأنه يدور في فلك. كأنه لدورانه شبهه بفلك السماء الذي تدور عليه النجوم. قال ابن زيد: الأفلاك مجاري النجوم والشمس والقمر. قال: وهي بين السماء والأرض.وقال قتادة: الفلك استدارة في السماء تدور بالنجوم مع ثبوت السماء.وقال مجاهد: الفلك كهيئة حديد الرحى وهو قطبها.وقال الضحاك: فلكها مجراها وسرعة مسيرها.وقيل: الفلك موج مكفوف ومجرى الشمس والقمر فيه، والله أعلم.
|