فصل: فيما إذا عَطَسَ يهوديٌّ.
17/691 روينا في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما، بالأسانيد الصحيحة، عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه قال: كان اليهودُ يتعاطسُونَ عندَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يَرْجُون أن يقولَ لهم: يرحمُكُم اللَّهُ فيقولُ: "يَهديكُم اللَّهُ وَيُصْلِحُ بالَكُمْ": قال الترمذي: حديث حسن صحيح. (1)
فصل: روينا في مسند أبي يعلى الموصلي (2)، وهو حديث ضعيف، وأخرجه الطبراني والدارقطني في الأفراد، والبيهقي وقال: إنه منكر، وقال غيره: إنه باطل ولو كان سنده كالشمس
عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "مَنْ حَدَّثَ حَدِيثاً فَعَطَسَ عِنْدَهُ فَهُوَ حَقُّ"
كل إسناده ثقات مُتقنون إلا بقية بن الوليد فمختلف فيه، وأكثرُ الحفاظ والأئمة يحتجّون بروايته عن الشاميين، وقد روي هذا الحديث عن معاوية بن يحيى الشامي
فصل: إذا تثاءب فالسنّة أن يردّ ما استطاع للحديث الصحيح الذي قدّمناه. والسنّة أن يضع يده على فيه.
18/692 لما رويناه في صحيح مسلم، عن أبي سعيد الخدريّ رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "إذَا تَثاءَبَ أحَدُكُمْ فَلْيُمْسِكْ بِيَدِهِ على فَمِهِ، فإنَّ الشَّيْطانَ يَدْخُلُ".(3)
قلتُ: وسواء كان التثاؤب في الصلاة أو خارجها، يستحبّ وضعُ اليد على الفم، وإنما يكره للمصلّي وضعُ يده على فمه في الصلاة إذا لم تكن حاجة كالتثاؤب وشبهه، واللّه أعلم.
بابُ المَدْحِ
اعلم أنَّ مدح الإِنسان والثناءَ عليه بجميل صفاته قد يكون في وجه الممدوح، وقد يكون بغير حضوره، فأما الذي في غير حضورِه فلا منعَ منه إلا أن يُجازف المادحُ ويدخل في الكذب فيحرُم عليه بسبب الكذب لا لكونه مدحاً، ويُستحبُّ هذا المدح الذي لا كذبَ فيه إذا ترتب عليه مصلحةٌ ولم يجرّ إلى مفسدة بأن يبلغَ الممدوحَ فيفتتن به، أو غير ذلك. وأما المدحُ في وجه الممدوح فقد جاءت فيه أحاديث تقتضي إباحتَه أو استحبابه، وأحاديث تقتضي المنع منه. قال العلماء: وطريق الجمع بين الأحاديث أن يُقال: إن كان الممدوحُ عنده كمالُ إيمان وحسنُ يقين ورياضةُ نفس ومعرفةٌ تامة بحيث لا يفتتن ولا يغترّ بذلك ولا تلعبُ به نفسُه فليس بحرام ولا مكروه، وإن خيف عليه شيءٌ من هذه الأمور كُرِهَ مدحُه كراهةً شديدة.
فمن أحاديث المنع:
1/693 ما رويناه في صحيح مسلم عن المقداد رضي اللّه عنه؛ أن رجلاً جعلَ يمدحُ عثمانَ رضي اللّه عنه، فعمدَ المقدادُ فجثا على ركبتيه، فجعلَ يحثو في وجهه الحصباءَ، فقال له عثمانُ: ما شأنُك؟ فقال: إنَّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "إِذَا رأيْتُم المَدَّاحِينَ فاحْثُوا في وُجُوهِهِمْ التُّرابَ".(4)
2/694 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه قال: سمع النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم رجلاً يُثني على رجل ويُطريه في المِدْحَةِ، فقال: "أَهْلَكْتُمْ أوْ قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ".
قلتُ: قوله يُطْريه: بضم الياء وإسكان الطاء المهملة وكسر الراء وبعدها ياء مثناة تحت. والإِطراء: المبالغة في المدح ومجاوزة الحدّ، وقيل: هو المدح. (5)
3/695 وروينا في صحيحيهما، عن أبي بكرة رضي اللّه عنه؛ أن رجلاً ذُكِرَ عندَ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فأثنى عليه رجلٌ خيراً، فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: "وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ ـ يقوله مراراً ـ إنْ كانَ أحَدُكُمْ مادِحاً لاَ مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: أحْسِبُ كَذَا وكَذَا إنْ كانَ يَرَى أنَّهُ كَذَلِكَ وَحَسِيبُهُ اللَّهُ وَلا يُزَكِّي على اللَّهِ أحَداً".(6)
وأما أحاديث الإِباحة فكثيرةٌ لا تنحصر، ولكن نُشير إلى أطراف منها:
فمنها قوله صلى اللّه عليه وسلم في الحديث الصحيح لأبي بكر رضي اللّه عنه "ما ظَنُّكَ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثالِثُهُما؟" (7) وفي الحديث الآخر "لَسْتَ مِنْهُم (8) " أي لستَ من الذين يُسبلون أُزرَهم خيلاء. وفي الحديث الآخر "يا أبا بَكْرٍ! لا تَبْكِ، إنَّ أمَنَّ النَّاسِ عَليَّ في صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنتُ مُتَّخِذاً مِنْ أُمَّتِي خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أبا بَكْرٍ خَلِيلاً" (9) وفي الحديث الآخر "أرْجُو أنْ تَكُونَ مِنْهُم" (10)(البخاري (3666) ، ومسلم (1027) (86) "(البخاري (3666) ، ومسلم (1027) (86) أي من الذين يُدْعون من جميع أبواب الجنة لدخولها. وفي الحديث الآخر "ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بالجَنَّةِ" (11) وفي الحديث الآخر "اثْبُتْ أُحُدُ فإنَّمَا عَلَيْكَ نَبيٌّ وَصِدّيقٌ وَشَهِيدَانِ " (12) ".
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "دَخَلْتُ الجَنَّةَ فَرأيْتُ قَصْراً، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ قالُوا: لِعُمَرَ، فأرَدْتُ أنْ أدْخُلَهُ فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ" (13) فقال عمر رضي اللّه عنه: بأبي وأمي يا رسول اللّه! أعليك أغار؟. وفي الحديث الآخر "ياعُمَرُ! ما لَقِيَكَ الشَّيْطانُ سَالِكاً فَجَّاً إِلاَّ سَلَكَ فَجّاً غَيْرَ فَجِّكَ" (14) .
وفي الحديث الآخر "افْتَحْ لِعُثْمانَ وَبَشِّرْهُ بالجَنَّةِ" (15)
وفي الحديث الآخر قال لعليّ: "أنْتَ مِنِّي وأنا مِنْكَ" (16)
وفي الحديث الآخر قال لعليّ: "أما تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟" (17)
وفي الحديث الآخر قال لبلال "سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ في الجَنَّةِ" (18)
وفي الحديث الآخر قال لأُبيّ بن كعب "لِيَهْنَأْكَ العِلْمُ أبا المنْذِرِ" (19)(مسلم (810) ، وفيه: ليهنكَ وأبو داود (1460) "(مسلم (810) ، وفيه: "ليهنكَ" وأبو داود (1460)
وفي الحديث الآخر قال لعبد اللّه بن سَلاَم "أنْتَ على الإِسْلامِ حتَّى تَمُوتَ" (20)
وفي الحديث الآخر قال للأنصاري "ضَحِكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، أوْ عَجِبَ مِنْ فِعَالِكُما" (21)
وفي الحديث الآخر قال للأنصار "أنْتُمْ مِنْ أحَبّ النَّاس إِليَّ" (22)
وفي الحديث الآخر قال لأشجّ عبد القيس: "إنَّ فيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُما اللَّهُ تَعالى وَرَسُولُهُ: الحِلْمَ وَالأناة" (23)
وكلّ هذه الأحاديث التي أشرت إليها في الصحيح مشهورة، فلهذا لم أضفها، ونظائر ما ذكرناه من مدحه صلى اللّه عليه وسلم في الوجه كثيرة. وأما مدح الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء والأئمة الذين يُقتدى بهم رضي اللّه عنهم أجمعين فأكثر من أن تُحصر، واللّه أعلم.
قال أبو حامد الغزالي في آخر كتاب الزكاة من الإِحياء: إذا تصدق إنسان بصدقة فينبغي للآخذ منه أن يَنظر، فإن كان الدافعُ ممّن يُحِبّ الشكر عليها ونشرها فينبغي للآخذ أن يخفيَها لأن قضاء حقه أن لا ينصره على الظلم وطلبه الشكر ظلم، وإن علم من حاله أنه لا يُحِبّ الشكر ولا يقصده فينبغي أن يشكرَه ويظهر صدقته. وقال سفيان الثوري رحمه اللّه: مَن عرف نفسه لم يضرّه مدح الناس. قال أبو حامد الغزالي بعد أن ذكر ما سبق في أول الباب: فدقائق هذه المعاني ينبغي أن يلحظها من يُراعي قلبَه، فإن أعمالَ الجوارح مع إهمال هذه الدقائق ضحكة للشيطان وشماتة له، لكثرة التعب وقلة النفع، ومثل هذا العلم هو الذي يقال فيه: إن تعلم مسألة منه أفضل مِنْ عبادة سنة، إذ بهذا العلم تحيا عبادة العمر ، وبالجهل به تموت عبادة العمر كله وتتعطل، وباللّه التوفيق.
بابُ مدح الإِنسان نفسه وذكر محاسنه
قال اللّه تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أنْفُسَكُمْ} [النجم:32] اعلم أن ذكرَ محاسن نفسه ضربان: مذموم، ومحبوب، فالمذمومُ أن يذكرَه للافتخار وإظهار الارتفاع والتميّز على الأقران وشبه ذلك؛ والمحبوبُ أن يكونَ فيه مصلحة دينية، وذلك بأن يكون آمراً بمعروف أو ناهياً عن منكر أو ناصحاً أو مشيراً بمصلحة أو معلماً أو مؤدباً أو واعظاً أو مذكِّراً أو مُصلحاً بين اثنين أو يَدفعُ عن نفسه شرّاً أو نحو ذلك، فيذكر محاسنَه ناوياً بذلك أن يكون هذا أقربَ إلى قَبول قوله واعتماد ما يذكُره، أو أن هذا الكلام الذي أقوله لا تجدونه عند غيري فاحتفظوا به أو نحو ذلك، وقد جاء في هذا المعنى ما لا يحصى من النصوص كقول النبيّ صلى اللّه عليه وسلم "أنا النَّبِي لا كَذِبْ" "أنا سَيِّدُ وَلَد آدَم" "أنا أوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأرْضُ" :أنا أعْلَمُكُمْ باللَّهِ وأتْقاكُمْ" "إني أبِيتُ عنْدَ ربي" وأشباهه كثيرة، وقال يوسف صلى اللّه عليه وسلم: "{اجْعَلْني على خَزَائِنِ الأرْضِ إني حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] وقال شعيب صلى اللّه عليه وسلم: {سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص:27].
1/696 وقال عثمان رضي اللّه عنه حين حُصر ما رويناه في صحيح البخاري أنه قال: ألستم تعلمون أنَّ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "مَنْ جَهّزَ جَيْشَ العُسْرَةِ فَلَهُ الجَنَّةُ؟" فجهّزتهم، ألستم تعلمون أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "مَنْ حَفَرَ بِئرَ رُومَة فَلَهُ الجَنَّةُ" فحفرتها؟ فصدّقوه بما قاله. (24)
2/697 وروينا في صحيحيهما، عن سعد بن أبي وقاص رضي اللّه عنه أنه قال حين شكاه أهل الكوفة إلى عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه وقالوا: لا يُحسن يصلي، فقال سعد: واللّه إنّي لأول رجل من العرب رمى بسهم في سبيل اللّه تعالى، ولقد كنّا نغزو مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وذكر تمام الحديث. (25)
3/698 وروينا في صحيح مسلم، عن عليّ رضي اللّه عنه قال: والذي فلق الحبَّة وبرأَ النسمةَ، إنه لعهدُ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم إليّ "أنه لا يحبني إلا مؤمنٌ ولا يبغضني إلا منافق".(26)
قلتُ: بَرَأَ مهموز معناه خلق؛ والنسمة: النفس.
4/699 وروينا في صحيحيهما، عن أبي وائل قال: خطبنا ابنُ مسعود رضي اللّه عنه فقال: واللّه لقد أخذتُ من في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة، ولقد علمَ أصحابُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أني مِنْ أعلمهم بكتاب اللّه تعالى وما أنا بخيرهم، ولو أعلم أن أحداً أعلمُ منّي لرحلتُ إليه. (27)
5/700 وروينا في صحيح مسلم، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه سئل عن البدنة إذا أزحفت، فقال: على الخبير سقطتَ ـ يعني نفسَه ـ وذكر تمام الحديث. (28)
ونظائر هذا كثيرة لا تنحصر، وكلُّها محمولة على ما ذكرنا، وباللّه التوفيق.
بابٌ في مسائل تتعلَّق بما تقدَّم
مسألة: يُستحبّ إجابةُ مَن ناداك بلبّيك وسعديك أو لبّيك وحدها، ويُستحبّ أنْ يقول لمن ورد عليه مرحِّباً، وأن يقول لمن أحسن إليه أو رأى منه فعلاً جميلاً: حفظك اللّه وجزاك اللّه خيراً، وما أشبهه، ودلائل هذا من الحديث الصحيح كثيرة مشهورة.
مسألة: ولا بأس بقوله للرجل الجليل في علمه أو صلاحه أو نحو ذلك: جعلني اللّه فداكَ، أو فِداكَ أبي وأُمي وما أشبهه، ودلائل هذا من الحديث الصحيح كثيرة مشهورة حذفتها اختصاراً.
مسألة: إذا احتاجتْ المرأة إلى كلام غير المحارم في بيع أو شراء أو غير ذلك من المواضع التي يجوز لها كلامه فيها فينبغي أن تفخِّمَ عبارتَها وتغلظها (29) ولا تليِّنها مخافةً من طمعه فيها.
قال الإِمام أبو الحسن الواحدي من أصحابنا في كتابه "البسيط": قال أصحابنا: المرأة مندوبة إذا خاطبتِ الأجانبَ إلى الغِلْظة في المقالة، لأن ذلك أبعد من الطمع في الريبة، وكذلك إذا خاطبتْ مَحرماً عليها بالمصاهرة، ألا ترى أن اللّه تعالى أوصى أُمّهات المؤمنين وهنّ محرّمات على التأبيد بهذه الوصية، فقال تعالى: {يا نساءَ النَّبيّ لَسْتُنَّ كَأحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذي في قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] قلتُ: هذا الذي ذكره الواحدي من تغليظ صوتها، كذا قاله أصحابنا. قال الشيخ إبراهيم المروزي من أصحابنا: طريقُها في تغليظه أن تأخذ ظهرَ كفّها بفيها وتُجيب كذلك، واللّه أعلم. وهذا الذي ذكره الواحديُّ من أن المحرّم بالمصاهرة كالأجنبي في هذا ضعيف وخلاف المشهور عند أصحابنا؛ لأنه كالمَحرم بالقرابة في جواز النظر والخلوة. وأما أُمَّهاتُ المؤمنين فإنهنّ أُمّهاتٌ في تحريم نكاحهنّ ووجوب احترامهنّ فقط، ولهذا يحلّ نكاح بناتهنّ، واللّه أعلم.