كتاب السلام والاستئذان وتشميت العاطس وما يتعلق بها
قال اللّه سبحانه وتعالى: {فإذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا على أنْفُسِكُم تحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61]
وقال تعالى: {وَإذَا حُيِّيْتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدُّوها}[النساء:86].
وقال تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتَّى تَسْتأنِسُوا وَتُسَلِّمُوا على أهْلِها}[النور:27]
وقال تعالى: {وَإذَا بَلَغَ الأطْفالُ مِنْكُمُ الحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كما اسْتَأذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:59].
وقال تعالى: {وَهَلْ أتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً، قالَ سَلامٌ} [الذاريات:24]
واعلم أن أصلَ السَّلامِ ثابتٌ بالكتاب والسُّنّة والإِجماع. وأما أفراد مسائله وفروعه فأكثرُ من أن تُحصر، وأنا أختصرُ مقاصدَه في أبواب يسيرة إن شاء اللّه تعالى، وبه التوفيق والهداية والإِصابة والرعاية.
بابُ فضلِ السَّلامِ والأمرِ بإفشائه
1/599 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما؛
أنَّ رجلاً سأل رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم: أيُّ الإِسلام خَيْرٌ؟ قال: "تُطْعِمُ الطَّعامَ، وَتَقْرأُ السَّلام على مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ"
.(1)
2/600 وروينا في صحيحيهما، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: "خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ على صُورَتِهِ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعاً، فَلَمَّا خَلَقَهُ قال: اذْهَبْ فَسَلِّمْ على أُولَئِكَ: نَفَرٍ مِنَ المَلائِكَةِ جُلُوسٍ فاسْتَمِعْ ما يُحَيُّونَكَ فإنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرّيَّتِكَ، فقال: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَقالُوا: السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهُ، فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللَّهِ".(2)
3/601 وروينا في صحيحيهما، عن البراء بن عازب رضي اللّه عنهما قال: أمرنا رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم بسبع: بعيادةِ المريض، واتِّباعِ الجنائز، وتشميتِ العاطسِ، ونصرِ الضعيفِ، وعوْنِ المظلومِ، وإفشاءِ السَّلامِ، وإبرارِ القَسَم. هذا لفظ إحدى روايات البخاري. (3)
4/602 وروينا في صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "لا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حتَّى تحابُّوا، أوْلا أدُلُّكُمْ على شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ".(4)
5/603 وروينا في مسند الدارمي وكتابي الترمذي وابن ماجه، وغيرها بالأسانيد الجيدة، عن عبد اللّه بن سلام رضي اللّه عنه قال: سمعتُ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: "يا أيُّهَا النَّاسُ أفْشُوا السَّلامَ، وأطْعِمُوا الطَّعامَ، وَصِلُوا الأرْحامَ وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيامٌ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلامٍ" قال الترمذي: حديث صحيح. (5)
6/604 وروينا في كتابي ابن ماجه وابن السني، عن أبي أُمامةَ رضي اللّه عنه قال: أمَرَنَا نبيُّنا صلى اللّه عليه وسلم أن نُفشيَ السَّلامَ. (6)
7/605 وروينا في موطأ الإِمام مالك رضي اللّه عنه، عن إسحاق بن عبد اللّه بن أبي طلحة،
أن الطُّفيلَ بن أُبيّ بن كعب أخبرَه أنه كان يأتي عبدَ اللّه بن عمر فيغدو معه إلى السوق، قال: فإذَا غدوْنا إلى السوق لم يمرّ بنا عبدُ اللّه على سَقَّاطٍ ولا صاحبِ بَيْعَةٍ ولا مِسكين ولا أحدٍ إلاَّ سلَّم عليه؛ قال الطُّفيلُ: فجئتُ عبدَ اللّه بن عمر يوماً، فاستتبعني إلى السوق، فقلتُ له: ما تصنعُ بالسوق وأنتَ لا تقفُ على البيْعِ ولا تسألُ عن السِّلعِ ولا تسومُ ولا تجلسُ في مجالس السوق؟ قال: وأقولُ اجلسْ بنا هاهنا نتحدّثْ، فقال لي ابن عمر: يا أبا بطن ـ وكان الطفيلُ ذا بطن ـ إنما نغدو من أجل السلام نُسَلِّم على مَن لقيناه
. (7)
8/606 وروينا في صحيح البخاري عنه، قال: وقال عمّار رضي اللّه عنه: ثلاثٌ من جَمعهنّ فقد جمعَ الإِيمانَ؛ الإِنصافُ من نفسك، وبذلُ السَّلام للعالم، والإِنفاقُ من الإِقتار.
(8)
وروينا هذا في غير البخاري مرفوعاً إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
قلت: قد جمعَ في هذه الكلمات الثلاث خيراتِ الآخرة والدنيا، فإنَّ الإِنصافَ يقتضي أن يؤدّي إلى اللّه تعالى جميع حقوقه وما أمره به، ويجتنب جميع ما نهاه عنه، وأن يؤدّي إلى الناس حقوقهم، ولا يطلب ما ليس له، وأن ينصف أيضاً نفسه فلا يوقعها في قبيح أصلاً. وأما بذلُ السلام للعالم فمعناه لجميع الناس، فيتضمن أن لا يتكبر على أحد، وأن لا يكون بينه وبين أحد جفاء يمتنع من السلام عليه بسببه. وأما الإِنفاق من الإقتار فيقتضي كمال الوثوق باللّه تعالى والتوكل عليه والشفقة على المسلمين إلى غير ذلك، نسأل اللّه تعالى الكريم التوفيق لجميعه.
بابُ كيفيّة السَّلام
اعلم أن الأفضل أن يقول المسلم: السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فيأتي بضمير الجمع وإن كان المسلَّم عليه واحداً، ويقولُ المجيب: وَعَلَيْكُمُ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَركاتُه، ويأتي بواو العطف في قوله: وعليكم.
وممّن نصّ على أن الأفضل في المبتدىء أن يقول "السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته" الإِمام أقضى القضاة أبو الحسن الماورديّ في كتابه "الحاوي" في كتاب السِّيَر، والإِمام أبو سعد المتولي من أصحابنا في كتاب "صلاة الجمعة" وغيرها.
1/607 ودليله ما رويناه في مسند الدارمي وسنن أبي داود والترمذي، عن عمران بن الحصين رضي اللّه عنهما قال: "جاء رجلٌ إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فقال: السلام عليكم، فردّ عليه ثم جلس، فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: عَشْرٌ، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة اللّه، فردّ عليه ثم جلس، فقال: عِشْرُونَ، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاتُه، فردّ عليه فجلس، فقال: "ثلاثُونَ". فقال الترمذي: حديث حسن.
وفي رواية لأبي داود، من رواية معاذ بن أنس رضي اللّه عنه، زيادة على هذا، قال: "ثم أتى آخر فقال: السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ومغفرته، فقال: أرْبَعُونَ، وقال: هَكَذَا تَكُونُ الفَضَائِلُ".(9)
2/608 وروينا في كتاب ابن السني، بإسناد ضعيف، عن أنس رضي اللّه عنه قال: كان رجلٌ يمرّ بالنبيّ صلى اللّه عليه وسلم يَرعى دوابّ أصحابه فيقول: السلام عليك يا رسول اللّه! فيقول له النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: "وَعَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ وَرِضْوَانُهُ"، فقيل: يا رسول اللّه! تُسَلِّم على هذا سلاماً ما تُسلِّمه على أحدٍ من أصحابك؟ قال: "وَمَا يَمْنَعُنِي مِنْ ذلكَ وَهُوَ يَنْصَرِفُ بأجْرِ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً؟".(10)
قال أصحابنا: فإن قال المبتدىء: السلام عليكم، حصل السَّلامُ، وإن قال: السلام عليكَ، أو سلام عليكَ، حصل أيضاً. وأما الجواب فأقلّه: وعليكَ السلام، أو وعليكم السلام، فإن حذف الواو فقال: عليكم السَّلام أجزأه ذلك وكان جواباً، هذا هو المذهب الصحيح المشهور الذي نصّ عليه إمامنا الشافعي رحمه اللّه في "الأُم" وقال به جمهور من أصحابنا. وجزم أبو سعد المتولّي من أصحابنا في كتابه "التتمة" بأنه لا يجزئه ولا يكون جواباً، وهذا ضعيف أو غلط، وهو مخالفٌ للكتاب والسنّة ونصّ إمامنا الشافعي.
أما الكتاب فقال اللّه تعالى: {قالُوا سَلاماً، قالَ سَلامٌ} [هود:69] وهذا وإن كان شرعاً لِما قَبْلنا فقد جاء شرعنا بتقريره، وهو حديث أبي هريرة الذي قدَّمناه (11) في جواب الملائكة آدم صلى اللّه عليه وسلم، فإن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم أخبرنا "أن اللّه تعالى قال: هي تحيتك وتحية ذرّيتك" وهذه الأمة داخلة في ذرّيته، واللّه أعلم.
واتفق أصحابنا على أنه لو قال في الجواب: عليكم لم يكن جواباً، فلو قال: وعليكم بالواو فهل يكون جواباً؟ فيه وجهان لأصحابنا؛ ولو قال المبتدىء: سلام عليكم، أو قال: السلام عليكم، فللمُجيب أن يقول في الصورتين: سلام عليكم، وله أن يقول: السلام عليكم، قال اللّه تعالى: {قالُوا سَلاماً، قالَ سَلامٌ} قال الإِمام أبو الحسن الواحديّ من أصحابنا: أنت في تعريف السلام وتنكيره بالخيار؛ قلت: ولكن الألف واللام أولى.
فصل:
3/609 روينا في صحيح البخاري، عن أنس رضي اللّه عنه، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم؛ أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تُفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلَّم عليهم سلَّمَ عليهم ثلاثاً. (12)
قلت: وهذا الحديث محمولٌ على ما إذا كان الجمعُ كثيراً، وسيأتي بيان هذه المسألة وكلام الماوردي صاحب الحاوي فيها إن شاء اللّه تعالى.
فصل: وأقل السَّلام الذي يصير به مؤدّياً سنّة السلام أن يرفع صوته بحيث يُسمع المسلَّم عليه، فإن لم يُسْمعه لم يكن آتياً بالسلام، فلا يجب الردّ عليه. وأقلّ ما يسقط به فرض ردّ السلام أن يرفع صوتَه بحيث يسمعه المسلِّم، فإن لم يسمعه لم يسقط عنه فرض الردّ، ذكرهما المتولي وغيره.
قلت: والمستحبّ أن يرفع صوته رفعاً يسمعه به المسلَّم عليه أو عليهم سماعاً محققاً، وإذا تشكك في أنه يسمعهم زاد في رفعه، واحتاط واستظهر، أما إذا سلَّم على أيقاظ عندهم نيام، فالسنّة أن يخفضَ صوتَه بحيث يَحصل سماعُ الأيقاظ ولا يستيقظ النيام.
4/610 روينا في صحيح مسلم، في حديث المقداد رضي اللّه عنه الطويل، قال: كنّا نرفع للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم نَصيبه من اللبن، فيجيء من الليل فيسلّم تسليماً لا يُوقظ نائماً ويُسمِع اليقظانَ، وجعل لا يجيئني النوم، وأما صاحباي فناما، فجاء النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فسلَّم كما كان يُسلِّم. واللّه أعلم. (13)
فصل: قال الإِمام أبو محمد القاضي حسين، والإِمام أبو الحسن الواحدي وغيرهما من أصحابنا: ويُشترط أن يكون الجواب على الفور، فإن أخَّرَه ثم ردّ لم يعدّ جواباً، وكان آثماً بترك الردّ.
بابُ ما جاء في كَراهةِ الإِشارة بالسَّلام باليد ونحوها بلا لفظ
1/611 روينا في كتاب الترمذي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا، لا تَشَبَّهُوا باليَهُودِ وَ لا بالنَّصَارَى، فإنَّ تَسْلِيمَ اليَهُودِ الإِشارَةُ بالأصَابِعِ، وَتَسْلِيمَ النَّصَارَى الإِشارَةُ بالكَفّ" قال الترمذي: إسناده ضعيف. (14)
2/612 قلت: وأما الحديث الذي رويناه في كتاب الترمذي عن أسماءَ بنت يزيد: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرّ في المسجد يوماً، وعُصبَة من النساء قُعود، فأشار بيده بالتسليم. قال الترمذي: حديث حسن، فهذا محمول على أنه صلى اللّه عليه وسلم جمع بين اللفظ والإِشارة، يدلّ على هذا أن أبا داود روى هذا الحديث، وقال في روايته: فسلَّمَ علينا. (15)
بابُ حُكْمِ السَّلاَم
اعلم أن ابتداء السَّلامِ سنَّةٌ مستحبّة ليس بواجب، وهو سنّةٌ على الكفاية، فإن كان المسلِّم جماعة كفى عنهم تسليمُ واحد منهم، ولو سلَّموا كلُّهم كان أفضل. قال الإِمام القاضي حسين من أئمة أصحابنا في كتاب "السير" من تعليقه: ليس لنا سنّة على الكفاية إلا هذا. قلت: وهذا الذي قاله القاضي من الحصر يُنكر عليه، فإن أصحابنا رحمهم اللّه قالوا: تشميتُ العاطسِ سنّةٌ على الكفاية كما سيأتي بيانه قريباً إن شاء اللّه تعالى. وقال جماعة من أصحابنا بل كلهم: الأُضحية سنّةٌ على الكفاية في حقّ كل أهل بيت، فإذا ضحَّى واحد منهم حصل الشِّعار والسنّة لجميعهم. وأما ردّ السلام، فإن كان المسلَّم عليه واحداً تعيَّنَ عليه الردّ، وإن كانوا جماعةً كان ردّ السلام فرضُ كفايةٍ عليهم، فإن ردّ واحد منهم سقطَ الحرج عن الباقين، وإن تركوه كلُّهم أثموا كلُّهم، وإن ردّوا كلُّهم فهو النهاية في الكمال والفضيلة، وكذا قاله أصحابنا، وهو ظاهر حسن. واتفق أصحابنا على أنه لو ردّ غيرُهم لم يسقط الردّ عنهم، بل يجب عليهم أن يردّوا، فإن اقتصروا على ردّ ذلك الأجنبيّ أثموا.
1/613 روينا في سنن أبي داود، عن عليّ رضي اللّه عنه، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: "يُجْزِىءُ عَنِ الجَماعَةِ إذَا مَرُّوا أنْ يُسَلِّمَ أحَدُهُمْ، ويُجْزِىءُ عَنِ الجُلُوسِ أنْ يَرُدَّ أحَدُهُمْ"(16).(أبو داود (5210) وهو حديث حسن، رجاله رجال الصحيح. الفتوحات الربانية 5/305) ".(أبو داود (5210) وهو حديث حسن، رجاله رجال الصحيح. الفتوحات الربانية 5/305) ".(أبو داود (5210) وهو حديث حسن، رجاله رجال الصحيح. الفتوحات الربانية 5/305) ".(أبو داود (5210) وهو حديث حسن، رجاله رجال الصحيح. الفتوحات الربانية 5/305)".(أبو داود (5210) وهو حديث حسن، رجاله رجال الصحيح. الفتوحات الربانية 5/305)
2/614 وروينا في الموطأ، عن زيد بن أسلم أن رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "إذَا سَلَّمَ وَاحِدٌ مِنَ القَوْمِ أَجْزَأ عَنْهُمْ" قلت: هذا مرسل صحيح الإِسناد. (17)
فصل: قال الإِمام أبو سعد المتولي وغيره: إذا نادى إنسان إنساناً من خلف ستر أو حائط فقال: السلام عليك يا فلان! أو كتب كتاباً فيه: السلام عليك يا فلان، أو السلام على فلان، أو أرسل رسولاً وقال: سلّم على فلان، فبلغه الكتاب أو الرسول، وجب عليه أن يردّ السلام؛ وكذا ذكر الواحدي وغيره أيضاً أنه يجب على المكتوب إليه ردّ السلام إذا بلغه السلام.
3/615 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: قال لي رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم "هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرأُ عَلَيْكِ السَّلامَ" قالت: قلتُ: وعليه السلام ورحمة اللّه وبركاته. هكذا وقع في بعض روايات الصحيحين "وبركاته" ولم يقع في بعضها، وزيادة الثقة مقبولة، ووقع في كتاب الترمذي "وبركاته" وقال: حديث حسن صحيح، ويُستحبّ أن يرسلَ بالسلام إلى مَن غاب عنه. (18)
فصل: إذا بعث إنسان مع إنسان سلاماً، فقال الرسول: فلان يسلّم عليك، فقد قدّمنا أنه يجب عليه أن يردّ على الفور، ويستحبّ أن يردّ على المبلِّغ أيضاً، فيقول: وعليك وعليه السلام.
4/616 وروينا في سنن أبي داود، عن غالب القطان، عن رجل قال: حدّثني أبي عن جدي قال:
بعثني أبي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: ائته فأقرئه السلام، فأتيته فقلت: إن أبي يُقرئك السلام، فقال: "عَلَيْكَ السَّلامُ وَعلى أبِيكَ السَّلامُ"
(19) ، وإسناده ضعيف لوجود مجاهيل فيه.)قلت: وهذا وإن كان رواية عن مجهول، فقد قدّمنا أن أحاديثَ الفضائل يُتسامح فيها عند أهل العلم كلهم.
فصل: قال المتولي: إذا سلم على أصمّ لا يسمع فينبغي أن يتلفظ بلفظ السلام لقدرته عليه، ويشير باليد حتى يحصل الإِفهام ويستحقّ الجواب، فلو لم يجمع بينهما لا يستحقّ الجواب. قال: وكذا لو سلّم عليه أصمّ وأراد الرد فيتلفظ باللسان ويشير بالجواب ليحصل به الإِفهام ويسقط عنه فرض الجواب. قال: ولو سلّم على أخرس فأشار الأخرس باليد سقط عنه الفرض لأن إشارته قائمة مقام العبارة، وكذا لو سلَّم عليه أخرسُ بالإِشارة يستحقّ الجواب كما ذكرنا.
فصل: قال المتولي: لو سلَّم على صبيّ لا يجب عليه الجواب، لأن الصبيّ ليس من أهل الفرض، وهذا الذي قاله صحيح، لكن الأدب والمستحبّ له الجواب. قال القاضي حسين وصاحبه المتولّي: ولو سلَّم الصبي على بالغ، فهل يجب عليه الرد؟ فيه وجهان ينبنيان على صحة إسلامه، إن قلنا يصحّ إسلامُه كان سلامُه كسلام البالغ فيجب جوابُه. وإن قلنا لا يصحّ إسلامه لم يجب ردّ السلام لكن يُستحبّ. قلت: الصحيح من الوجهين وجوب ردّ السلام لقول اللّه تعالى: {وَإِذَا حُيِّيْتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدُّوها} [النساء 86] وأما قولهما إنه مبنيّ على إسلامه، فقال الشاشي: هذا بناء فاسد، وهو كما قال واللّه أعلم. ولو سلم بالغ على جماعة فيهم صبيّ فردّ الصبيّ ولم يردّ منهم غيرُه، فهل يسقط عنهم؟ فيه وجهان: أصحُّهما ـ وبه قال القاضي حسين وصاحبه المتولي ـ لا يسقط لأنه ليس أهلاً للفرض، والردّ فرض فلم يسقط به كما لا يسقط به الفرض في الصلاة على الجنازة. والثاني هو قول أبي بكر الشاشي، صاحب المستظهري، من أصحابنا أنه يسقط، كما يصحّ أذانه للرجال ويسقط عنهم طلب الأذان. قلت: وأما الصلاة على الجنازة فقد اختلف أصحابُنا في سقوط فرضها بصلاة الصبيّ على وجهين مشهورين: الصحيحُ منهما عند الأصحاب أنه يسقط، ونصّ عليه الشافعي، واللّه أعلم.
فصل: إذا سلّم عليه إنسان ثم لقيه على قرب يُسنّ له أن يُسلِّم عليه ثانياً وثالثاً وأكثر، اتفق عليه صحابنا، ويدل عليه:
5/617 ما رويناه في صحيحي البخاري ومسلم، عن أبي هُريرة رضي اللّه عنه في حديث المسيء صلاته؛ أنه جاء فصلَّى، ثم جاء إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فسلَّم عليه، فردّ عليه السلام، وقال: "ارْجِعْ فَصَلّ فإنَّكَ لَمْ تُصَلّ" فرجعَ فَصلَّى، ثم جاء فسلَّم على النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، حتى فعلَ ذلك ثلاثَ مرّاتٍ. (20)
6/618 وروينا في سنن أبي داود، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "إِذَا لَقِيَ أحَدُكُمْ أخاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فإنْ حالَتْ بَيْنَهُما شَجَرَة أوْ جِدَارٌ أوْ حَجَرٌ ثُمَّ لَقِيَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ".(21)
7/619 وروينا في كتاب ابن السنيّ، عن أنس رضي اللّه عنه قال: كان أصحابُ رسولِ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتماشَون، فإذا استقبلتهم شجرة أو أكَمة فتفرّقوا يميناً وشمالاً ثم التقوا من ورائها، سلَّم بعضُهم على بعضٍ. (22)
فصل: إذا تلاقى رجلان فسلَّم كلُّ واحدٍ منهما على صاحبه دفعة واحدة أو أحدهما بعد الآخر، فقال القاضي حسين وصاحبه أبو سعد المتولّي: يَصير كلُّ واحد منهما مبتدئاً بالسلام فيجب على كلِّ واحد منهما أن يردَّ على صاحبهِ. وقال الشاشي: هذا فيه نظر. فإن هذا اللفظ يَصلح للجواب، فإذا كان أحدهما بعد الآخر كان جواباً، وإن كان دفعة لم يكن جواباً، وهذا الذي قاله الشاشي هو الصواب.
فصل: إذا لقي إساناً فقال المبتدىء "وعليكم السلام" قال المتولي: لا يكون ذلك سلاماً، فلا يستحقّ جواباً، لأنّ هذه الصيغة لا تصلح للابتداء. قلت: أما إذا قال: عليك، أو عليكم السلام، بغير واو، فقطع الإِمام أبو الحسن الواحدي بأنه سلام يتحتم على المخاطَب به الجواب، وإن كان قد قلب اللفظ المعتاد، وهذا الذي قاله الواحدي هو الظاهر. وقد جزم أيضاً إمام الحرمين به فيجب فيه الجواب لأنه يُسمَّى سلاماً، ويحتمل أن يُقال في كونه سلاماً وجهان كالوجهين لأصحابنا فيما إذا قال في تحلّله من الصلاة "عليكم السلام" هل يحصل به التحلّل أم لا؟ الأصحّ أنه يحصل، ويحتمل أن يُقال: إن هذا لا يستحق فيه جواباً بكل حال.
8/620 لما رويناه في سنن أبي داود والترمذي، وغيرهما بالأسانيد الصحيحة عن أبي جزي الهجيميّ الصحابي رضي اللّه عنه، واسمه جابر بن سليم, وقيل سليم بن جابر (23) قال: لقيتُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بعض سكك المدينة وعليه ثوب قِطْري وهو بكسر القاف وسكون المهملة، فقلت: عليك السلام يا رسول اللّه! فقال: عليك السلام تحيّة الموتى، قل السلام عليكم قالها مرّتين أو ثلاثاً قال الحافظ بعد تخريجه: حديث صحيح أخرجه النسائي) " ؛ ، قال: أتيتُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلت: عليك السلام يا رسول اللّه، قال: "لا تَقُلْ عَلَيْكَ السَّلامُ، فإنَّ عَلَيْك السَّلامُ تحِيَّةُ المَوْتَى" (24)
قلت: ويحتمل أن يكون هذا الحديث ورد في بيان الأحسن والأكمل، ولا يكون المراد أن هذا ليس بسلام، واللّه أعلم. وقد قال الإِمام أبو حامد الغزالي في الإِحياء: يكره أن يقول ابتداء "عليكم السلام" لهذا الحديث، والمختار أنه يُكره الابتداء بهذه الصيغة، فإن ابتدأ وجب الجواب لأنه سلام.
فصل: السنّة أن المسلِّم يبدأ بالسلام قبل كل كلام، والأحاديث الصحيحة وعمل سلف الأمة وخلفها على وفق ذلك مشهورة، فهذا هو المعتمد في دليل الفصل.
9/621 وأما الحديث الذي رويناه في كتاب الترمذي، عن جابر رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "السَّلامُ قَبْلَ الكَلامِ" فهو حديث ضعيف، قال الترمذي: هذا حديث منكر. (25)
فصل: الابتداء بالسلام أفضل لقوله صلى اللّه عليه وسلم في الحديث الصحيح: "وَخَيْرُهُما الَّذي يَبْدأُ بالسَّلامِ" (26)(البخاري (6077) ، ومسلم (2560) ) "(البخاري (6077) ، ومسلم (2560) ) "(البخاري (6077) ، ومسلم (2560) ) "(البخاري (6077) ، ومسلم (2560) )"(البخاري (6077) ، ومسلم (2560) ) . فينبغي لكل واحد من المتلاقين أن يحرص على أن يبتدىء بالسلام.
10/622 وروينا في سنن أبي داود، بإسناد جيد، عن أبي أُمامة رضي اللّه عنه قال:
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "إنَّ أوْلَى النَّاسِ باللَّهِ مَنْ بَدأَهُمْ بالسَّلامِ" وفي رواية الترمذي عن أبي أُمامة: قيل: يا رسول اللّه! الرجلان يلتقيان أيّهما يبدأ بالسلام؟ قال: "أوْلاهُما باللّه تعالى"
قال الترمذي: حديث حسن. (27)